الكاظمي ينهي عامه الأول: تهدئة العراق من تهدئة الإقليم

أيامٌ قليلة ويُتمُ مصطفى الكاظمي، عامه الأوّل، رئيساً لوزراء العراق. قبل سنة كان همه الأول أن يثبّت أقدامه في نادي رؤساء الحكومات. اليوم، عينه على ولاية حكومية ثانية، سواء بإنتخابات مبكرة أو في موعدها الدستوري.

ثمة من يقول إنّ الأشهر الماضية من عمر تجربة مصطفى الكاظمي، ليست سوى “مقدمة” لولايةٍ “طبيعيّة” مكوّنة من أربعة أعوام (2021- 2025)، إن أجريت الانتخابات التشريعيّة المبكرة في موعدها ولم تؤجل حتى نيسان/ أبريل 2022؛ في المقابل، يرفض فريق الكاظمي – والمقربون منه – أي حديثٍ مماثل، مؤكّدين أن “همّ” الكاظمي محصورٌ باجتياز البلاد هذه المرحلة الصعبة والدقيقة، التي تمرّ بها إلى جانب المنطقة. بناءً على ذلك، ثمة من “يُفسّر” هذا الاجتياز بالقول إنّ مسارات الكاظمي مقسّمة إلى الآتي:

أوّلاً، مسارٌ إقتصادي (تجنيب البلاد أي انهيار، وجذب الاستثمارات والرساميل الخارجيّة).

ثانياً، مسارٌ أمنيٌّ – دبلوماسيٌّ (تفعيل لغة الحوار والدفع بالتهدئة، وتأمين مصالح الخصوم على طول خارطة الصراع).

ثالثاً، مسارٌ سياسيٌّ – انتخابيٌّ (الحفاظ على ما تبقى من مؤسسات الدولة وإدارة العملية السياسية بأقل الخسائر الممكنة، وإجراء الانتخابات التشريعيّة المبكرة في موعدها في 10 تشرين الأوّل/ أكتوبر المقبل).

وبمعزلٍ عن “الترقيم”، واعتبارها مساراتٍ متوازية، إلا أنّها في نظر كثيرين متداخلة بشكلٍ كبير، خاصّةً أنها تأتي تحت عباءة هدفٍ استراتيجي مرسوم من قِبل الرجل وفريقه: إستعادة دور العراق على الخارطة الإقليميّة والدولية، وتكريسه ساحة تلاقٍ لا ساحة اشتباكٍ وتصفية حسابات. مردّ هذا الهدف، إلى تخوّف الكاظمي، وفريقه، منذ عام، والتماسهم جديّة أن يكونوا “آخر حكّام عراق ما بعد 2003″، خاصّةً أن تسلّمه زمام قيادة البلاد جاء في لحظةٍ يواجه فيها العراق إنهياراً إقتصاديّاً ومالياً غير مسبوق، وتطلّبت إتخاذ قراراتٍ “قاسية”، لم تعجب كثيرين، لكنها – وبرغم ما أصابها من سهام من عارضها – أثبتت نجاعة في محاولة تفادي انهيار اقتصادي، سيقود تلقائيّاً إلى انهيارٍ سياسي – أمني، مع تصاعد منسوب التحذيرات القاضية باحتماليّة عودة تنظيم “داعش” إلى الساحة العراقية، وتنشيط خلاياه.

يعمل الرجل على “التهدئة”، بناءً على القاعدة التالية: ثمة تداخل بين أدوار الدول الإقليمية وأدواتها العراقيّة، وبين تثبيت الأمن الداخلي العراقي. بناءً عليه، ينطلق الكاظمي في تحصين داخله من خلال مساعي تقريب وجهات النظر والتهدئة في الإقليم

على خطٍّ موازِ، ثمة إجماعٌ إيرانيٌّ – خليجي بأن مصطفى الكاظمي “ليس بالشخص الجدلي”، بمعزلٍ عن اتهامات بعض القوى السياسية المحسوبة على طهران للكاظمي وفريقه وتحديداً لجهة كيل الإتهامات حول “أميركيته”، لا سيما في مواجهة إستحقاقات سياسية أبرزها موضوع الإنسحاب العسكري الأميركي من العراق.

هنا، لا بد من الإشارة إلى مقولة تسري في داخل الأروقة السياسية العراقيّة، مفادها أن “الخلافات السياسية والاتهامات المتبادلة، ولا سيما داخل البيت الشيعي، هي انعكاس لأزمة ثقة أولاً وإفتقاد رؤية سياسية موحدة ثانياً، وغياب “المايسترو” ثالثاً، من دون إغفال عنصر رابع لا يقل أهمية ويتصل بخلافات ماليّة، إزاء عقودٍ أو سمسرات أو..”.

بهذه الإطلالة البانورامية، يمكن تلخيص مشهد التجاذبات السياسية في بلاد الرافدين، مع قناعة اللاعبين المحليين أنهم عبارة عن مرآة لقواهم الخارجيّة. نستحضر سريعاً ما جرى خلال اليومين الماضيين؛ “محاولة انقلابية” في الأردن، ثم مسارعة معظم القوى المحسوبة على “البيت السني”، إلى تأكيد وقوفها إلى جانب الملك الهاشمي عبدالله الثاني وإجراءاته. اللافت للإنتباه كان التوصيف التالي: الأردن عمقنا الاستراتيجي؛ وهذه العبارة تحديداً تستخدمها قوى البيت الشيعي – في العلن أو في السر – في توصيف علاقتها مع طهران. وعليه، “قس” على ذلك!

وبالعودة إلى “لا جدلية” الكاظمي، فإن الرجل يسعى إلى استثمار هذه الصفة في محاولة ضبط “الاشتباك الكبير” القائم على الساحة العراقيّة. يعمل الرجل على “التهدئة”، بناءً على القاعدة التالية: ثمة تداخل بين أدوار الدول الإقليمية وأدواتها العراقيّة، وبين تثبيت الأمن الداخلي العراقي. بناءً عليه، ينطلق الكاظمي في تحصين داخله من خلال مساعي تقريب وجهات النظر والتهدئة في الإقليم. عملياً، هو جهدٌ مضاعف ومركب، وتحدٍّ أصعب من التحديات الداخلية الخاصة ببناء الدولة وتطوير مؤسساتها، خصوصاً أن المنطقة حالياً تنتظر نتائج الانتخابات الرئاسية الإيرانيّة في حزيران/ يونيو المقبل، وهوية الفريق الحاكم، ومقاربته للمشهد في المنطقة، إلى جانب مقاربة الرئيس الأميركي جو بايدن وفريقه للملف الشرق أوسطي، وآلية تعامهلم مع معضلات المنطقة ومنها العراق.

التقارب السعودي – العراقي، يعني رغبة مشتركةً بالتهدئة وفتح منافذ حوار مع إيران؛ فـ”هناك حوارات في الكواليس وغير معلنة، والعراق مبادر لهذه الحوارات التي تجري بشكل مباشر أحياناً أو غير مباشر وعلى أرض بغداد”

البعض “يتفاءل” بإمكانيّة تقاربٍ ما، أواخر العام الجاري، لكن – وفي المقابل – ثمة من يرجح كفّة “انسداد الأفق”، والعودة إلى المواجهة بعد “تهدئة” فُرضت على الجميع، على أن يكون العراق أبرز “ساحات” المواجهة والاشتباك، وهنا، سيدفع الكاظمي “الفاتورة الكبرى”.

إقرأ على موقع 180  أوباما في كتابه: راسلت خامنئي طلباً للحوار فأجابني لست مهتماً (1)

المتفائلون، في هذا السياق، يطرحون السؤال التالي: هل دول المنطقة بحاجة إلى دور عراقي للتهدئة؟ وفتح منافذ للحوار في ما بينها؟ أو إيجاد ثغرات في اختناقات المحاور؟ الإجابة واضحة – بالنسبة إليهم – نعم. بات ملموساً أن المنطقة، على اختلاف محاورها، لم تعد تستطيع مواصلة القتال. لا بد من ضبط الساحات بدل توسعتها. التعب هو الصفة “الأصدق” لحال المتناحرين، أما المُتعَبْ الأكبر فهو العراق. يضيف هؤلاء، أن الوقت الإقليمي الراهن نموذجي للتوصل إلى حلولٍ على قاعدة “لا رابح ولا خاسر”، ومن يريد أن ينتظر أكثر ربما تأتي التسويات على حسابه سواء في بغداد أو بيروت أو الرياض. في هذه المرحلة الإنتقالية، “دور العراق لا يمكن أن يكون إلا من خلال شخصية غير جدلية، كمصطفى الكاظمي”، يقول المقربون من رئيس وزراء العراق.

بناءً على ما تقدم، يمكن أن نفسّر جولات الكاظمي الأخيرة إلى السعودية ودولة الإمارات، وقريباً دولة قطر، إضافةً إلى قمة “الشام الجديد” التي ستضمه وقادة الأردن ومصر، فضلاً عن حواراته المتواصلة مع إدارة بايدن، لرسم معالم العلاقة الإستراتيجية مع الولايات المتحدة الأميركية، وحرصه على “التهدئة” مع طهران وأنقرة، وتطوير المصالح المشتركة مع هاتين الدولتين الإقليميتين الجارتين. كل ذلك، إضافةً إلى بعض “الأدوار الأمنيّة”، التي يتمسّك الكاظمي بإدارتها، وإحاطتها بسريّةٍ تامة؛ بعضها، وعلى أراضي بغداد، جمع عدداً من خصوم المنطقة، وبعضها الآخر جمع خصوماً على مستوى العالم!

واللافت للإنتباه في جولة الكاظمي الخليجية، هو مسعاه التالي: جذب الاستثمارات الماليّة والرساميل الخليجيّة وتشجيعها على الاستثمار في العراق، كمقدمةٍ لضمان الأمن العراقي. الأجواء إيجابيةً؛ الرياض وأبو ظبي ترغبان في توسيع الاستثمار الاقتصادي في العراق. هذا التوجه، يدعم “المعادلة” التالية: التقارب السعودي – العراقي، يعني رغبة مشتركةً بالتهدئة وفتح منافذ حوار مع إيران؛ فـ”هناك حوارات في الكواليس وغير معلنة، والعراق مبادر لهذه الحوارات التي تجري بشكل مباشر أحياناً أو غير مباشر وعلى أرض بغداد”. أضف إلى ذلك، يسعى الكاظمي إلى تحصين نفسه دستورياً، عن طريق تطبيق الدستور العراقي، وذلك بأن يكون العراق عنصر تلاق وتهدئة للمنطقة، وليس ساحة لتصفية حسابات أو خلافات دولها.

غياب الرجل (سليماني) أفقد طهران عنوان وركيزة إدارة توازناتها العراقية، وأفسح المجال أمام فوضى ومنافسات عبثية في ساحة يفترض أن تكون أساسية، بين الأميركيين والإيرانيين

أمام هذه المسحة من التفاؤل، وركيزتها الأولى تفهم طهران الكبير لدور مصطفى الكاظمي، يبرز سؤال حلفاء إيران في العراق، مع إستمرار إنقسامهم على أنفسهم، وعجزهم عن تبني موقفٍ واضحٍ وواحد تجاه الكاظمي. هؤلاء، باتوا مرآةً لصراع الأجنحة الإيرانيّة داخل الساحة العراقيّة. البعض يتحدث عن صراعٍ بين “قوة القدس” (الحرس الثوري) وبين وزارة الأمن القومي الإيراني” (إطلاعات)، في وقتٍ يذهب فيه آخرون إلى حد القول إن صراعاً داخل “القدس”، تترجمه بعض الفصائل والقوى، ويظهر عادةً على شكل “صواريخ” واستهدافاتٍ للأرتال العسكرية الأميركية. على سبيل المثال، ما جرى قبل أسبوعٍ في بغداد من استعراضٍ عسكري لإحدى مسميات “كتائب حزب الله – العراق”. قائد “القدس” إسماعيل قاآني، أبدى انزعاجه مما جرى، خاصّةً أن تحركاتٍ مماثلة تدفع بشكلٍ كبير إلى الاقتتال الشيعي – الشيعي. زعيم “التيّار الصدري” مقتدى الصدر، أعرب عن انزعاجه الشديد وكاد أن “يردّ” بطريقته، لولا تدخل رعاة “البيت الشيعي” الإقليميين.

هنا، ثمة سؤال يوجّه: أي طهران تحصّل مكاسب في بغداد؟ طهران الدولة أم طهران “الحرس”؟

الإجابة تكمن في عمق علاقة الكاظمي بـ”إطلاعات” (وزارة الأمن القومي الإيراني)، وهذا ما ترفضه “قوة القدس” (الحرس الثوري الإيراني)، على اعتبار أن دول مواجهة “الاستكبار” من حصتها، لا من حصة غيرها، وهي من تدير تلك الساحات. الثابت هنا، سيبقى، عن “آلية اتخاذ قاسم سليماني لقراراته” لو كان يواجه لحظةً مماثلة. غياب الرجل أفقد طهران عنوان وركيزة إدارة توازناتها العراقية، وأفسح المجال أمام فوضى ومنافسات عبثية في ساحة يفترض أن تكون أساسية، بين الأميركيين والإيرانيين، لا سيما إذا فتح الباب أمام تسوية حرب اليمن.

Print Friendly, PDF & Email
Avatar

كاتب عراقي

Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  إنكار العدالة: عام على حراك تشرين العراقي.. ماذا بعد؟