برغم تلبية السيد حسن نصرالله دعوة “الإستعانة بصديق” التي أتته من رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، فإن المكتوب يُمكن أن يُقرأ من عنوانه، ذلك أن حزب الله لن يتورط إلى الحد الذي يجعل الآخرين يحمّلونه مسؤولية العجز عن إقناع صديق أو حليف. قرر أن يتحمل المسؤولية، ولو أن نبرته بدت متحفظة جداً، ولم يُلزم نفسه بأية وعود حاسمة، لا بل رسم لنفسه خطاً للعودة، بمجرد أن قال إن تفسيره للحق يمكن أن يضعه في لحظة ما في موقع غير محايد، أي أن يضطر لقول كلمة الحق. لا بل ذهب إلى حيث كان منتظراً أن يذهب في الموضوع الحكومي عندما قال إن حزب الله يمكن أن يقبل لنفسه ما لا يمكن أن تقبل به أغلبية الأحزاب اللبنانية لنفسها، ومنها بطبيعة الحال، حليفه التيار الوطني الحر.
عملياً، لم تتوقف المفاوضات طوال أيام هذا الأسبوع، وهي ستشهد صولات جديدة في الساعات والأيام المقبلة، وفق آلية محددة، تتضمن تبادل العديد من الأفكار، وركيزتها مبادرة رئيس مجلس النواب نبيه بري، لكن كل ما طُرح حتى الآن أظهر أن الأمور عالقة عند نقطتين، وكل واحدة منهما لا يمكن حلها.. حتى بحرب عالمية ثالثة.
النقطة الأولى، تسمية الوزيرين المسيحيين، وهي مرتبطة بالنقطة الثانية أي منح الثقة للحكومة. في الأولى، لن يقبل جبران باسيل، بالشكل والمضمون، أن يجيز لرئيس الحكومة المكلف حق تسمية هذين الوزيرين المسيحيين (من أصل 12). الصيغة المطروحة حالياً تقضي بالعودة إلى “سلة الأسماء”.. الأفكار عديدة، وأبرزها إعطاء رئيسي الجمهورية والحكومة أن يختارا معاً. في الثانية، وبرغم إنتزاع ثقة حزب الطاشناق وكتلة طلال أرسلان النيابية، على قاعدة مشاركتهما في الحكومة، إلا أن باسيل يرفض إلزام كتلته النيابية بمنح الثقة.. وأقصى تساهل يمكن أن يبديه لاحقاً هو أن يترك لكتلته حق منح الثقة أو حجبها.
غير أن الأمور في المقلب الآخر، وتحديداً عند الرئيس المكلف تبدو مختلفة. إصرار على حق رئيس الحكومة بتسمية وزراء من كل الطوائف (يقول إنه هو من تولى تسمية الوزراء الشيعة والوزير الجنبلاطي بموافقة حزب الله وأمل ووليد جنبلاط). لذلك، لرئيس الجمهورية أن يقبل أو أن يرفض وأن يطرح أسماء بديلة.. وعندها يمكن أن يحصل أخذ ورد بين الإثنين، فإما أن يتوافقا أو يفترقا. لكن أن يتنازل الحريري عن حق يعتبره دستورياً، فهذا أمر غير موجود في قاموسه الوطني والدستوري. في الوقت نفسه، يصر الحريري على أن إعطاء رئيس الجمهورية الحق بتسمية 8 وزراء من دون منح حكومته الثقة سيُكرس عرفاً دستورياً يتمسك به كل رئيس للجمهورية مستقبلاً، خصوصاً أن باسيل يفصل بين حق رئيس الجمهورية بتسمية ثلث الوزراء وبين حق التيار الوطني الحر بمعارضة الحكومة وعدم منحها الثقة!
دوائر أميركية وأوروبية تعتبر أن من مصلحة لبنان أن يتنحى الحريري عن رئاسة الحكومة (مصر تحث الحريري على عدم التنازل أو الإعتذار)، وهذا المناخ يكبر دولياً، وصار متداولاً في معظم الصالونات السياسية اللبنانية، خصوصاً أن البديل سيكون ممره الإلزامي سعد الحريري نفسه
عملياً، عودٌ على بدءٌ. ميشال عون وجبران باسيل يريدان دفع الحريري نحو الإعتذار. حتى أن حضور رئيس تكتل لبنان القوي النشيط في اللجان النيابية في الآونة الأخيرة، يتماهى مع فرضية إطالة عمر حكومة تصريف الأعمال وإستحالة ولادة حكومة جديدة. العنصر المستجد في الحالة الراهنة أن الحريري نفسه، بات يفتقد للحماسة التي خرج بها من بعد جلستي تلاوة رسالة رئيس الجمهورية في مجلس النواب ومن ثم جلسة المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى.
لسان حال بعض المقربين من الحريري أنه سيعود إلى بيروت في الأيام القليلة المقبلة، وستكون له مشاورات، لا سيما مع رئيس مجلس النواب، وبعد ذلك سيطلب موعداً من رئيس الجمهورية، حيث سيبادر للمرة الأولى إلى تسليمه تشكيلة حكومية مكتملة من 24 وزيراً. إذا قرر رئيس الجمهورية مناقشته بالأسماء، بروحية إيجابية، عندها تبقى الأبواب مفتوحة، لكن التقديرات من أكثر من إتجاه تشي بقناعتين راسختين:
الأولى، قناعة عونية بوجوب الإطاحة بالحريري، من خلال دفعه للإعتذار. الأمر لا يقتصر على قراءة سياسية تتحدث عن تراجع الحماسة الإقليمية والدولية للحريري، بل يصل إلى حد عدم التفريط بالتوقيع الألماسي الأخير لرئيس الجمهورية، اي توقيع مراسيم تأليف حكومة يمكن أن تعمر إلى ما بعد إنتخابات رئاسة الجمهورية وعلى جدول أعمالها قضايا عديدة، بينها التحضير للإنتخابات النيابية، وإستكمال التعيينات الإدارية الشاغرة في الفئة الأولى (عشرات المقاعد المسيحية)، وهي قضايا تحتاج إلى ثلثي أصوات مجلس الوزراء، فإذا إنتفى الثلث المعطل.. يستطيع الحريري وباقي مكونات الحكومة تمريرها من دون موافقة باسيل.. وهذه نقطة جوهرية جداً عند الأخير.
الثانية، عدم حماسة الحريري نفسه لتأليف حكومة مهمتها سياسية بإمتياز، أي إجراء الإنتخابات النيابية، وبالتالي، يفضل في هذه الحالة، وفي ظل جدول الأعمال غير الشعبي لأي حكومة جديدة، أن يجلس في مقاعد المعارضة إستعداداً لإنتخابات نيابية يريدها أن تكون مناسبة لإستعادة شعبيته وما خسره من رصيد شعبي في السنوات الخمس من عهد ميشال عون.
يأتي موقف نصرالله تتويجاً للقاءات تكثفت في الآونة الأخيرة بين حزب الله والمؤسسة العسكرية وتُوّجت بزيارة قام بها رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد إلى قائد الجيش العماد جوزيف عون في اليرزة، وهي زيارة كانت غنية برسائلها ومضامينها
إلى أين يمكن أن يفضي هذا المناخ؟
يُفضي إلى ما تقاطعت عنده معلومات عديدة بأن لقاء وزيري خارجية الولايات المتحدة أنتوني بلينكن وفرنسا جان إيف لودريان ومواقف وزراء خارجية الإتحاد الأوروبي وبريطانيا بدأت تناقش جدياً ما إذا كان من مصلحة لبنان أن يتنحى الحريري عن رئاسة الحكومة (مصر تحث الحريري على عدم التنازل أو الإعتذار)، وهذا المناخ يكبر دولياً، وصار متداولاً في معظم الصالونات السياسية اللبنانية، خصوصاً أن البديل سيكون ممره الإلزامي سعد الحريري نفسه.
هنا يصبح السؤال: من هو البديل الأكثر جدية حتى الآن؟
بطبيعة الحال، لم يغب إسم نواف سلام عن بال جهات دولية وعربية ولبنانية، لكن حظوظه ما زالت صفرية حتى الآن، الأمر الذي يعيد النقاش إلى مربع نادي رؤساء الحكومات السابقين، وتحديداً نجيب ميقاتي وتمام سلام.
إذا إعتمدت قواعد التاليف إياها، فإن مهمة أي رئيس مكلف جديد ستصطدم بالحائط المسدود إياه (التسمية والثلث المعطل والثقة إلخ..). لذلك، ثمة من همس في آذان الأوروبيين بأن إذهبوا إلى “ميني” حكومة وحدة وطنية مصغرة بمهمة وحيدة هي إجراء الإنتخابات النيابية في العام 2022.
في هذا السياق، كان لافتاً للإنتباه أن السفيرة الأميركية في بيروت دوروثي شيا، وفي مقابلة مع الزميلة ليال سعد في تلفزيون “الجديد”، أعادت التذكير بمندرجات المبادرة الفرنسية، وفي ذلك إشارة أميركية متصلة أيضاً بلقاء بلينكن ولوديران لجهة إعادة تفويض العاصمة الفرنسية بالإدارة السياسية لملف لبنان، مع ما يقتضيه ذلك من ضبط إيقاع العقوبات الأميركية والأوروبية (تراجع الحديث عنها) تبعاً لتطور الموقف السياسي في لبنان في الأسابيع القليلة المقبلة.
وما إتفق عليه الوزيران الأميركي والفرنسي أعادت التأكيد عليه سفيرة الولايات المتحدة في بيروت بإبقاء ملف دعم القوات المسلحة في لبنان بيد الأميركيين. وقالت شيا إن الإستثمار الذي قامت به بلادها في الجيش اللبناني هو إستثمار مهم “وقد استثمرنا 2.2 مليار دولار في الجيش اللبناني خلال السنوات العشر الماضية”.
تقاطع كلام السفيرة شيا مع الحيز الكبير واللافت للإنتباه الذي أعطاه الأمين العام لحزب الله للجيش اللبناني، فأعاد التأكيد على ثوابت عديدة، ومنها مصلحة حزب الله بتقوية الجيش حتى لو بسلاح الأميركيين، وإعتبر أن الجيش هو الضمانة الحقيقية لأمن لبنان وإستقراره ووحدته، مبدياً تمسكه بالمعادلة الذهبية لقوة لبنان (الجيش والشعب والمقاومة).
ويأتي موقف نصرالله تتويجاً للقاءات تكثفت في الآونة الأخيرة بين حزب الله والمؤسسة العسكرية وتُوّجت بزيارة قام بها رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد إلى قائد الجيش العماد جوزيف عون في اليرزة، وهي زيارة كانت غنية برسائلها ومضامينها.. للبحث صلة.