عملية فردان بلسان جاسوسة “الموساد”: “كان عرضاً تُرفع له القبعات” (29)

يتابع الكاتب رونين بيرغمان روايته عن عملية إغتيال القادة الفلسطينيين الثلاثة في شارع فردان في بيروت في نيسان/ أبريل 1973 والعمليات الأمنية "الإسرائيلية" التي رافقتها بهدف تشتيت الانتباه، في أماكن أخرى.

يقول رونين بيرغمان في كتابه “إنهض واقتل أولاً، التاريخ السري لعمليات الاغتيال الاسرائيلية”، إنه عندما وصلت آخر المجموعات المنسحبة إلى شاطىء منطقة السان سيمون، تبين أن أحد عملاء وحدة قيصرية كان جالسا في السيارة خلف المقود يتصبب عرقاً ويدخن سيجارة بأصابع مرتجفة وفي المقعد الخلفي، اثنان من رفاقه احدهما ميت بسبب نزفه كمية كبيرة من الدماء، والثاني في حالة حرجة جراء اصابته أثناء العملية. يقول قائد المجموعة ليبكين شاحاك: “عندما سألت سائق السيارة ماذا حصل ولماذا لم تنتظرنا او على الاقل لماذا لم تنتظر طبيب المجموعة لكي يعالج الجرحى؟ فأجاب بطريقة غير متوازنة أنه عندما بدأ إطلاق النار في بداية الغارة، فكر أن أياً منا لن يخرج حياً فقرر الإنسحاب والعودة الى الشاطىء”. ويضيف “لقد كان من الخطأ إشراك أناس لا خبرة قتالية لديهم في هكذا عملية، فهذا العميل رأى أننا في مشكلة، فوقع تحت تأثير الصدمة وقرر النجاة بنفسه”!

يقول بيرغمان ان الجنود المنسحبين ركبوا القوارب السريعة باتجاه المركب الكبير الذي كان ينتظرهم في عرض البحر. تولى احد الاطباء محاولة انقاذ حياة الجندي الجريح لكنه لم يفلح فتوفي الثاني، خلال اجراء عملية جراحية له على متن القارب، ففقد رفاقه أعصابهم، وبدأوا بالصراخ في وجه عميل وحدة قيصرية وحمّلوه مسؤولية موت إثنين من رفاقهم، فردّ على صراخهم بالصراخ، فقام أحد الجنود بصفعه بقوة، ما جعله يرد بلكم الجندي لينشب عراك بالايدي على متن القارب لم ينته إلا بعد أن تدخل جنود آخرون لفصلهما عن بعضهما البعض.

ومع بداية ضوء النهار، كان كل الجنود المشاركين في الإغارة قد أصبحوا في “إسرائيل”، وعندما وصل إيهود باراك إلى منزله، كانت زوجته “نافا” لا تزال نائمة، فوضع حقيبته أرضاً، واستلقى قربها بحذائه وكامل لباسه بعدما أنهكه التعب، وعندما إستيقظت قبله صباحاً، فوجئت به نائماً بجانبها، وعلى وجهه مساحيق التبرج (كان متنكراً بزي إمرأة خلال العملية) وأحمر الشفاه الفاقع يغطي شفتيه.

في بيروت، لم ينتبه أحد الى تلك السيدة النحيفة، “يائيل”، التي أتت الى مركز البريد في شارع مدام كوري في شارع الحمراء، لترسل الى الضابط المسؤول عنها رسالة اظهرت الصدمة التي كانت تحت وقعها جراء ما شاهدته من نافذة شقتها.

في جملة أُضيفت بالحبر السري غير المرئي، كتبت “يائيل”: “لقد كان عرضاً رائعاً بالأمس تُرفع له القبعات”

تقول الرسالة: “عزيزي إميل، ما زلت من الليلة الفائتة أرتجف، فجأة في منتصف الليل إستيقظت على أصوات إنفجارات قوية. فأصبت بنوبة ذعر. الإسرائيليون يهاجمون المنطقة. كان أمراً مرعباً. في الصباح، بدا كأن الأمر كان حلماً سيئاً، ولكن في الحقيقة لم يكن كذلك، لقد كان هؤلاء الإسرائيليون المرعبون بالفعل هنا. للمرة الأولى، صرت أرى لماذا يوجد هذا الكم من الكراهية لليهود في هذا البلد. فعلاً إن هذه المنطقة السكنية رائعة ومسالمة وسكانها طيبون”.

اضافت “يائيل” في الرسالة انها تريد رؤيته (إميل) وانها بحاجة الى فترة نقاهة لتهدئة أعصابها بعد ما رأته. وفي جملة أُضيفت بالحبر السري غير المرئي، كتبت “يائيل”: “لقد كان عرضاً رائعاً بالأمس تُرفع له القبعات”.

وحتى لا تلفت “يائيل” الأنظار إلى دورها في العملية، بقيت في بيروت لأسبوع برغم المخاطر الناجمة عن بقائها ربطاً بالتدابير الأمنية الصارمة التي أعقبت العملية، وينقل بيرغمان عن “يائيل” قولها “ما أن إرتفعت عجلات الطائرة عن ارض مدرج مطار بيروت، حتى إسترخيت في مقعدي، وعندما حطّت الطائرة في مطار هيثرو في لندن، إرتخت ذراعيّ ولم أستطع النهوض من مقعدي، فقد إحتجت لثوان إضافية قبل أن أستطيع مغادرة الطائرة”.

ويقول رونين بيرغمان إن عملية “ربيع الشباب” (اسم عملية اغتيال القادة الفلسطينيين الثلاثة) حققت كل أهدافها “بنجاح باهر”، ويعدّد تلك الأهداف: قتل ثلاثة من كبار قادة منظمة التحرير الفلسطينية إلى جانب خمسين عنصراً من المنظمة، وقد نجا صلاح خلف (أبو أياد) قائد “منظمة أيلول الأسود” من القتل بالصدفة في تلك الليلة، لانه كان قد غادر قبل وقت قليل، من بدء الغارة، احدى الشقق المستهدفة حيث كان غالباً ما يمضي أمسياته فيها، وتم تدمير أربعة أبنية (لم يذكر الكاتب مكان تلك الأبنية) كانت تستخدم لتصنيع السلاح وتخزينه كما تم الإستحواذ على عدد كبير جداً من الوثائق في شقة كمال عدوان وهذه بحد ذاتها اعتبرها الفلسطينيون كارثة، لأنها زوّدت جهاز “الشين بيت” بتفاصيل دقيقة عن خلايا منظمة التحرير في الأراضي المحتلة وأدت إلى إعتقال عدد من الناشطين فيها ما أدى الى تدمير شبكات حركة فتح هناك.

بعد ساعات قليلة من عودة الجنود من عملية “ربيع الشباب”، سافر “هراري” و”مائيري” وخمسة عملاء آخرين الى العاصمة اليونانية أثينا لقتل زياد مونشاسي بزرع عبوة ناسفة تحت سريره في احد الفنادق

ويتابع الكاتب ان مردود العملية حرف الإنتباه عن السلوك غير المحترف لعميلي “الموساد” اللذين توليا قيادة السيارات، وكلاهما من عناصر النخبة في وحدة “قيصرية” التي يقودها “هراري”، كما لم ينتبه أحد إلى حقيقة أنهما منعا وصول العناية الطبية لرجلين ماتا متأثرين بجروحهما، وكان يمكن لسلوكهما أن يؤدي إلى كارثة أكبر.

يقول بيرغمان إنه بفضل عملية “ربيع الشباب” باتت أسطورة ان “الموساد” يستطيع ان يضرب في اي مكان واي زمان “تحفر عميقا في الوعي العربي”، يضيف ان العملية لم تنه مسلسل عمليات القتل المتعمد التي اطلقها جهاز “الموساد” في اوروبا ضد الفلسطينيين، فخلال التحضير لهذه العملية كان القاتل المحترف في “الموساد” ناهيميا مائيري وعميل آخر في باريس ينتظران باسل الكبيسي، استاذ مادة القانون في احدى جامعات بيروت وهو ناشط من دون مسؤوليات في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ويطلقا عليه النار ويقتلاه.

إقرأ على موقع 180  بين جدّة وطهران.. نبرة عربية جديدة وإستقطاب أوراسي

ويتابع الكاتب، أنه بعد ساعات قليلة من عودة الجنود من عملية “ربيع الشباب”، سافر “هراري” و”مائيري” وخمسة عملاء آخرين الى العاصمة اليونانية أثينا لقتل زياد مونشاسي بزرع عبوة ناسفة تحت سريره في احد الفنادق، وكان مونشاسي قد عين للتو ممثلاً لحركة فتح في قبرص خلفا لحسين عباد الشير الذي قتل قبل ثلاثة اشهر بعبوة ناسفة زرعها عملاء “الموساد” ايضا في سريره في احد فنادق مدينة نيقوسيا القبرصية.

وفي العاشر من يونيو/ حزيران 1973 (بعد شهرين من عملية بيروت)، وصلت الى “الموساد” معلومات تفيد بان وديع حداد (القيادي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين) ارسل اثنين من رجاله الى روما لتنفيذ هجوم ضد مكاتب “شركة طيران العال الاسرائيلية” هناك. وكان مصدر المعلومة احد العملاء المزروعين “عميقاً” في منظمة حداد وكان “واعدا جدا”، ووصفه التقرير السنوي لجهاز “امان” الاستخباري بأنه “مصدر رائع وممتاز ولديه وصول حصري للمعلومات في تنظيم وديع حداد”. وكان وافق على التجسس مقابل المال وأُعطي اسماً حركياً هو “ايتزافون” وهي تعني في اللغة العبرية “التعاسة”. بعد وصول المعلومة، بدأ فريق من عملاء وحدة “الحربة” (وهي وحدة من القتلة المحترفين) بقيادة العميل “كارلوس” بملاحقة الرجلين اللذين كانا يتحركان في شوارع روما بسيارة مرسيدس تحمل لوحة تسجيل المانية. وفي ليلة 16-17 يونيو/ حزيران، زرع فريق “الحربة” عبوة ناسفة في اسفل السيارة، وفي الصباح عندما قاد احد الرجلين السيارة تبعته سيارة تابعة لـ”الموساد” يقودها “هراري” نفسه والى جانبه “كارلوس” حاملا جهاز التفجير عن بعد في علبة بحجم صندوق حذاء، ولكي تتم عملية التفجير، كان لا بد ان تبقى السيارة على مسافة معينة من العبوة، بعد عدة دقائق توقفت سيارة الفلسطيني لتقل الرجل الثاني المستهدف قبل ان تتحرك من جديد، وكان “كارلوس” على وشك ان يكبس زر التحكم عن بعد تماما عندما دخلت السيارة المستهدفة “ميدان باربيريني” حيث توجد “نافورة تريتون” الاثرية للنحات المشهور جيان لورنزو بيرنيني، فصرخ “هراري” برفيقه “لا، لا، توقف. انها لبرنيني لا تفجر”، ثم راح “هراري” الذي يعرف روما جيداً منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، يشرح لزميله اهمية المعلم الفنية. وبعد ثوان من مغادرة سيارة الفلسطينيين منطقة النافورة، كبس “كارلوس” على الزر فانفجر الجزء الامامي من السيارة وادى الى اصابة راكبيها باصابات بالغة توفي احدهما في المستشفى متأثرا بجراحه. وقد وجدت الشرطة الايطالية اسلحة في السيارة ففسرت الانفجار على انه “حادث عمل”، معتقدة ان الرجلين كانا ارهابيين يحملان عبوة في السيارة وانفجرت بهما جراء خطأ ما.

وارسل العميل “تعاسة” تقريرا عن نشاطات محمد بودية مسؤول عمليات الجبهة الشعبية في اوروبا، وكان بودية مزيجا متنوعا من الثوري الجزائري واللعوب البوهيمي ويعمل لكل من وديع حداد و”منظمة ايلول الاسود”، وكان المسرح الصغير الذي يديره في باريس “تياتر دي ليكويست” مجرد غطاء لخططه في الهجوم على “الاسرائيليين” واليهود. وبفضل تقارير العميل “تعاسة”، تمكن جهاز “الشين بيت” من احباط العديد من مخططاته قبل تنفيذها، وكان احد هذه المخططات يستهدف تفجير عبوات كبيرة من مادة “تي. ان. تي.” في سبعة فنادق كبرى في تل ابيب. وخلال يونيو/ حزيران عام 1973 ارسل العميل “تعاسة” تقريرا يفيد بان بودية يخطط لهجوم كبير (لم يذكر الكاتب شيئا عنه)، فقام فريق من عملاء وحدتي “الحربة” و”قوس قزح” (قتلة محترفين) مؤلفاً من ثلاثين عميلاً بملاحقته في طول باريس وعرضها قبل ان يحصلوا على فرصتهم عندما ركن سيارته وخرج منها في شارع “روي دي فوسيه سانت برنارد” في منطقة الحي اللاتيني، وعندما عاد إلى السيارة، وما أن أدار المحرك حتى إنفجرت عبوة ناسفة كانت مزروعة تحت مقعده، فقتل على الفور.

***

رد وتوضيح

عندما بدأ موقع 180 بوست بنشر فصول من كتاب “انهض واقتل اولا، التاريخ السري لعمليات الاغتيال الاسرائيلية”، للكاتب “الإسرائيلي” رونين بيرغمان، إنبرى البعض للسؤال عن الهدف من نشر رواية العدو الإسرائيلي لبعض فصول الحرب السرية والعلنية بين “إسرائيل” والعديد من التنظيمات الفلسطينية التي إنخرطت في الصراع مع العدو الإسرائيلي.

لهؤلاء الغيارى الصادقين، ولهم منا كل التقدير، يهمنا أن نوضح الآتي:

ترددنا كثيراً في موقع 180 بوست قبل اتخاذ القرار بنشر قراءة في كتاب الصحافي “الاسرائيلي” رونين بيرغمان. ولأننا نعتبر انفسنا جزءا لا يتجزأ من هذا الصراع، ونعتبر قضية فلسطين هي بوصلته، ولاننا بطبيعة الحال حريصون كل الحرص على فضح منطق العدو الصهيوني وسياسته العدوانية وممارساته الدموية حيال شعوبنا، كان قرارنا ان نمضي قدما في النشر وفق منطق “اعرف عدوك”، ولعل قيمة هذا الكتاب أنه يفضح بالوثائق الرسمية وبالمقابلات مع كبار المسؤولين الامنيين والعسكريين “الإسرائيليين”، دموية وعنصرية وحقد وغطرسة هذا الكيان، وليس تفصيلا ان يبرز الكتاب (750 صفحة)، ان خمسة على الاقل من رؤساء الوزراء كانوا قتلة محترفين يمارسون عمليات الاغتيال والقتل المتعمد، وذلك بشهادتهم هم أولاً. اننا في موقع 180 بوست نرحب بكل مساهمة فلسطينية أو لبنانية أو عربية للاضافة أو الإضاءة أو دحض اية واقعة في الكتاب المذكور.

(*) الحلقة 26: جولدا مائير تأمر بتصفية منفذي عملية ميونيخ “في أي كان”   

(*) الحلقة 27: عملية فردان.. الجاسوسة “يائيل” ترصد أنفاس القادة الفلسطينيين الثلاثة   

(*) الحلقة 28: باراك على رأس أكبر فرقة قتل في بيروت..ماذا حصل في فردان؟

Print Friendly, PDF & Email
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  إسرائيل تريد مواجهة إيران.. وأميركا معًا!