منذ أيام، تكاد “المحادثات” غير المعلنة بين إيران والسعودية، والتي جرت أو تجري وقائعها في العراق، تتصدر واجهة المستجدات الإقليمية، وبصورة عامة فالوساطة العراقية بين الرياض وطهران، والتي كشفت عنها صحيفة “فايننشال تايمز” (Financial Times) البريطانية، الأحد الفائت، ليست الأولى من نوعها،إذ ثمة “وساطات” عراقية عدة، جرت في السنوات القليلة الماضية، ولم يُكتب لأية منها الوصول إلى الخاتمة السعيدة، لأسباب مختلفة على رأسها وجود الرئيس دونالد ترامب في البيت الأبيض، وانتهاجه سياسة “الأبواب المغلقة” مع إيران.
حين اغتالت الولايات المتحدة الجنرال قاسم سليماني في أوائل كانون الثاني/ يناير 2020، أطل رئيس الوزراء العراقي السابق عادل عبد المهدي من نافذة الحدث ليقول إن سليماني “كان يحمل رسالة إيرانية للرد على رسالة سعودية هادفة لتحقيق انفراج في أوضاع المنطقة”.
عادل عبد المهدي استحضر التاريخ شاهدا في جلسة للبرلمان العراقي في الخامس من الشهر ذاته، وختم قائلاً: للتاريخ أذكر ذلك.
لم تنف الرياض ولا طهران ما كشف عنه عبد المهدي، بل إن مستشار الرئيس الإيراني حسن روحاني غرد مؤكداً “أن سليماني كان يحمل بالفعل رسالة إلى السعودية”، وفي الرابع من الشهر نفسه، قال السفير الإيراني في بغداد:”قاسم سليماني كان يحمل رسالة وساطة بين السعودية وإيران”.
اغتيال سليماني، وبرغم دوافعه الأميركية المتعددة، فإن الإسرائيليين وجدوا في أحد أسباب اغتياله ما يتجاوز كونه قائدا عسكريا كبيرا، وكتب كبير المحللين الأمنيين والعسكريين اليكس فيشمان في صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية (10 ـ 1ـ 2020) إن اغتيال سليماني “جاء بهدف إحباط التقارب السعودي ـ الإماراتي ـ الإيراني”.
إذا تم اعتماد رواية فيشمان، فهذا يعني أن الأميركيين عملوا على إقفال “النوافذ المفتوحة” التي تحدث عنها عبد المهدي خلال ولاية دونالد ترامب.
وفي قائمة “النوافذ المفتوحة”، قيل الكثير، على الأقل في السنوات الثلاث الماضية:
في عام 2019، زار رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان طهران مرتين، وفي المرة الثانية نقلت وكالة “مهر” الإيرانية عن المتحدث باسم الحكومة الإيرانية علي ربيعي قوله (11ـ 10 ـ 2019) “إن رئيس وزراء باكستان قدم للحكومة الإيرانية رسالة من ولي العهد السعودي يطلب فيها الحوار مع طهران، لكننا لا نرى أي دواع للحوار مع السعودية نيابة عن اليمنيين”، وبحسب بيان لوزارة الخارجية الباكستانية نشرته وكالة “إرنا” الإيرانية الحكومية (13ـ 10 ـ 2019) بأن “زيارة عمران خان الى طهران تأتي في اطار المبادرة لتعزيز السلام والأمن بالمنطقة وبحث القضايا المتعلقة بالأمن والسلام في منطقة الخليج الفارسي وأهم التطورات الاقليمية”.
إن هذا الربط بين الحوار الإيراني ـ السعودي المفترض و”العقدة اليمنية” يرده أليكس فيشمان في مقاله المشار إليه آنفا بالقول: “إن الاتفاق مع الحوثيين يفتح الباب على مصراعيه أمام مشاركة إيرانية في تشكيل حكومة وحدة في اليمن بمشاركة الحوثيين على غرار مشاركة حزب الله في الحكومة اللبنانية”، وهذا ما يرفضه الأميركيون.
الإشارات السعودية بإتجاه طهران، كانت واضحة الملامح في الحوار الذي أجرته قناة CBS الأميركية في الثلاثين من أيلول/ سبمتبر 2019، مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان وقال فيه:”إننا نفضل الحل السياسي مع ايران ومنفتحون على كل المبادرات السياسية لإنهاء الحرب في اليمن”.
وفي التعليقات والتحليلات التي بثتها قناتا cnn الأميركية وbbc البريطانية في اليوم التالي على الحوار، مع ولي العهد السعودي، إجماع على وجود “رسائل” حوار بين الرياض وطهران، وفي اليوم نفسه أدلى عبد المهدي بحديث لقناة “الجزيرة” فأكد “إنه يعتقد أن السعودية تبحث عن السلام والتهدئة، وأن هناك استعدادا لتقديم تنازلات وفتح ملفات كانت مغلقة”، وأما علي لاريجاني رئيس مجلس الشورى الإيراني السابق فقال لـ”الجزيرة” أيضا (1 ـ 10 ـ 2019):”إن إيران ترحب برغبة السعودية في حل الخلافات عبر الحوار وإن أبواب إيران مفتوحة لذلك، والحوار السعودي ـ الإيراني يمكنه حل الكثير من مشاكل المنطقة الأمنية والسياسية”.
وقبل كل ذلك، كان قاسم الأعرجي وزير الداخلية العراقية في حكومة حيدر العبادي، صرح من العاصمة الإيرانية (13 ـ 8 ـ 2017) “إن السعودية طلبت من رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، التدخل للتوسط بين الرياض وطهران”، وعلى ما قيل آنذاك فإن الأعرجي تسرع واستعجل في تصريحه، مما دفع الرياض إلى النفي الشديد عبر “مصدر مسؤول” قال لـ”وكالة الأنباء السعودية” الرسمية إن “المملكة العربية السعودية لم تطلب أية وساطة بأي شكل كان مع جمهورية إيران، وأن ما تم تداوله من أخبار بهذا الشأن عار من الصحة جملة وتفصيلا”.
منطق الأشياء يقول، إن ما قاله الأعرجي لا يمكن أن يكون زلة لسان أو اندفاعة حماسة، بصرف النظر عمن كان البادىء بطرق أبواب الوساطة المجهضة عام 2017، وكذلك الأمر أيضا، إذ ليس من فراغ أتت “شهادة التاريخ” لعادل عبد المهدي بعد اغتيال سليماني ومعه “الوساطة المغتالة”.
حاول عبد المهدي ولم تكن الظروف ناضجة. حاول العبادي ولم تكن المناخات مؤاتية. حاول الكاظمي في الصيف الماضي، لكن ترامب كان ما يزال في البيت الأبيض. ترامب لم يعد بالمرصاد، هل ينجح الكاظمي هذه المرة؟
الآن إلى أين؟
قبيل وصول رئيس الوزراء العراقي الحالي، مصطفى الكاظمي، إلى طهران يوم الثلاثاء (21ـ 7 ـ 2020)، كان مقررا أن يبدأ جولة خارجية من السعودية، إلا أن الظروف الصحية للملك سلمان بن عبد العزيز حالت دون أن تكون الرياض محطة أولى لجولة الكاظمي، فبدأها من طهران، وسبق وأعقب الجولة المذكورة كثافة “توقعات” بإعادة إحياء دور الوسيط العراقي بين ايران والسعودية، مثلما كانت الحال مع حكومتي عادل عبد المهدي وحيدر العبادي.
وعلى ما يبدو لم تكن “التوقعات” دخانا بلا نار، وعلى الرغم من عدم صدور نفي أو تأكيد من الجانبين السعودي والإيراني حول وساطة عراقية محتملة للحوار على ضفتي الخليج، فإن أسبقيات التوسط العراقي عززت التوقعات ورفعتها إلى مستوى المعقولية الشديدة، وهذا ما جرت ملاحظته في وسائل الإعلام الإيرانية المطبوعة، ومنها هذه النماذج:
ـ صحيفة “سياست روز” (19 ـ 7 ـ 2020): هناك أهداف اقتصادية من وراء زيارة الكاظمي للسعودية بالتأكيد ولكن قد يكون الهدف الرئيسي القيام بوساطة ما بين طهران والرياض خصوصا وأنه سيقوم بزيارة لإيران بعدها مباشرة.
ـ صحيفة “ايران” (19 ـ 7 ـ 2020): الكاظمي يسعى لإيجاد نوع من التوازن في علاقات العراق الخارجية ومن هذا المنطلق يحاول تعزيز الجسور مع البلدان الرئيسية المحيطة بالعراق اي ايران وتركيا والسعودية ايضا والقيام بوساطات لتهدئة الأجواء، ان علاقات ايران والعراق وطيدة تماما وترتكز على الوشائج والمصالح المشتركة وبلادنا ترحب بجهود الحد من أجواء التوتر.
ـ صحيفة “ارمان ملي” (20 ـ 7 ـ 2020): الكاظمي يتوسط لتحسين العلاقات بين طهران والرياض.
ـ صحيفة “جمهوري اسلامي” (20ـ 7 ـ 2020): من أسباب زيارة الكاظمي لطهران وساطة مع السعودية، وجاء في عنوانها: وساطة.
ـ وكالة “مهر” (21ـ 7 ـ 2020): قال المتحدث بإسم الخارجية الايرانية عباس موسوي في تصريح له أثناء تواجده ببغداد إن الكرة الآن في ملعب السعودية ولتحدد موقفها تجاه ايران، مؤكدا أن الجمهورية الاسلامية مستعدة للتعاون والحوار مع جميع دول المنطقة، وأشار الى أن إيران تريد أن يكون الحوار في هذه الظروف بعيدا عن التدخل الأجنبي.
ـ صحيفة “الوفاق” (21 ـ7 ـ 2020): أكد رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي ضرورة التعاون بین الدول الإقليمية وصولا الى آليات شاملة لوقف التحديات والمشاكل التي تخيم على المنطقة.
هذه الأجواء مع سوابقها، لم تكن محصورة بالتوقعات، ولكنها لم تدخل أيضا في باب الحتميات، إنما ما يمكن قوله إن وميضا ما كان يخرج من العراق آنذاك بفعل فاعل إسمه مصطفى الكاظمي، مثلما سبقه الفاعلان عادل عبد المهدي وحيدر العبادي.
حاول عبد المهدي ولم تكن الظروف ناضجة.
حاول العبادي ولم تكن المناخات مؤاتية.
حاول الكاظمي في الصيف الماضي، لكن ترامب كان ما يزال في البيت الأبيض.
ترامب لم يعد بالمرصاد، هل ينجح الكاظمي هذه المرة؟