تحت الضغط، عمل وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف خلال الأعوام الثمانية الماضية التي شغل فيها منصبه، لكنه لم يكن يعتقد يوما أنه قد يقف موقفا كهذا الذي هو فيه بعد التسريبات الأخيرة لحوار أجراه ضمن مشروع لأرشفة تجربة حكومة الرئيس حسن روحاني. في سابق السنوات وجه بعض النواب اتهامات بالخيانة لظريف، هاجمه أنصار الأصوليون الجدد في طهران ووصفوه بنعوت مختلفة. بل وحتى قبل توليه الوزارة، حينما كان دبلوماسيا رفيعا في الأمم المتحدة، واجه اتهامات بالانتماء إلى ما أطلق عليه “حلقة نيويورك” والتي دارت حولها قصص حول علاقة أعضائها بالولايات المتحدة وتأثرهم بنمط الحياة الغربية وعدم التزامهم بقيم الثورة الإسلامية والتآمر عليها. كل ما سلف في كفة، وما حدث يوم التسريب الشهير في كفة ثانية.
قبل الغوص فيما وقع مساء الأحد ٢٥ نيسان/ أبريل لنعد قليلا في الأرشيف إلى شباط/ فبراير الماضي. فقد بث التلفزيون الكندي تسريباً صوتياً قال إنه لظريف وهو يتحدث في مجلس خاص عن فرضيات سقوط الطائرة الأوكرانية التي اسقطت في بداية العام ٢٠٢٠ بالتزامن مع رد إيران على اغتيال قائد قوة القدس الجنرال قاسم سليماني، يقول”هناك آلاف الاحتمالات لتحطم الطائرة، بما في ذلك وجود عناصر مندسة نفذوا الهجوم عمداً” وأن هناك أسبابا عديدة لعدم الكشف عما حدث “لن يخبرونا، لأنهم إذا فعلوا ذلك، فسوف يفتحون بعض الأبواب لكشف أنظمة الدفاع في البلاد، والتي لن يكون من مصلحة الأمة أن تقولها علنًا”.
لم ينتظر وزير الخارجية الإيراني كثيرا، وعبر تويتر نفى صحة التسجيل مغرداً”بعد مأساة الطائرة الأوكرانية، أصررت أنا وغيري على ضرورة التحقيق في جميع الاحتمالات، بما في ذلك احتمال التسلل الخارجي أو التدخل الإلكتروني، ومع ذلك فإن التسجيل مزيف. تم تحديد السبب على أنه خطأ بشري، وإيران ملتزمة بتحقيق العدالة لجميع الضحايا”.
في الطائرة المتوجهة من طهران إلى الدوحة حيث محطته الإقليمية الأولى كان ظريف مدركا أن الأيام القادمة لن تكون أفضل أيامه. فوسيلة الإعلام التي نشرت التسريب كانت قد أعلنت مبكرا عن نيتها فعل ذلك، لذلك جاءت الجولة التي بدأها في قطر ومرّ فيها على العراق وعمان والكويت بمثابة فاصل جغرافي وعملي عن الزلزال السياسي الذي هزّ إيران، مع ذلك لا يمكن إلا ان تكون الأرض اهتزت من تحته مراراً وتكراراً في خضم انغماسه الخارجي ذاك.
في التسجيل الصوتي قال ظريف الكثير، وليست المساحة هذه لمراجعة ما قاله والمنشور في جاده إيران بالتفصيل بناء على تفريغنا لأهم ما جاء فيه حرفيا. ثلاث ساعات وعشر دقائق من الدردشة بأريحية لا تشبه عادة ظريف في المقابلات الصحفية. صراحة مطلقة غير ملجومة بحذر من خروج ما قد يقض مضجعه لفترة طويلة وربما ما قد يبقى ملتصقا به إلى الأبد، حديث في الممنوع وكسر بحدة لخط أحمر في التعاطي مع شخصية طوّبها النظام بعد اغتيالها اسطورة للجمهورية والثورة، وفي بعد أكبر من ذلك لمشروع التشيع السياسي العابر للحدود.
نعم، لم يدس ظريف على لغم يبتر قدماً في إيران، ومن سرّب التسجيل الصوتي افضى بالرجل إلى مساحة ملتبسة حتى عليه هو شخصيا، فإن كان من فعلها قام بذلك ظنا منه بأنه يقدمه مرشحا قويا للانتخابات، فقد رمى صاحبه برصاصة متفجرة، وإن فعلها خصمٌ للرجل فقد قصد وضعه على مقصلة معنوية حولته إلى مرمى لسهام خصومه وحتى بعض من كان يحسبهم إلى جانبه. الصامت الوحيد حتى الآن القائد الأعلى علي خامنئي الذي سيكون لأي تعليق يسجله في هذه القضية تأثير خشبة الخلاص أو رصاصة الرحمة.
قبل أسبوعين، وفيما كان الضغط على ظريف في موضوع المفاوضات النووية يأخذ منحى جديدا في الميدان السياسي الداخلي، هدد بشكل واضح أمام لجنة الأمن القومي في مجلس الشورى الإسلامي بأن المزيد من الضغط عليه وربط المفاوضات الجارية بأهداف انتخابية، لا سيما مع تأكيده في مناسبات عديدة على عدم خوضه الانتخابات، سيكون له أثرا عكسيا. فهم من هذا الكلام أنه ربما بدأ بالميل تجاه التفكير بالأمر وأنه كما بقية المرشحين الرئيسيين المفترضين ينتظر اللحظة الأخيرة ليتقدم بترشيحه.
“من سرب التسجيل الصوتي ظنا منه بأنه يقدم ظريف مرشحا قويا للانتخابات، فقد رمى صاحبه برصاصة متفجرة، وإن فعلها خصمً للرجل فقد قصد وضعه على مقصلة معنوية حولته إلى مرمى لسهام خصومه وحتى بعض من كان يحسبهم إلى جانبه”
حتى قبل لحظة التسريب، كان كل شيء ممكنا، برغم أن معركة الرئاسة لن تكون سهلة بالمرة مع تراجع ارقام تأييد ظريف في الشارع الإيراني، وحتى إن فاز فالمواجهة مع المجلس ستكون عنيفة بكل ما للكلمة من معنى ما سيجعل من فترته الأولى المفترضة أكثر منها صراعا من تنفيذ اجندة حكم. أما بعد، فالترشح قد يكون أضحى ترفاً في مقابل ما يمكن أن يكون حاليا يفكر به. سيحتاج فعل الترشح للرئاسة من ظريف سماكة جلد كالتي يتميز بها التمساح ليدخل هذا الميدان دون أن يتأثر بما سيسمعه وبالحملات التي ستشن عليه، وسيحتاج أيضا لمظلة من أعلى النظام، لن يقوى من غيرها على الخوض في هكذا معترك حتى وإن اجتمع عليه الإصلاحيون والمعتدلون ورجال الحوزة ممن يدعمونه ويؤيدون وصوله إلى شارع باستور حيث مقر الرئاسة الإيرانية.
قد يبدو الأمر مستحيلا، ربما، على الأرجح، لكن لا شيء مستحيل في ميدان السياسة في إيران، والرغبة في مشهد انتخابي بحجم استفتاء على الثورة في مقابل مشهد الانتخابات النيابية الهزيل عام ٢٠٢٠ قد يصنع ظروفا لما هو غير متوقع.
في طريق عودته إلى طهران، بعد جولة استمرت أكثر من خمسة أيام، لا يمكن توقع حقيقة ما كان يفكّر به ظريف في الطائرة، ربما كان يرغب لو أنه كان في زيارة للصين أو أميركا الجنوبية أو حتى نيوزلندا ليكون طريقه إلى طهران أطول لعله يجترح ما يكن له به أن يواجه الهزات الارتدادية التي لا تزال في انتظاره.
(*) بالتزامن مع “جاده إيران“