أرمينيا: أزمة سياسية بنكهة «إنقلابية»
Armenian Prime Minister Nikol Pashinyan gestures speaking to a crowd in the center of Yerevan, Armenia, Thursday, Feb. 25, 2021. Armenia's prime minister has spoken of an attempted military coup after facing the military's General Staff demand to step down. The developments come after months of protests sparked by the nation's defeat in the Nagorno-Karabakh conflict with Azerbaijan. (Hayk Baghdasaryan/PHOTOLURE via AP)

تطورت الأزمة السياسية في أرمينيا على نحو غير متوقع. قيادة أركان الجيش الأرمني فاجأت الجميع، بدخولها على خط الصراع الدائر بين نيكول باشينيان ومعارضيه، فخرجت ببيان صادم طالبت فيه رئيس الوزراء الأرمني بالاستقالة، ما أضفى مزيداً من التعقيد على المشهد المضطرب في الجمهورية السوفياتية السابقة، والذي ازداد غموضاً منذ الهزيمة المدوية للأرمن أمام الأذريين في حرب ناغورنو قره باخ في الخريف الماضي.

صحيح أن البيان العسكري الذي أجّج التوتر، بعد فترة استراحة قصيرة، كان سببه قيام باشينيان بإقالة نائب رئيس الأركان تيران خاتشاتريان، على خلفية انتقاده الصريح، لا بل سخريته من تصريح رئيس الوزراء بأن صواريخ «إسكندر» الروسية التي في حوزة الجيش الأرمني كانت رديئة الجودة، وأنها انفجرت بنسبة عشرة في المئة فقط، إلا أن رد فعل هيئة الأركان، بكامل أعضائها الذين يناهز عددهم الستة وثلاثين ضابطاً، لم يكن بالإمكان وضعه خارج سياق الأزمة السياسية المحتدمة.
بهذا المعنى، كان من الطبيعي أن يضفي البيان العسكري نكهة «انقلابية» على المشهد الأرمني، وهو ما حاول باشينيان استغلاله إلى أقصى درجة ممكنة، بحيث تحدث بالفعل عن «محاولة انقلابية»، مع التلميح إلى أن الحرس القديم في النظام الأرمني، الذي أطاحته «الثورة المخملية» في العام 2018، هو الذي يقف خلفها، وهو خطاب ربما يظنّه رئيس الوزراء الأرمني كافياً لاستمالة الشعب الأرمني الغاضب بالفعل من الهزيمة في الحرب أمام الأذريين، والمتوجس في الوقت ذاته من عودة «الفاسدين» من النظام السابق إلى الحكم مرة أخرى.
انطلاقاً مما سبق، كان إدراج البيان العسكري ضمن توصيف «المحاولة الانقلابية» كافيا لأن يتخذ باشينيان قراراً بإقالة رئيس الأركان أونيك غاسباريان (مع العلم بأن الإقالة تبقى مشروطة بتوقيع رئيس الدولة أرمين سركيسيان)، ودعوة أنصاره للاحتشاد في ساحة الجمهورية، الميدان الرئيسي في يريفان حيث يقع مقر الحكومة، من أجل «الدفاع عن الديموقراطية».
في الواقع، لم يكن باستطاعة باشينيان فعل ذلك، لولا أن بيان هيئة الأركان تجاوز واقعة إقالة تيران خاتشاتريان التي اتخذ القرار بشأنها «من دون مراعاة المصالح الوطنية» و«على أساس المشاعر الشخصية»، ولولا أنه لم ينفذ مباشرة الى جوهر الأزمة السياسية من خلال التشديد على أن رئيس الوزراء وحكومته «لم يعودا قادرين على اتخاذ القرارات المناسبة في هذه الأزمة والوضع المصيري للشعب الأرمني».

إنقسمت يريفان غداة البيان العسكري بين حشدين: حشدٌ في ساحة الجمهورية قاده باشينيان شخصياً لوأد «المحاولة الانقلابية»؛ وحشدٌ آخر في ساحة الحرية أكسبه البيان العسكري زخماً كبيراً، وهذا ما دفع الأمور إلى نقطة بات طرفا الأزمة السياسية معها بعيدين كل البعد عن فرص التسوية، ما يجعل إحتمالات التصعيد أكثر واقعية

علاوة على ما سبق، كان ملفتاً للانتباه أن البيان العسكري قد جاء في اليوم ذاته الذي دعت فيه المعارضة الأرمنية إلى العصيان المدني، وتطوير أسلوب حراكها، على نحو يحاكي تماماً أسلوب «الثورة المخملية» التي حملت باشينيان إلى الحكم، وذلك بعدما اعتبرت حركة «إنقاذ الوطن» برئاسة فازغين مانوكيان إن هناك طريقتين للإطاحة بالحكومة: إما أعمال عصيان غير محددة وتدمير «ركائز النظام»، بما يشمل ضرب ولاء قوات الأمن وسلبية بعض المواطنين؛ وإما «انتفاضة خاطفة» يجب الاستعداد لها في لحظة ما.
ضمن هذه الخلفية، جاءت دعوة حركة «إنقاذ الوطن» الى مناصريها للتجمع في ساحة الحرية ليس للتعبير عن دعمهم لهيئة الأركان العامة وحسب، بل تعبيراً عن تقاطع بين المعارضة والعسكر، حتى أن قوة سياسية أخرى، هي «حزب أرمينيا المزدهرة» وصفت البيان العسكري بأنه «نقطة تحول».
بذلك، انقسمت يريفان غداة البيان العسكري بين حشدين: حشدٌ في ساحة الجمهورية قاده باشينيان شخصياً لوأد «المحاولة الانقلابية»؛ وحشدٌ آخر في ساحة الحرية اكسبه البيان العسكري زخماً كبيراً.
هذا ما دفع الأمور إلى نقطة بات طرفا الأزمة السياسية معها بعيدين كل البعد عن فرص التسوية، ما يجعل احتمالات التصعيد أكثر واقعية، وذلك على نحو يتجاوز الآليات السياسية الطبيعية.
ومن الناحية الدستورية، لا تجد المعارضة الأرمنية إمكانية لعزل باشينيان إلا بخيار من اثنين: الخيار الأول، هو التصويت على حجب الثقة في مجلس النواب، وهو خيار غير مرجح، بالنظر الى أنه يحظى بدعم الغالبية البرلمانية التي حالت دون إقالته بعد هزيمة قره باخ؛ والخيار الثاني هو أن يقدم باشينيان على الاستقالة طوعاً، وهي خطوة لا يظهر الأخير أية إشارة الى أنه مستعدٌ لأن يخطوها، بدليل أنه لا يزال يحشد مؤيديه بنشاط، سواء ضمن القاعدة الجماهيرية لحزبه أو في أوساط الاوليغارشية ومراكز القوى الموالية له.
لعل ذلك، ما يعطي البيان الصادر عن الأركان العامة للقوات المسلحة الأرمينية أهمية مضاعفة، إذ سيكون بالإمكان النظر إليه باعتباره مؤشراً على استمرار عملية التعبئة في صفوف المعارضة، استعداداً لسيناريو مشابه لتجربة «الثورة المخملية»، وهو ما قد يدفع بالأزمة السياسية نحو خيارات أكثر تطرفاً.
ما يعزز هذه المخاطر هو أن فترة ما بعد الهزيمة في ناغورنو قره باخ دفعت بالانقسام داخل منظومة الحكم نفسها الى مستوى متقدم، حيث بات التوتر بين السلطة السياسية والنخبة العسكرية أكثر وضوحاً، وبدأت تداعياته تظهر بشكل متزايد على المستوى المجتمعي، بدليل أن البيان العسكري الأخير قد افرز تجمعين متضادين في يريفان، أحدهما مع باشينيان (السلطة السياسية) والثاني مع هيئة الأركان (النخبة العسكرية).
ثمة خيار ثالث، ربما يقود الى تسوية سياسية، ويتمثل في مبادرة يروج لها الرئيس ارمين سركيسيان لاجراء انتخابات مبكرة، وهذه المبادرة تمثل جوهر المفاوضات الخجولة التي تجري على نطاق ضيق وسط الأزمة. ومع ذلك، حتى لو ذهب الطرفان نحو حل من هذا القبيل، فإن التسوية ستكون مؤقتة، وقد تعيد إنتاج أزمة الحكم، مشابهة للأزمة السابقة لـ«الثورة المخملية» (فترة 2016-2017)، حين كان نمط الحكم يختزل بمعادلة «حكومة ضعيفة ومعارضة ضعيفة».

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  "حرّاس الدين"... هل سيكون "كبش فداء" اتفاق موسكو؟
وسام متى

صحافي لبناني متخصص في الشؤون الدولية

Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180   ناصر الصباح.. خسارة كويتية لنموذج إصلاحي