لم تختلف علاقة اللبنانيين الجنوبيين ببيروت على مدى المائة عام الماضية عمّا قاله الشاعر الراحل، وفي الوقت نفسه، لم يغلق البيارتة أبوابهم أمام الجنوبيين الآتين إلى مدينة الحُلم والطموح، وإلى حدود امتزجت فيها وحدة الحال والأحوال في مجالات التعليم والفن والسياسة والإجتماع والتجارة والثقافة والشعر والصحافة.
في كتابه البحثي القيّم بعنوان “عبد الكريم الخليل مشعل العرب الأول”، يقول يوسف خازم إن الثلاثي الفكري الجنوبي، الشيخ أحمد رضا وزميليه الشيخ سليمان ضاهر ومحمد جابر آل صفا، وهم من مدينة النبطية، كانوا من مؤسسي ورواد جمعية “المقاصد الإسلامية”، وهذه الجمعية أخذت على عاتقها إدارة “المدرسة الحميدية” بعد وفاة مؤسسها السيد حسن يوسف الحسيني (1906) وقد “اتخذت فيها مدرسة لتعليم الناشئة على طراز المدارس النظامية” كما يقول محمد جابر آل صفا (1870 ـ 1945) في كتاب “تاريخ جبل عامل”، ويؤكد آل صفا “أن النهضة الفكرية العاملية بدأت في سنة 1883، ففيها فُتحت في النبطية أول مدرسة أهلية على المناهج العصرية، وقد وضع أساسها وسهّل أسبابها الزعيم الوطني الخالد المغفور له رضا بك الصلح”، والد رياض الصلح أول رئيس وزراء بعد استقلال لبنان عام 1943.
عن رياض الصلح، يروي رائد الأدب الشعبي اللبناني سلام الراسي في كتابه “لئلا تضيع” فيقول “تحدث رياض الصلح يوماً عن الشيخ احمد رضا (1873 ـ 1953) فقال إنه من كواكب جبل عامل المتلألئة”، هنا يسأل سلام الراسي ويجيب “من يا ترى كانت سائر الكواكب المتلألئة في مخيلة رياض الصلح؟ لا شك أن صورة الشيخين سليمان ضاهر وأحمد عارف الزين، كانت ماثلة آنئذ في ذاكرته، لأن هؤلاء الرجال الثلاثة كانوا من رفاق جهاده”.
في السبعينيات، حين فاز نادي “النجمة الرياضي” على نادي “آرارات” بطل الإتحاد لسوفياتي في مباراة بكرة القدم في بيروت، أقام النادي احتفالاً تكريمياً لأعضائه حضره المفتي الشيخ حسن خالد والإمام السيد موسى الصدر والرئيس صائب سلام، وفي الإحتفال قال الصدر “نادي النجمة رفع راية لبنان عالياً في أشرف الميادين”
وأما رئيس الحكومة الراحل تقي الدين الصلح، فيستعرض في مقدمة كتاب “تاريخ جبل عامل” مآثر محمد جابر آل صفا ويقول “إن خوف أهالي جبل عامل على بلادهم من أن تعصف بها المطامع، كان من أهم بواعث اندفاعهم الحالي الملحوظ، إلى الإهتمام بإبراز شخصيتهم الإجتماعية والثقافية ودورهم وتاريخهم، ولست أغالي إذا قلت إن النبطية كانت بيتاً لنا كما كانت بيروت وكما كانت صيدا، وكان للنبطية منزلة عند كل عربي متنور ذي صلة بالنشاط الوطني والسياسي والثقافي المنتشر في أرجاء الجنوب، هذا الجنوب الذي عرفته الحركة العربية مع إشعاعها الأول ساحة رئيسية من ساحاتها، من شقرا إلى مرجعيون إلى الخيام إلى بنت جبيل إلى جباع”.
هذه المقدمة تستحضر على عجل وقائع “مؤتمر الساحل” الذي انعقد في 16 تشرين الثاني/نوفمبر 1933 في منزل الوجيه البيروتي سليم علي سلام (1868ـ 1938)، والد الزعيم الوطني صائب سلام، للتباحث في مصير لبنان واللبنانيين، وشارك من الجنوب الشيخ احمد عارف الزين صاحب مجلة “العرفان” والشيخ احمد رضا والشيخ سليمان ضاهر وعادل عسيران وآخرون من مناطق لبنانية عدة يورد أسماءهم المؤرخ البيروتي حسان حلاق في كتابه “مؤتمر الساحل والأقضية الأربعة”، وتكرّر الأمر نفسه في “مؤتمر الساحل” الثاني الذي التأم شمله في العاشر من آذار/مارس 1936، وحول ذلك يقول صائب سلام في سلسلة حوارات أجراها الزميل غسان شربل وأصدرها في كتاب بعنوان “دفاتر الرؤساء”:
“عُقد مؤتمران للساحل، وكنتُ أدوّن أنا وعلي ناصر الدين محاضر الجلسات، حضر رجالات الساحل من عبد الحميد كرامي إلى أهل صيدا والشيخ أحمد عارف الزين وشخصيات من النبطية منهم الشيخ أحمد رضا والشيخ سليمان ضاهر وشخصيات من مناطق أخرى”.
في تلك الفترة أيضا، سطع نجم رشيد بيضون مؤسس “الجمعية الخيرية العاملية” وصرحها العلمي المعروف بـ”الكلية العاملية”، ولدى عودته إلى لبنان بعد جولة خارجية كتبت صحيفة “الشرق” البيروتية (11 ـ 10 ـ 1938) وكان يرأس تحريرها رائد في الصحافة هو عوني الكعكي الجد، فقالت “الإستقبال الذي تزاحمت فيه الألوف لتحمل الزعيم رشيد بك بيضون على الأكف، اعترافاً بخدماته وجهاده، وبالثقة الغالية التي يمتع بها النائب الوطني رشيد بيضون”، وعلقت صحيفة “اليوم” في التاريخ نفسه، وكان يصدرها عفيف الطيبي أحد رموز الصحافة في بيروت بالقول “عاد من أفريقيا نائب جبل عامل، الوطني المجاهد رشيد بك بيضون، فأثير له استقبال رائع قلّ أن عرف نظيراً في بيروت، فتهافتت قرى الجنوب لإستقبال المجاهد، ونصبت أقواس النصر في الشوارع، ففتحت بيروت أعينها على منظر رائع تمثل فيه عرفان الجميل والإخلاص، نرحب بالصديق رشيد بك بيضون مبتهجين بعودته وتوفيقه، وهو توفيق سوف يخلده التاريخ على مر الأحقاب والأجيال”.
وليس بعيداً عن الفترة نفسها، ولكن من موقع العرفان بالجميل، يتحدث نقيب الصحافة اللبنانية الأسبق زهيرعسيران في مذكراته المعنونة بـ”المؤامرت والإنقلابات في دنيا العرب” عن تفاصيل إطلاق سلطات الإنتداب الفرنسي سراحه إثر اعتقاله بتهمة الإنتماء إلى “الحركة العربية السرية”، ويعيد أسباب ذلك إلى إدارج المفتي محمد توفيق خالد إسمه في قائمة الذين يجب إخراجهم من السجن “فقدم سماحته قائمة بأسماء فريق من أعضاء حزب النجادة وذكر إسمي معهم على اعتباري من النجادة أيضا، وقد تأكد لي أن سماحته كان وراء خروجي من المعتقل، فزرته شاكراً”. وفي سياق التضامن البيروتي ـ الجنوبي ذاته، تكشف أوراق رئيس الحكومة الأسبق حسين العويني، والتي حرّرها روجيه جهشان في كتاب “خمسون عاما من تاريخ لبنان والشرق الأوسط” كيفية تضامن الزعامات البيروتية مع الزعيم الجنوبي احمد الأسعد عقب انتخابات عام 1953، فآنذاك سنّ الرئيس كميل شمعون قانوناً انتخابياً أدى إلى تحجيم التمثيل النيابي لمناوئيه وخصومه، وجراء ذلك تقلصت الكتلة النيابية لأحمد الأسعد بصورة مثيرة للشكوك، و”كان لبنان الجنوبي ممثلاً بأربعة عشر نائباً منهم 13 من تكتل احمد الأسعد، ولم يعد إلى جانبه سوى نائب واحد هو إبنه كامل، وكذلك (كمال) جنبلاط الذي سيتهم شمعون بأنه أراد النيل من موقعه في منطقة الشوف، وقد تقصقصت جوانح الكبار ولم يبقَ في الساحة إلا كبير واحد مطلق هو كميل شمعون”.
واعتماداً على أوراق حسين العويني أنه “منذ تشرين الثاني/نوفمبر 1955، أدى هيجان النفوس والتوتر السياسي إلى حدوث اضطرابات، ففي 6 تشرين الثاني/نوفمبر، نظّم احمد الأسعد تجمعاً في الغبيري ـ من ضواحي بيروت ـ لإدانة سياسة السلطة” وشارك العويني في هذا اللقاء متضامناً مع الأسعد إلى جانب حميد فرنجية وسليمان العلي ومصطفى كرامي.
في عقد السبعينيات المنصرم، شهدت بيروت ما يُعرف بظاهرة “شعراء الجنوب”، ومن مطابعها خرجت مجموعات شعرية ذات قيمة جمالية رفيعة كان لها أثر كبير في قصيدة الحداثة العربية، وشملت هذه الكوكبة محمد علي شمس الدين وجودت فخر الدين وعباس بيضون وشوقي بزيع وأحمد فرحات وحسن ومحمد العبدالله وغيرهم
في السبعينيات، حين فاز نادي “النجمة الرياضي” على نادي “آرارات” بطل الإتحاد لسوفياتي في مباراة بكرة القدم في بيروت، أقام النادي احتفالاً تكريمياً لأعضائه حضره المفتي الشيخ حسن خالد والإمام السيد موسى الصدر والرئيس صائب سلام، وفي الإحتفال قال الصدر “نادي النجمة رفع راية لبنان عالياً في أشرف الميادين”. وفي واقعة ذات أبعاد سياسية ـ تضامنية لا شبهة فيها، ذكرت صحيفة “الزمان” في السابع والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر 1974، “أن المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى أصدر بياناً حذّر فيه من محاولة حصر المطالبة بحقوق المحرومين في تشكيل الوزارة الجديدة، داعياً إلى تنفيذ المطالب ضمن مهلة محددة”، وحيال ذلك أطلق صائب سلام تحذيراً شديد اللهجة يلاقي ما دعا إليه المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، وقال “سننزل الى إلشارع اذا لم تستجب السلطة لدعوة الإمام موسى الصدر”.
بعيداً عن الفضاء السياسي المباشر الذي استظل به الجنوبيون والبيروتيون طوال عقود مديدة، فقد شكلت إذاعة “صوت لبنان العربي” من مقر بثها في “كورنيش المزرعة” رابطاً أثيرياً بين بيروت والجنوب وفعلاً استثنائياً في تصديها لمختلف اشكال الإعتداءات الإسرائيلية على أهل الجنوب قصفاً وتهجيراً واجتياحاً في عام 1982، وتحولت حلقات برنامج “إبن البلد” للفنان احمد الزين الذي كان يكتبه رفيق نصرالله، و”كلمات للأرض والوطن” لنصرالله ايضاً، وما كان يصدح به الشاعر شوقي بزيع، إلى مواقيت لضبط ساعات المواعيد والإستماع، وإلى هؤلاء الثلاثة، كانت “صوت لبنان العربي” (إذاعة “المرابطون“) تبث مراراً وفي اليوم الواحد أحياناً اغنية الفنان البيروتي المميز احمد قعبور “جنوبيون“، ومطلعها الآتي:
“الشمس تأكل لحمهم/ لكنهم يعاندون الشمس
من بطون الأرض يطلعون/
من عيون الشمس يطلعون/
من وجه القمر/
وبعد الإنسحاب الإسرائيلي من معظم الأراضي اللبنانية في 25 أيار/مايو 2000، غنّى العندليب البيروتي الأشقر أحمد دوغان من ألحان منصور الرحباني هذه الأغنية، وفيها:
“نسّم يا جنوبي/ والهوى جنوبي
العمر مكتوب/ والحب جنوب
وأسامي الشُهدا ع تراب الأرض مكتوبي”.
وغنت نجمة لبنان والعالم العربي المطربة البيروتية نجاح سلام:
“يا جنوبي ويا جنوبية/ يا مشعال الوطنية..
الإسرائيلي شاف الويل/ من صور لبنت جبيل
ومن صيدا للنبطية”.
هذا المجال المفتوح بين بيروت وأهل الجنوب، لا يحجب بطبيعة الحال ما كان الجنوبيون قد أنجزوه في “عنقود الضيع”، فصحافتهم التي أصدروها من بيروت، علت وارتفعت إلى مقام عال ومؤثر، فمحمد ميرزا باقر أصدر جريدة “البلاغ” في عام 1911 بعدما كان أنشأ مجلة “المنتقد”، والشاعر محمد علي الحوماني (1898 ـ1964) إبن بلدة حاروف أصدر مجلة “العروبة”، وأطلق إبن بلدة الشرقية الشاعر محمد كامل شعيب (1890 – 1980) صحيفتي “العروة الوثقى” و”الإتفاق”، ونشر زهير عسيران صحيفة “الهدف”، وأما كامل مروة فقد أصدر ثلاث صحف هي “دايلي ستار” و”بيروت ماتان” و”الحياة” التي تبوأت مقدمة الصحافة اللبنانية والعربية من حيث قوة تأثيرها على صناعة القرار المحلي والإقليمي، حين كان يشرف على رئاسة تحريرها كامل مروة وحتى لحظة اغتياله الآثم في السادس عشر من أيار/مايو 1966..
في عقد السبعينيات المنصرم، شهدت بيروت ما يُعرف بظاهرة “شعراء الجنوب”، ومن مطابعها خرجت مجموعات شعرية ذات قيمة جمالية رفيعة كان لها أثر كبير في قصيدة الحداثة العربية، وشملت هذه الكوكبة محمد علي شمس الدين وجودت فخر الدين وعباس بيضون وشوقي بزيع وأحمد فرحات وحسن ومحمد العبدالله وغيرهم، ولم يبق واحد منهم لم يهم ببيروت شعراً وعشقاً، فيما اتخذ محمد زينو شومان عنوان “عائد إليك يا بيروت” لأولى مجموعاته الشعرية الصادرة في عام 1978.
وتصل ذروة فتنة الشعراء الجنوبيين بييروت مع شوقي بزيع الذي أصدر كتابا بحثيا وجماليا بعنوان “بيروت في قصائد الشعراء”، جمع فيه عشرات القصائد لشعراء لبنانيين وعرب وأجانب عصف بهم حب بيروت منذ ما قبل ميلاد السيد المسيح وحتى الوقت الراهن، وفي هذا الكتاب تبدو بيروت وحياً من جمال وملهمة للشعراء أكثر من أية مدينة عربية اخرى بإستثناء مدينة القدس المحتلة، التي نظم لها الشعراء قصائد من حروف موجوعة ومفجوعة.
أخيراً؛
في تاريخ الأغنية اللبنانية، يقف الشاعر الجنوبي عبد الجليل وهبي (1921 ـ 2005) في صدارة من أسهموا في صناعة الفن الغنائي اللبناني في زمنه الجميل، ولعبد الجليل وهبي هذه الأغنية التي غنّاها المطرب السوري موفق بهجت، وما زالت حية في ذاكرة اللبنانيين والعرب، تقول الأغنية:
“بابوري رايح رايح.. بابوري جاي/ بابوري محمّل.. سكر وشاي/ بابوري رايح على بيروت/ رايح يجيب مرجان وياقوت/ بابوري رايح رايح.. بابوري جاي”.
ذاك الذي في قلوب أهل بيروت، وذاك الذي في أفئدة أهل الجنوب.