“أنت تعلم كم أكره صواريخ حماس.. ولكن إذا لم تتحرّك هذه المرة، فستصبح متعاونة.. إذا لم تقف في وجه إسرائيل الآن، فما الفائدة من مقاومتها المسلحة؟”.
كانت هذه كلمات صريحة، بشكل غير معتاد، من جانب صديق غزّاوي مثّقف، أعلم أنه يحتقر حكام الأمر الواقع غزة أكثر من أي شخص آخر تقريباً.
الآن، مع اندلاع الصراع الواسع النطاق بين إسرائيل و”حماس”، ومع قصف إسرائيل للمباني السكنية المتعددة الطوابق في غزة، وإطلاق “حماس” وجماعات مسلحة أخرى أكثر من ألف صاروخ باتجاه إسرائيل، تبدو “حماس” مصممة أكثر فأكثر على إظهار قدرتها على ردع إسرائيل وبالتالي الحصول على مزيد من الدعم.
في حين كان المتحدثون باسم “حماس” مكتفين في البداية بإطلاق تهديدات صاخبة، كانت الاستعدادات للتصعيد في واقع الأمر محدودة.
بعد وابلين غير مسبوقين من الصواريخ استهدفت تل أبيب – رداً على قصف إسرائيل للأبراج السكنية – بات التحذير مجرّد خبر قديم.
المعادلة الجديدة هي أنه كلما استمر التصعيد، سترتفع شعبية “حماس” بشكل متوازٍ، باعتبارها “المدافعة” عن غزة، وسيكون من الصعب عليها أن تتراجع خطوة إلى الوراء قبل تحقيق انتصارات تتناسب مع الدمار الذي أحدثته إسرائيل في هذه الجولة.
وبالفعل، ألقى زعيم “حماس” إسماعيل هنية خطاب المنتصر يوم الثلاثاء الماضي، وقد تفاخر فيه بـ”إجبار الاحتلال على إبعاد متطرفيه عن المسجد الأقصى”، مشيراً إلى “التحرك على ثلاث جبهات” في إشارة إلى القدس وتظاهرات الداخل وغزة.
ومع ذلك، لا تزال هناك نافذة – برغم أنها تتلاشى بسرعة – لتهدئة يمكن أن تمنع حرباً شاملة لا يريدها أحد.
كيف وصلنا إلى هنا؟ خلال شهر رمضان المبارك، تحولت الاستفزازات المتطرفة وغير المقيدة من جانب الحكومة الإسرائيلية والمستوطنين، والوحشية التي تمارس ضد الفلسطينيين في القدس الشرقية، وإهانة المصلين وطرد الفلسطينيين، وسط موافقة المجتمع الدولي، وقوداً لتأجيج الغضب في صفوف أنصار “حماس” ومعارضيها على قدم المساواة.
أعطى هذا الغضب مصداقية لدعوات بعض الفلسطينيين إلى العنف، سواء للردع أو للانتقام بالترهيب المضاد: “إذا تحولت حياتنا إلى جحيم، كذلك ينبغي أن تكون حياة الإسرائيليين”.
بعض هذه الدعوات إلى عمل عنيف كانت تستهدف حماس. حتى الفلسطينيين الذين تحصنوا في المسجد الأقصى عندما اقتحمت القوات الإسرائيلية الحرم، كانوا يطالبون عبر مكبرات الصوت بالمساعدة من غزة .
خلال الشهر الماضي، كانت الهمسات الشعبية تدين “حماس” بدلاً من الاحتفاء بها، متهمة اياها بالتشبع بالأموال القطرية، والاكتفاء بالكلام والادانات الفارغة حين كانت القدس مشتعلة.
ربما شعر نتنياهو وشركاؤه السياسيون الجدد – الكهانيون المتطرفون – بالتشجيع بسبب الصمت العام في الضفة الغربية وغزة. ربما ظنوا خطأً أن هذا الصمت هزيمة ولامبالاة.
بدلاً من البناء على حقيقة أن الأشهر الثلاثة الأولى من العام 2021 كانت الأقل عنفاً لإسرائيل منذ عقود – مع عدم وجود صواريخ من غزة ولا هجوم منفردا ناجحا في الضفة الغربية – اقتنص قادة إسرائيل الفرصة لجعل حياة الفلسطينيين لا تطاق، وقد تجاوزوا في ذلك كل الحدود: من تسريع المستوطنات وتقييد عبادة المسلمين، مروراً بالإبقاء على الحصار المفروض على غزة التي دمرها فيروس كورونا، وصولاً إلى تحصين باب العامود.
لم تعد “حماس” قادرة على دفع ثمن البراغماتية التي تنتهجها، والتي تُحلل في الشارع الفلسطيني على أنها تقاعس
قام المستوطنون، بدافع من شعور بالحصانة، بمهاجمة الفلسطينيين وممتلكاتهم، وبلغت هذه الأعمال ذروتها في أعمال شغب ضد العرب في القدس من قبل مجموعة “ليهافا” اليمينية المتطرفة. بعد ذلك، عندما نزل الفلسطينيون إلى الشوارع احتجاجاً، ردت الشرطة الإسرائيلية بعنف غير متناسب، ما أسفر عن إصابة أكثر من مئة شخص.
على هذا الأساس، كانت “مسيرة الأعلام”، وهي حدث يميني متشدد يستهدف تأكيد الهيمنة على الفلسطينيين في القدس، إلى جانب اعتداء الشرطة الإسرائيلية على الفلسطينيين في المسجد الأقصى، الدافع الذي لم تستطع “حماس” تجنبه أو مقاومته.
لم تعد “حماس” قادرة على دفع ثمن البراغماتية التي تنتهجها، والتي تُحلل في الشارع الفلسطيني على أنها تقاعس. طوال أسبوع، ظلت الحركة تطلق تحذيرات يومية، متعهدة بالضرب بقوة إذا استمرت الأوضاع المزرية في القدس.
كانت حكومة نتنياهو حريصة على النظر في الاتجاه الآخر، حتى تم إطلاق أول وابل من الصواريخ من غزة باتجاه بيت شيمش بالقرب من القدس بدقة ملحوظة.
من المفارقات، أن هذه الدقة تم صقلها تحت أنظار نتنياهو بعد سنوات من إطلاق حماس صواريخ تجريبية في البحر. ثم مرة أخرى، فضل نتنياهو أن ينظر بعيداً، حين حرص على تمكين “حماس” على حساب السلطة الفلسطينية.
انجرّت “حماس” إلى هذا التصعيد لتحدي تهمة مساواتها بالسلطة الفلسطينية “المتعاونة”. لقد شعرت بوجود فرصة سانحة للمطالبة بقيادة النضال الفلسطيني الذي أعيد إحياؤه مؤخراً، وبخاصة بعدما أرجأ رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس الانتخابات إلى أجل غير مسمى. أصبح التصعيد أكثر حتمية عندما فرضت إسرائيل المزيد من القيود على غزة يوم الأحد الماضي.
لكن قرار حماس بفتح النار من غزة، بدلا من الانضمام إلى التظاهرات في القدس أو في الضفة الغربية، أثار انتقادات لاذعة، بقدر ما قوبل بالتهليل. ثمة من اتهم “حماس” بتشتيت الانتباه عن الانتفاضة الفلسطينية في القدس. وكما قال أحد الفلسطينيين: “أشعر بالحزن والغضب لأن حماس تحاول قتل واحدة من أجمل الحركات السلمية التي جذبت انتباه العالم كله # الشيخ_جراح”.
في الواقع، تعتقد “حماس” أن الصراع المفتوح مع إسرائيل سيحظى باهتمام ومشاركة إعلامية من المجتمع الدولي أكثر من تلك الاحتجاجات السلمية.
إذن، ما هي نهاية لعبة حماس؟ وما هو المخرج الذي قد تفكر فيه لتجنب حرب شاملة؟
مبدئياً، حددت “حماس” ثمناً رمزياً: إطلاق سراح جميع الفلسطينيين الذين اعتقلتهم إسرائيل الشهر الماضي في القدس، وانسحاب القوات الإسرائيلية من المسجد الأقصى، ومن ثم كان على إسرائيل ألا تقصف منازل المدنيين.
الآن هذا هو الحد الأدنى: لن نضرب إذا أوقفت إسرائيل الضرب.
جدد غسماعيل هنية مساء امس الاثنين موقفه: “اننا مستعدون للتصعيد ومستعدون للتهدئة بشرط ان يوقفوا العدوان على القدس”. وأضاف أن “هناك توازناً جديداً للقوى”، من خلاله ستتعامل “حماس” مع التهدئة بإيجابية، ولكنها لن تقوم بالخطوة الأولى لتجنب ظهور الاستسلام.
وسواء انتهى التصعيد أم لا، فقد حصلت “حماس” على ما تريد: لقطات استهدافها تل أبيب نصرة لغزة والقدس. في المسجد الأقصى هناك لافتات ضخمة تمجد “حماس” وقادتها و وتحيي “دفاعها” عن القدس وشرف الفلسطينيين.
لن تفكر إسرائيل في هذه الخيارات. في الواقع، يمكن أن يكون الصراع الأطول هو بالضبط ما يريده نتنياهو: تدمير فرص تشكيل حكومة وحدة من دون مشاركته.
يوم الثلاثاء الماضي، أعلن نتنياهو أن “إسرائيل سترد بقوة كبيرة” وأن “الصراع الحالي قد يستمر لبعض الوقت”. بدوره، أعلن وزير الدفاع بيني غانتس أن “الأبراج [في غزة] ستستمر في الانهيار. وأن هناك الكثير من الأهداف في الخط، فهذه مجرد البداية”.
علاوة على ذلك، هناك علامات تنذر بالسوء بشأن الاستعداد لهجوم بري .
افتقر بنك الأهداف الإسرائيلي هذه المرة إلى الأهمية الأمنية الكبيرة: قصف مراكز الشرطة أو الأبراج السكنية لن يجعل إسرائيل أكثر أماناً، ولكن يمكن أن يقدم مواداً لحملة مستقبلية لغانتس أو بيبي ليعلنا أنهما قد أعادا أجزاء من غزة إلى “العصر الحجري”.
والآن، تعلن شخصية سياسية رئيسية، رئيس حزب “يمينا” اليميني نفتالي بينيت، خلف الأبواب المغلقة أنه لم يعد يدعم الائتلاف المناهض لنتنياهو، لأنه لن يجلس في حكومة تعتمد على حزب القائمة الإسلامية. يمكن اعتبار ذلك انتصاراً نهائياً لنتنياهو في التصعيد المستمر.
لكن على المدى الطويل، يمكن أن يكون ذلك انتصاراً ضمنياً لحركة “حماس”، التي ساهمت أعمالها الأخيرة في تغيير المناخ الأمني الحالي إلى حد إفشال حكومة أكثر وسطية، ما يساعد بشكل فعال شريكها القديم المألوف – نتنياهو – على استعادة السلطة.
“حماس” الآن تلعب دور الهجوم والردع. أطلقت يوم الخميس صاروخها الجديد “عياش” باتجاه إيلات، وقد وسعت نطاقها الجوي بوابل من جيل جديد من طائرات شهاب “الانتحارية”، ذات التصميم الإيراني. هدف “حماس” من كليهما هو إظهار قدراتها لجمهورها المحلي، ولكن أيضاً لتوجيه رسائل إلى إسرائيل بأنه لا يزال في جعبتها المزيد من الأوراق، وبأنه سيكون هناك رد هائل ومتعدد الأوجه إذا تجاوزت إسرائيل المزيد من الخطوط الحمراء في بنك أهدافها في غزة.
من دون ممارسة الضغط على كل من إسرائيل و”حماس”، سيستمر التصعيد إلى أجل غير مسمى. يجب على الوسطاء الدوليين غير القادرين على إقناع إسرائيل أو “حماس” باستعادة تفاهمات وقف إطلاق النار قبل التصعيد العمل على الأقل نحو هدنة مؤقتة يمكن تمديدها أو البناء عليها. هناك سابقة لهذا السيناريو في عملية الجرف الصامد عام 2014.
لعل العنصر الأكثر خطورة في هذا التصعيد هو الوقت. كلما طالت مدة التصعيد، وزاد عدد القتلى، كلما زادت الصعوبة التي تواجهها “حماس” أو “الجهاد الإسلامي” في إيجاد مخرج “كريم”، وكلما زاد إصرارهما على الاستمرار والتصعيد أكثر.
ارتفاع حصيلة القتلى والمشاهد القاتمة للدمار والدمار في أنحاء غزة ينذر بالسوء حين يتعلق الأمر بتجنب نقطة اللاعودة التي سيدفع المدنيون ثمنها باهظاً، وسيكون هناك القليل من المانحين الثمينين المستعدين لدفع ثمن إعادة إعمار غزة مرة أخرى في أعقاب احتدام الصراع مرة أخرى.