لقد ولدت دولة عربية كبرى فى الشرق
(Original Caption) 2/1/1958-Cairo, Egypt- Cheering crowds surround the car in which Egyptian President Gamel Abdel Nasser (R) and Syrian President Shukri al-Kuwatly ride to the presidency to sign the papers making final the merger of Egypt and Syria into a United Arab State. Yemen is also reportedly going to join the union, but by federation, not integration.

«لقد ولدت دولة كبرى في الشرق». كان ذلك توصيفاً استراتيجياً للجغرافيا السياسية الجديدة في المنطقة، أطلقه «جمال عبدالناصر» عقب إعلان دولة الوحدة المصرية السورية يوم (22) شباط/ فبراير (1958).

المشاعر تدفقت كطوفان والأحلام لامست السماء فى بناء دولة قوية وموحدة «تصون ولا تهدد. تحمى ولا تبدد. تصادق من يصادقها وتعادى من يعاديها».
لم يكن الوصول إلى هذا اليوم من أعمال المصادفات بقدر ما كان تعبيرا عن حقائق جديدة تتحرك، طموحات وصلت ذروتها، وصراعات تصاعدت فى المنطقة.
لا موضع ـ الآن ـ لحديث عن أية وحدة عربية وأقصى ما نتطلع إليه تجنب سيناريوهات التقسيم الماثلة فى سوريا وبلدان أخرى.
بين حلم الوحدة وكابوس التقسيم قصة طويلة وأليمة أهدرت فيها كل القضايا، وارتكبت كل الخطايا واستبيحت كل المحرمات.
بعد حرب السويس عام (١٩٥٦) وفشل إخضاع مصر وضعت خطة أطلق عليها «استراجل».
كانت تقضى بأن إسقاط سوريا يفضى مباشرة إلى عزل مصر وبعثرة العالم العربى.
كانت سوريا مهددة فى صميم وحدتها الداخلية ومكشوفة لتدخلات إقليمية ودولية، ومشروعات انقلابات عسكرية، أو غزو من الخارج، يقوده رئيس الوزراء العراقى «نورى السعيد»، الرجل الذى ارتبط أكثر من غيره بسياسة الأحلاف العسكرية فى المنطقة.

بدأ الزحف العظيم من المدن والقرى السورية لترى بالعين رئيس الجمهورية العربية المتحدة. تدفقت على دمشق كتل شعبية أخرى عبر الحدود العربية المجاورة ـ خاصة من لبنان. حملت الحشود المتدافعة سيارة «عبدالناصر» على الأكتاف فى مشهد تراجيدى تاريخى يكاد لا يصدق

بحكم موقعها الجغرافى لم يكن ممكنا لسوريا أن تنغلق على نفسها تحت أى ادعاء، أو أن يكون لها مستقبل خارج عالمها العربى بأية ذريعة.
كانت الوحدة المصرية ــ السورية خطوة متقدمة أكدت قدرة العالم العربى على ملء الفراغ بنفسه بعد انهيار الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية بأثر نتائج حرب السويس دون حاجة إلى أحلاف تخضع لحسابات استراتيجية أمريكية ضد مصالحه ومستقبله.
كما كانت تطويرا لنتائج حرب السويس، التى ألهمت حركات التحرر الوطنى فى العالم الثالث ـ كأن فوران غضب على الإرث الاستعمارى اندلع فيه.
فى ذلك اليوم الفريد تبدت حالة سياسية ووجدانية قد يساعد التوقف عندها على تلمس بعض ما يجرى الآن تحت السطح العربى الساكن، أو المشتعل بالنار، من خلجات نفوس وأحلام محبطة.
إنها أمة واحدة كاشفت نفسها فى لحظة أمل أنها تستطيع أن تصنع التاريخ وتبنى دولة منيعة قادرة على مواجهة التحديات والمخاطر، وأن تأخذ أحلامها إلى أرض الواقع.
بعد إعلان الوحدة كانت دمشق تنتظر وفدا مصريا رفيعا قادما إليها.
عندما هبطت الطائرة المصرية فى مطار دمشق كانت المفاجأة صاعقة، فالذى هبط منها هو «جمال عبدالناصر» نفسه دون إخطار مسبق.
بدأ الزحف العظيم من المدن والقرى السورية لترى بالعين رئيس الجمهورية العربية المتحدة.
تدفقت على دمشق كتل شعبية أخرى عبر الحدود العربية المجاورة ـ خاصة من لبنان.
حملت الحشود المتدافعة سيارة «عبدالناصر» على الأكتاف فى مشهد تراجيدى تاريخى يكاد لا يصدق.
سهرت حتى الفجر بالمشاعل أمام قصر الضيافة.
من وقت لآخر ينادونه بلا كلل: «طل علينا يا جمال».
فى فكرهم ووجدانهم تأميم قناة السويس وإحباط العدوان على مصر ومعارك التحرر الوطنى ومحاربة الأحلاف الاستعمارية وتنويع مصادر السلاح والانحياز إلى الحق الفلسطينى ومبادئ باندونج.
شيء آخر عميق ومتوارث دعاهم إلى استدعاء الأمل بالهمة.

عبد الناصر: “إن قوة سوريا قوة للأمة العربية وعزة سوريا عزة للمستقبل العربى والوحدة الوطنية فى سوريا دعامة للوحدة العربية وأسبابها الحقيقية»

المعانى أهم من الرجال، والقضايا الكبرى تلهم الناس العاديين أنهم يمكن أن يصنعوا تاريخهم بأنفسهم، وأن يوقفوا أى امتداد جديد لقرون من الإذلال والتهميش.
برغم الخطط والمؤامرات على الوحدة المصرية ــ السورية، وكلها ثابتة فى وثائق وشهادات واعترافات، إلا أنها سقطت من داخلها قبل أى فعل خارجى، وتسببت أخطاء جوهرية بصميم التجربة على تسهيل الانقلاب على الوحدة فى (28) أيلول/ سبتمبر (1961)، نفس اليوم الذى رحل فيه «عبدالناصر» بعد تسع سنوات.
على مدى عقود طويلة نشرت آلاف الدراسات عن الوحدة وأسباب الانفصال.
قالوا إن الوحدة «وهم ناصرى»، وأن مصر فرعونية، أو شرق أوسطية، أو أى شيء آخر غير أن تكون عربية، لكن الحقائق تغلب باستمرار.
فـ«مصر» ــ بالثقافة والهوية والجغرافيا والتاريخ ــ مشدودة إلى محيطها العربى، المصائر مشتركة، والقضايا واحدة وعندما تنكرت مصر لأدوارها جرى ما جرى لها من تهميش وتراجع فى المكانة.
بعد الانفصال بأسبوع، قال «عبدالناصر» فى خطاب بثته الإذاعة المصرية، كأنه يقرأ طالع أيام لم تأتِ بعد: «إن الوحدة الوطنية فى الوطن السورى تحتل المكانة الأولى.. إن قوة سوريا قوة للأمة العربية وعزة سوريا عزة للمستقبل العربى والوحدة الوطنية فى سوريا دعامة للوحدة العربية وأسبابها الحقيقية».
وكان مما قال: «ليس مهما أن تبقى الوحدة، المهم أن تبقى سوريا».
فى ذكرى الوحدة الأسئلة الكبرى تطرح نفسها: لماذا انكسر العالم العربى، وفقد ثقته فى نفسه ومستقبله، بعد أن حلقت أحلامه فى عنان السماء؟.. كيف وصلنا إلى الكابوس؟.. ثم إلى أين المصير؟

قوة مصر فى عالمها العربى والخروج منه يفضى إلى عزلتها وتقويض ثقتها فى نفسها، كما يفضى إلى إضعاف العالم العربى واستباحته

هناك مجموعتان من الإجابات.
الأولى، تدور حول الصراع على المنطقة ومستقبلها، فمشروع الوحدة موضوع صراع ضارٍ، وقد ناهضته قوى دولية وإقليمية ذهبت إلى استخدام السلاح والتآمر، وهذا ثابت بعشرات الوثائق.
والثانية، تعود إلى ثغرات جوهرية فى تجربة الوحدة المصرية ــ السورية، التى مكنت من الانقضاض عليها وتصفيتها بالانفصال بعد ثلاث سنوات ونصف السنة، وهذه خضعت لمراجعات عديدة، لكنها لم تستقر على أية رؤية تؤسس لتجارب أخرى أكثر نضجا وقدرة على البقاء حتى داهمتنا بعد عقود احتمالات تقسيم سوريا والعراق وليبيا واليمن ودول عربية أخرى تطلعت ذات يوم للوحدة بينها.
لم تكن تجربة الوحدة رحلة نيلية ذات صيف، بقدر ما كانت مواجهات مفتوحة امتدت بعمق الخريطة العربية، وقد ارتبطت بالتحرر من الاستعمار والتبعية واستقلال القرار الوطنى.
لم تخترع ثورة «يوليو» المشروع العروبى، لكنها جسدته أملا حيا على الأرض بسياسات تبنتها ومعارك خاضتها، نجحت وأخفقت، وعبرت فى الأحوال كلها عن حقيقة لا يمكن تجاهلها أن قوة مصر فى عالمها العربى والخروج منه يفضى إلى عزلتها وتقويض ثقتها فى نفسها، كما يفضى إلى إضعاف العالم العربى واستباحته.

إقرأ على موقع 180  بيرنز رئيساً لـ"سي أي آيه".. بلا "عصا سحرية"

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
عبدالله السناوي

كاتب عربي من مصر

Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
online free course
إقرأ على موقع 180  خالد خوجة... ثنائية المعارضة وانقلاب الولاءات