ركّز ولي العهد السعودي، منذ أربع سنوات، على الداخل بهدف استنهاض المملكة وترشيق ادارتها وتحديث قوانينها وبناء اقتصاد موازٍ لإنتاج النفط، فقدّم رؤية ٢٠٣٠ الرامية إلى تنويع مصادر الدخل وتنفيذ برامج إصلاحية اقتصادية وإدارية وتطوير القدرات الدفاعية السعودية.
في حقبة الرئيس الأميركي دونالد ترامب وبالتزامن مع صعود نجم بن سلمان، اتخذت المملكة قرارات محفوفة بالمخاطر بينها قرارات داخلية شكلت انقلابًا اجتماعيًا على مفاهيم سادت لعقود (قيادة المرأة، الاختلاط، استبدال العمالة الأجنبية.. الخ) وقرارات خارجية من حرب اليمن في آذار/ مارس ٢٠١٥ (لم تبذل إدارة ترامب أية جهود لوقفها، بعكس الإدارة الحالية التي وضعت وقف حرب اليمن في سلم اولوياتها)؛ مقاطعة قطر في حزيران/ يونيو ٢٠١٧؛ اعتقالات الريتز في تشرين الثاني/ نوفمبر ٢٠١٧؛ إغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي في تشرين الأول/ أكتوبر ٢٠١٨. كما تعرضت منشآت أرامكو في بقيق وهجرة خريص لقصف حوثي بصواريخ ومسيرات إيرانية في أيلول/ سبتمبر ٢٠١٩ من دون أن تطبّق أميركا مندرجات معاهدة الدفاع المشترك.
يدرك الرئيس الأميركي جو بايدن، كأي رئيس أميركي منذ اتفاق عبدالعزيز – روزفلت عام ١٩٤٥ أن العلاقات مع السعودية تدخل في إطار استراتيجية “الطاقة الأميركية”، وأن تلك العلاقة قد تطورت مع زيارة الملك سعود عام ١٩٥٧ الى واشنطن واتفاقه مع ايزنهاور على رسم دور المملكة “السياسي الاقليمي” في الشرق الأوسط، وهو دورٌ إقليمي لم يتراجع إلا خلال حقبة ترامب. مع هذا الأخير، بدا، من حيث الشكل، أن الرئيس الجمهوري يحدث نقلة في العلاقات الأميركية السعودية، لكن شخصنة العلاقات مع الدول ومنها المملكة والتعامل معها من موقع رجل الأعمال لا رئيس دولة كبرى، أدى إلى تراجع حضور المملكة الإقليمي والدولي، إلى أن جاءت الإدارة الجديدة وقررت إعادة تصويب العلاقات الثنائية من جهة، وإعادة الاعتبار للمؤسسات من جهة ثانية. في المحصلة، بدأنا نشهد عودة المملكة إلى لعب دورها التقليدي لمواكبة التحولات الأميركية.
استفاد ولي العهد السعودي من وسطية رئيس وزراء العراق مصطفى الكاظمي لفتح حوار مع إيران، إنتهت ثلاث جولات منه، وحضره أكثر من طرفٍ الى جانب السعودي والإيراني، حسب ما يتردد في الأروقة الديبلوماسية، في ظل قناعة ثابتة أن حوارًا كهذا مطلوبٌ ومباركٌ اميركيًا
منذ ما قبل الانتخابات الأميركية، كان جليًا أن الحزب الديموقراطي، بكل إمتداداته العميقة، يريد الإطاحة بتركة ترامب وبالتالي اعادة تصويب العلاقات “المؤسساتية” مع الدول: من تركيا إلى مصر فإسرائيل وصولًا إلى السعودية، وكان جليًا أيضًا أن جو بايدن، وفور إنتخابه، يريد العودة إلى الاتفاق النووي الذي وقّعه باراك أوباما عام ٢٠١٥ احترامًا لمصداقية أميركا من جهة وسعيًا لإحتواء غير مضمون النتائج لإيران من جهة ثانية، وكانت الرغبة الأميركية معلنة من جهة ثالثة في الابتعاد عن التورط اكثر في نزاعات الشرق الأوسط، وتخفيف الحضور العسكري في هذه المنطقة كما في أفغانستان.
بدأنا نشهد تحولات فعلية في السياسة السعودية غداة إنتهاء الانتخابات الأميركية وتحديدًا مع الدعوة التي وجهها محمد بن سلمان لنظرائه الخليجيين لعقد قمة العلا في الخامس من كانون الثاني/ يناير ٢٠٢١، والتي شهدت مصالحة مع دولة قطر بعد نزاع استمر حوالي ثلاث سنوات، وهو نزاع تورطت فيه العديد من دول المنطقة، وكان من بين نتائجه التخلي السعودي عن لبنان ولو أدى هذا التخلي الى انهيار البلد الأكثر تعددية في المنطقة كلها.
مع قمة العلا بدأت تظهر ملامح العودة السعودية الى الإنخراط الإيجابي في العديد من ملفات المنطقة، وقد سبقها اتصال أجراه الملك سلمان بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان في تشرين الأول/ اكتوبر ٢٠٢٠ للتعزية بضحايا زلزال إزمير وتوجيه دعوة إليه لحضور قمة العشرين التي نظمتها المملكة في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام نفسه. اتصال تلقفه الأتراك سعيًا إلى فتح صفحة جديدة بين البلدين.
وليس بعيدًا عن واشنطن، استفاد ولي العهد السعودي من وسطية رئيس وزراء العراق مصطفى الكاظمي لفتح حوار مع إيران، إنتهت ثلاث جولات منه، وحضره أكثر من طرفٍ الى جانب السعودي والإيراني، حسب ما يتردد في الأروقة الديبلوماسية، في ظل قناعة ثابتة أن حوارًا كهذا مطلوبٌ ومباركٌ اميركيًا. حوارٌ لفتح قنوات قد لا تفضي لاتفاقات، لكنه مفيد ببعده التأسيسي بعد انقطاع العلاقات لسنوات أربع وواكبه ظهور تلفزيوني لمحمد بن سلمان في أواخر نيسان/ أبريل ٢٠٢١ أوضح فيه أن بلاده لا تريد أن تكون إيران “في وضع صعب”، بل على العكس “تريد إيران مزدهرة وتنمو لدينا مصالح فيها ولديهم مصالح في المملكة العربية السعودية لدفع المنطقة والعالم للنمو والازدهار”. واستطرد: “كل إشكالياتنا هي في التصرفات السلبية التي تقوم بها إيران سواء برنامجها النووي أو دعمها لميليشيات خارجة عن القانون”، مبيناً أن “السعودية تعمل مع الشركاء في المنطقة وفي العالم لإيجاد حلول لهذه الإشكاليات، ونتمنى أن نتجاوزها وأن تكون العلاقة طيبة وإيجابية وفيها منفعة للجميع”. اطلالة أظهرت تحولًا جذريًا في الموقف من إيران أعلنه ولي العهد نفسه عام ٢٠١٧ عندما وصف نظام طهران بأنه قائم على “أيديولوجية متطرفة منصوص عليها في دستوره وأن السعودية هدف رئيسي للنظام الإيراني”، واعدًا بنقل المعركة إلى داخل إيران!
من السذاجة توقّع انقلاب في العلاقات السعودية الإيرانية بعد فترة خصومة حادة، إلا أنّ المؤكد أنّ التقارب الجزئي والجلوس إلى طاولة واحدة سيحقق مكاسب إيجابية للطرفيْن، لا سيّما ان النهج السابق لم يأتِ بمنافع، بل إنّ خسائره تخطت مكاسبه بأشواط
وفي الثالث من أيار/ مايو، ضجت وسائل الإعلام بتسريب خبر زيارة مدير المخابرات السعودية خالد الحميدان إلى دمشق ولقائه الرئيس بشار الأسد الى أن حسمت صحيفة “ذا غارديان” البريطانية، عبر مديرها في منطقة الشرق الاوسط مارتن شولوف خبر زيارة الحميدان إلى دمشق، واجتماعه بمسؤولين سوريين.
كانت بداية القطيعة بين الرياض ودمشق في آذار/ مارس عام 2012، عندما أغلقت المملكة سفارتها في دمشق بسبب عدم تجاوب السوريين مع الجهود العربية لحل الأزمة السورية. ونشطت السعودية بعد ذلك في دعم المعارضة السورية من خلال “الائتلاف الوطني السوري” الذي كان قد تشكل عام 2012.
ومع انطلاق انتفاضة القدس الثالثة وحرب غزة الرابعة، إجتمع السعوديون بمسؤول حركة حماس في الخارج خالد مشعل، وهم الذين كانوا قد انقطعوا عن لقاء “حماس” منذ خروج مشعل من قيادة الحركة وتصاعد نفوذ يحيى السنوار – صالح العاروري المقربين من “حزب الله” وايران.
وفي لبنان، أبرزت قضية تهريب الكبتاغون عبر رمان دخل محشوًا الى بيروت وأعيد تصديره بحرًا الى جدة، أهمية عودة الحضور السعودي، برغم ما واكبها من وقوع وزير خارجية لبنان شربل وهبة في خطيئة ديبلوماسية قاتلة أطاحت به من جهة وأظهرت رغبة معظم اللاعبين السياسيين في لبنان في وصل ما انقطع مع السعوديين من جهة ثانية، وهي إشارة إلتقطها وأحسن توظيفها سفير المملكة في بيروت وليد البخاري الذي حوّل خيمته عند مشارف بيروت إلى مضافة لأصدقاء السعودية وبينهم العديد من الأصدقاء المشتركين مع سوريا!
تحتاج المملكة الى العودة للعب دور في الإقليم فالحضور أساس النفوذ والغياب ضمور للدور، والمشرق بوابة النفوذ نحو الغرب المتقاطع مع الدول الأقوى في الإقليم. تركيا توسعت بكل الاتجاهات من البلقان الى القوقاز فالقرن الأفريقي على كتف المملكة على البحر الأحمر الى العراق وسوريا أيضاً. أمّا إيران، فتوسعت من طهران إلى بغداد فدمشق فبيروت ففلسطين بغزة هاشم وضفتها الغربية وصولًا الى اليمن على خاصرة المملكة مع محاولات اختراق جرت في البحرين والمنطقة الشرقية في السعودية.
في المقابل، استنزفت حرب اليمن طاقات كبيرة للمملكة، وانكفأت السعودية عن العراق وسوريا ولبنان وفلسطين في الوقت الذي تحتاج فيه منطقتنا الى ظهير عربي لمواكبة التوسعات الإقليمية والانكفاء الأميركي.
وإذا كان بديهيًا أن يغلق رب البيت كل الأبواب والشبابيك لحظة العاصفة الهوجاء، يكون طبيعيًا أكثر أن يعمل على ترميم المبنى الذي يقطنه كي يحفظ بيته من عواصف قادمة لا محالة، ومن الواضح أيضًا ان الحرائق لا يمكن أن تنحصر في بلد بعينه بل تدرك نيرانها المناطق المحيطة وقد تصيب كل الإقليم وتؤثر على كل الجيوبوليتيك، ولعل أحدث مثال ما جرى مؤخرًا في حي الشيخ جراح الصغير في القدس والذي أدى إلى انتفاضة القدس الثالثة وحرب غرة الرابعة وهدّد “اتفاقات ابراهام” و”صفقة القرن” برمتها.
من السذاجة توقّع انقلاب في العلاقات السعودية الإيرانية بعد فترة خصومة حادة، إلا أنّ المؤكد أنّ التقارب الجزئي والجلوس إلى طاولة واحدة سيحقق مكاسب إيجابية للطرفيْن، لا سيّما ان النهج السابق لم يأتِ بمنافع، بل إنّ خسائره تخطت مكاسبه بأشواط. وسيكون اليمن الحزين الذي دفع أثمانًا باهظة، فقرًا وجوعًا وتشريدًا وتدميرًا، أول المستفيدين من التطبيع السعودي ـ الإيراني وكذلك العراق القادر على استعادة مكانته الإقليمية بعدما انهكته التجاذبات الكبرى والصراعات الداخلية.
ثلاث سنوات من الإنكفاء السعودي، أفضت إلى تعاظم النفوذ الإيراني في لبنان، كما في الإقليم. لا بد من مقاربة سعودية جديدة، وإلا فإن هناك من سيملأ الفراغ حتمًا
كذلك، سيمهّد التقارب السعودي – الإيراني الطرق نحو حل الأزمة السورية، مع ملاحظة عدم صدور اي تعليق سعودي أو خليجي عقب اجراء الانتخابات الرئاسية السورية.
وحتمًا، سيستفيد لبنان من التفاهمات السعودية ـ الإيرانية. كيف؟
منذ إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في العام 2005، وقبله إحتلال بغداد في العام 2003، تحرك الفالق الزلزالي السني ـ الشيعي، وراح يتغذى من التوترات المتصاعدة إقليميًا والتي تفاقمت مع إندلاع الأزمة السورية وبلغت ذروتها مع حرب اليمن. برغم هذه التوترات، لم ينسحب السعوديون من لبنان، بل ظلوا حاضرين في كل إستحقاقاته.. انسحبوا جزئيًا في خريف ٢٠١٧ وتمامًا بعد الإنتخابات النيابية عام ٢٠١٨. ثلاث سنوات من الإنكفاء السعودي، أفضت إلى تعاظم النفوذ الإيراني في لبنان، كما في الإقليم. لا بد من مقاربة سعودية جديدة، وإلا فإن هناك من سيملأ الفراغ حتمًا. لم تكن قضية تهريب الكبتاغون مؤخرًا إلى السعودية سوى رأس جبل الجليد، وقد أظهرت ردود الفعل، بمستوياتها العديدة، أن لبنان لا يريد إدارة ظهره لأشقائه العرب بل هو صاحب مصلحة في عودة السعودية اليه سعيًا لإعادة التوازن مع النفوذ الإيراني.
قد يبدو للوهلة الأولى، أن عودة السعودية الى لعب دور في المشرق العربي هو لمصلحة دوله، وهذا صحيح، لكنه لمصلحة المملكة التي تسعى إلى تنويع مصادر اقتصادها وتطوير تجارتها وتعزيز نفوذها، ما يعني أن هذا الدور هو مصلحة مشتركة وملحة للنظام العربي ولإستقرار دوله.