لا بد من الإجهاز باكراً على القدرات التي ما زالت موجودة في يد رئيس الجمهورية وتعطيل مفعولها الدستوري من خلال الممارسة السياسية، على ما كان عليه الحال في العهود المظلمة بعد العام 1990.
فرئيس الجمهورية، بحسب ترويكا القوى الحاكمة والمتحكمة منذ الطائف حتى يومنا هذا، عليه فقط أن يمسك القلم، ويوقع.. هكذا بكل بساطة. ما قاله أركان قوى الطائف كان واضحاً إلى حد الوقاحة: ما على رئيس البلاد إلا أن يَخضع ويُذعِن، وتكون وظيفته التوقيع على ما تريده هذه الترويكا، الحاملة أساساً إرث تدمير لبنان بطوله وعرضه منذ أن أجبر عمر كرامي على الإستقالة في واحدة من أبشع عمليات التلاعب بسعر صرف الليرة اللبنانية في العام 1992. وإذا كان قلم التوقيع على عدد من المراسيم هو ما تبقى لرئاسة الجمهورية، فقد ثَبُتَ أنه لا يزال أداة فعالة، ولذا المطلوب نزعه منه كي تستقيم آليات تركيبة الطائف، التي قامت أساساً على تهميش موقع الرئاسة وتحييده تمهيداً لاستباحة تحالف الميليشيات والمال ما تبقى من هيكل الدولةَ، وتجويفِه.
وبعيداً من السجالات التي تهدف إلى التشويش على الهدف الحقيقي، بما فيها الأوراق الملونة، والأسماء والخطوط المرسومة تحتها، يكمن جوهر الصراع حالياً في أن قوى الطائف الثلاثية، تعتبر أن الفرصة مؤاتية لإعادة التمدد والتخلص من كابوسها المتمثل برئيس يؤدي دوره. وما يعزز قناعة قوى “دولة الطائف العميقة” أن ميشال عون يرفع قضية التدقيق الجنائي في من سرق المال العام وبالتالي إمكانية فضح المتعاقبين على الحكم منذ العام 1992، وهذا كافٍ لتكريس “الكابوس” العوني أمامها بعدما إعتادت رؤساء الجمهورية الذين عيّنتهم وأخضعتهم بمؤثرات المال والسلطة والقبضة السورية، التي ولشدة ترسخِ هذه الدولة العميقة، وظَّفتها لصالحها قبل أن يقطع حبل سُرَّتها صعودُ بشار الأسد لتسلم مقاليد السلطة في النظام الذي نسجته بإتقان أصابع حافظ الأسد.
وإذا كانت قوى الطائف لم تتحمل إميل لحود الذي تواجهت معه بمعارك قاسية وضارية على محاور الإصلاح والسياسات المالية والإقتصادية وبيع الدولة، وكيفية تطبيق الخصخصة – طبعاً في سياقات وأجواء مختلفة – فكيف لها أن تتحمل ميشال عون وهو الآتي على صهوة تأييد شعبي في البيئة المسيحية لم يسبق أن مُنحَ لزعيمٍ سواه؟
ليس المقصود هنا شخص الرئيس عون، طالما أن الهدف مزدوج: قلم التوقيع، وإسقاط التدقيق الجنائي. تصبح هنا مناقشة “المكاسب” التي يمكن أن يجنيها سمير جعجع وغيره أكثر من ضروية في مستقبل وطن ومجتمع، طالما أن أمثولة تسعينيات القرن الماضي لم تؤد إلى تعزيز “أرباحه” المتوهمة
للمواجهة المستعرّة خطورة موازية ومرتبطة بإستهداف “الرئاسة الفاعلة”. ذلك أن تداعيات انتفاضة 17 تشرين/ أكتوبر من إنفجار إجتماعي متقاطع مع عمل خارجي دؤوب منذ أعوام على “الأدوات” الجديدة للعمل في الساحة السياسية، تظهر مساراً من إعادة تشكيل للمشهد السياسي، تتوازى مع ضبابية في السياسات الأميركية الجديدة في المنطقة. وبالتالي، فإن إستمرار الأزمة يفتح آفاقاً متنوعة على إنضاج تسوية جديدة ترِثُ اتفاق الطائف، أو تزيد عليه، مع ما يستثيره ذلك من شهيات تفغرُ فاها للإستباحة، فضلاً عن إعادة تمدد منظومة “دولة الطائف العميقة”، وقبضها على مفاصل مال اللبنانيين واقتصادهم لثلاثين سنة قادمة وأكثر.
صورة التأزم الحالي تقود إلى طرح تساؤلات على طرفين معنيين بالمواجهة وتداعياتها، لا بل وجوب التحذير من دروس أليمة لا يبدو أن بعض القوى والمراكز المسيحية تحديداً، قد اتعظت منها.
لم يكن ليسقط ميشال عون في 13 تشرين الأول/ أكتوبر 1990، ومعه الدستور وسيادة الوطن والمال والإقتصاد الإنتاجي وغيرها من المرتكزات، لولا أن بكركي غَضّت النظر آنذاك، معتبرةً أن “الكابوس العوني” هو أسوأ ما يمكن أن يواجهه المسيحيون واللبنانيون. لكن ما تبين لاحقاً ودفع بالبطريرك المرحوم مار نصر الله بطرس صفير إلى رفع الصوت تدريجياً، هو أن ما قاومه ميشال عون، عاد لينشر الكابوس الفعلي بجناحين أسودين: إسقاط السيادة وضرب الإقتصاد. وفي إسقاطٍ على الحاضر، تصبح مساواة المقاوم للمنظومة مع قوى الطائف ولو من خلال نيات حسنة من منطلق الحرص على لبنان الذي أرادته البطريركية المارونية تاريخياً، حاملة لأضرار وطنية كبيرة، لا ينفع معها الندم لاحقاً.
في موازاة ذلك، تخوض القوات اللبنانية والكتائب ومعهما قوى وشخصيات مناطقية، معركة أخرى تزيد من إستهداف رئاسة الجمهورية. ليس المقصود هنا شخص الرئيس عون، طالما أن الهدف مزدوج: قلم التوقيع، وإسقاط التدقيق الجنائي. تصبح هنا مناقشة “المكاسب” التي يمكن أن يجنيها سمير جعجع وغيره أكثر من ضروية في مستقبل وطن ومجتمع، طالما أن أمثولة تسعينيات القرن الماضي لم تؤد إلى تعزيز “أرباحه” المتوهمة، بل أدت إلى إسقاطه بعد استنفاد وظيفته فحسب.
مرةً جديدة، وللمفارقة، يختصرُ ميشال عون بمعركته قضية مجتمع ووطن ونظام. توازن وشراكة، و”هز مسمار” الدولة العميقة التي بُنيت بعد الطائف، وإما ستعود المنظومة إلى سابق عهدها من الرخاء والقهقهة فوق ظهور اللبنانيين.