لطالما كان اليسار الفلسطيني جزءاً لا يتجزأ من حركة المقاومة الفلسطينية منذ انطلاقتها في العام 1965، وكانت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة الدكتور جورج حبش ورفيق دربه وديع حداد والجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين بقيادة نايف حواتمة، في طليعة اليسار الفلسطيني الذي أبدع في ابتكار أشكال مختلفة من المقاومة المسلحة التي شهد له فيها العدو قبل الصديق، كما أعطى لهاتين الجبهتين موقعاً متقدماً في حركة المقاومة الفلسطينية.
ولطالما احتل الحزب الشيوعي اللبناني موقع الصدارة بين الأحزاب الشيوعية العربية لجهة ممارسته حق الكفاح المسلح ضد العدو الإسرائيلي، إذ أن هذا الحزب ومنذ مؤتمره الثاني التاريخي في العام 1968، أعاد النظر في موقفه من المسألة القومية، فقرر تبني القضية الفلسطينية بوصفها قضية مركزية، وبادر إلى ترجمة موقفه السياسي بأشكال مختلفة من العمل العسكري دفاعاً عن فلسطين وعن القرى الأمامية في الجنوب اللبناني، بدءاً من “حركة الأنصار” و”الحرس الشعبي” وصولاً إلى إطلاق “جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية” (جمول) في السادس عشر من أيلول/سبتمبر 1982.
ومن يُراجع أرشيف شهداء الحزب الشيوعي اللبناني بين العامين 1975 و1991، يجد أن عبارة مشتركة جمعت مئات الشهداء الشيوعيين: “سقط دفاعاً عن وحدة لبنان وعروبته وتطوره الديموقراطي وعن المقاومة الفلسطينية”. بذلك؛ كان الحزب الشيوعي العربي الوحيد (ولو أن الحزب الشيوعي الفلسطيني لعب دوراً عسكرياً متواضعاً في صفوف المقاومة الفلسطينية) الذي حمل السلاح ضد العدو الصهيوني.
أنطلق من هذه المقدمة السريعة لا لإجراء تقييم تاريخي للدور المقاوم لحركة اليسار العربي، بل من أجل مقاربة الواقع بظروفه وأدواته ووسائله.. وبالتالي التطلع نحو المستقبل وما يُمكن أن يُبنى عليه. من هنا، لا بد أولاً من النظر إلى اليسار الفلسطيني كونه المعني الأول بما يجري على أرض فلسطين، فبالرغم من تعرض الجبهة الشعبية لضربات قاسية تمثلت باغتيال أمينها العام أبو علي مصطفى ومن ثم اعتقال أمينها العام احمد سعدات وزجه في سجون الإحتلال منذ قرابة 18 سنة، فان الجبهة لا تزال تلعب دوراً كبيراً في حركة المقاومة الفلسطينية المسلحة ناهيك عن دورها السياسي، فيما تراجع دور الجبهة الديموقراطية بالمقارنة مع الحقبات السابقة.
أما الأحزاب الشيوعية العربية، فهي للأسف، ومنذ زمن بعيد، تعيش في حالة غيبوبة فكرية وثقافية وسياسية، لا بل ثمة أحزاب بينها انتقلت إلى المقلب الآخر، كما حصل مع الحزب الشيوعي العراقي الذي تحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية لإسقاط صدام حسين. لذلك، فإن أول حزب شيوعي عربي يتم رصده هو الحزب الشيوعي اللبناني، بسبب ماضيه المُشرف في المواجهة مع العدو الصهيوني، حيث أن لديه قرابة الألف شهيد بينهم ما لا يقل عن مائتي شهيد في صفوف “جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ضد الإحتلال الصهيوني” ومئات الجرحى والمعوقين، فضلاً عن مئات الأسرى ممن تحرّروا على دفعات وهناك جثامين لعشرات الشهداء الشيوعيين ما زالت معتقلة أيضاً لدى “إسرائيل” قبيل انسحابها من لبنان في العام 2000.
إن إعلان التعبئة العسكرية اليوم في صفوف الحزب الشيوعي اللبناني هو القرار الوحيد الذي يتماشى مع تاريخ هذا الحزب ومع رأي غالبية قواعده المنتشرة على كل الأراضي اللبنانية (في التنظيم وخارجه)، وما دون ذلك يبقى بعيداً كل البعد عن المهمات التي ينبغي على الحزب الشيوعي التصدي لها في هذه المرحلة المفصلية من تاريخ بلدنا ومنطقتنا
ومع بدء العدوان “الإسرائيلي” على قطاع غزة في السابع من تشرين/أكتوبر، بادر الحزب الشيوعي اللبناني إلى استنكار العدوان وشارك بفعالية في التحركات الشعبية والتظاهرات أمام السفارة الأمريكية في عوكر وأمام السفارة الفرنسية في بيروت، كما صدرت تصريحات لأمينه العام حنا غريب اتسمت بنبرة داعمة للمقاومة الفلسطينية ومستنكرة للعدوان، ولكن أمام هول ما يحصل في قطاع غزة هل لحزب له تاريخه العريق في الكفاح المسلح ضد الاحتلال أن يكتفي فقط بالتضامن؟
إن موقف الحزب الشيوعي اللبناني اليوم مما يحصل على أرض غزة وعلى حدود لبنان الجنوبية لا يرقى أبداً إلى تاريخ هذا الحزب ودوره، وبطبيعة الحال سيكون رد البعض على هذه المقولة أن قدرات الحزب الشيوعي تراجعت كثيراً غداة انهيار الاتحاد السوفياتي الذي كان يشكل السند الرئيس للحزب. علماً أنه في موضوع القدرات المادية لا بد من التذكير أنه عندما أطلق الحزب الشيوعي اللبناني “جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية” عام 1982 كانت قدراته معدومة تماماً وكان السلاح يُرمى في مستوعبات النفايات في شوارع العاصمة بيروت. لذلك، يُمكن القول إنه عندما تتوفر الرؤية والإرادة والقرار، حتماً ستكون هناك وسيلة للتنفيذ.
هنا، لا بد من النظر إلى الرؤية التي اعتمدها الحزب الشيوعي اللبناني منذ انهيار الاتحاد السوفياتي قبل أكثر من ثلاثة عقود من الزمن. لا شك أن مقررات مؤتمرات الحزب الشيوعي منذ ذلك الحين حتى يومنا هذا، حافظت على أدبياتها الداعمة لفلسطين وشعبها ومقاومتها، ولكن ما تغير هو الإفتقاد إلى الرؤية الواجب اعتمادها لترجمة هذا الدعم، وذلك بذريعة تراجع القدرات المادية والتنظيمية للحزب. فقد خرجت قيادات تاريخية من صفوف الحزب لتنقلب الى المواقع المعادية لكل تاريخ الحزب وتحوّلت إلى أبواق تُنظّر لليبرالية السوق ولسان حالها “التنمية” و”البيئة”، ومنها من أنشأ تنظيمات زعمت أنها يسارية، لكن لم يُكتب لها النجاح ولا الحياة لأكثر من بضع سنوات، فما لبثت أن اختفت واختفى معها هؤلاء “القادة” عن المسرح السياسي. وغاب الوزن المعرفي والنظري والفكري عن القيادات الشابة الجديدة في الحزب التي حافظت بحكم العادة على ما يبدو على يسارية موقفها قومياً لكنها نحت منحى يمينياً داخلياً أقرب ما يكون إلى المنظمات غير الحكومية التي تُسمى NGOs، ففي الوقت الذي دأب الأمين العام للحزب الشيوعي حنا غريب على الدعوة إلى قيام “مقاومة عربية شاملة ضد الإمبريالية الأمريكية وحلفائها في المنطقة، وفي مقدمتهم الكيان الصهيوني”، فإن هناك من أوقع الحزب الشيوعي في فخ المنظمات غير الحكومية من خلال الإنتفاضة الشعبية التي شهدها لبنان في 17 تشرين الأول/أكتوبر عام 2019، فكانت النتيجة أن قيادة الحزب تكاد تفقد البوصلة تماماً، إن لجهة توصيفها لهذه الإنتفاضة على أنها ثورة شعبية أو لجهة القوى التي تستهدفها هذه الإنتفاضة الشعبية.
تناست قيادة الحزب الشيوعي اللبناني في تصنيفها لهذه الانتفاضة أن لا ثورة بلا حزب ثوري يقودها وفق نهج ثوري وبرنامج ثوري، فالإنتفاضة كانت عارمة في ذلك الحين وضمّت في صفوفها ما ضمت من قوى سياسية ذات اليمين وذات اليسار وغالبية مستقلة متضررة من السياسات الإقتصادية والإجتماعية والمالية، لكنها، في الوقت نفسه، كانت بلا قيادة مشتركة وبلا برنامج يُحدّد أهدافها وخطواتها، وتحول معها الحزب الشيوعي إلى مجرد “كومبارس” في مسرحية رسمت معالمها قوى اليمين اللبناني واستثمرتها لصالح “أجندتها”.. وفي كثير من الأحيان ضد قوى المقاومة في لبنان.
أما شعار “كلهن.. يعني كلهن” الذي اعتمدته بعض قوى الإنتفاضة الشعبية ومن ضمنها الحزب الشيوعي، فكان فيه نوع من الإنفصام السياسي، وذلك لأنه وقع في فخ تحويل الإنتفاضة ضد حزب الله المقاوم، (نموذج تظاهرة الأشرفية التي طالبت بنزع سلاح المقاومة، واستضافة اذاعة صوت الشعب لرئيس منظمة مستجدة تسمى “جبهة تحرير لبنان من الإحتلال الإيراني” في أحد برامجها السياسية) بذرائع متعددة (ترابط التحرير والتغيير إلخ..)، فكانت النتيجة أن الحزب الشيوعي اللبناني وضع نفسه في مواجهة المقاومة الإسلامية وحلفائها بذريعة “محاربة الفساد والفاسدين وحماتهم”. كما أنه عمل على استثمار تاريخ الحزب في المقاومة ضد الإحتلال بطريقة مبتذلة من أجل تبرير مواجهته للمقاومة الحالية. فبات يُكثر من الإحتفالات والمهرجانات التي تُمجّد دوره في المقاومة الوطنية من دون أن يحدد ماهية الدور الذي ينبغي أن يلعبه في مواجهة العدو، خاصة مع استمرار احتلاله مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وشمال بلدة الغجر وبعض عقارات بلدة الماري الحدودية.
إن رفع شعار “المقاومة العربية الشاملة” يطرح السؤال الذي لم يُقدّم الحزب الشيوعي اللبناني رداً عليه: من هي القوى التي يجب أن تتشكل منها هذه المقاومة؟
بطبيعة الحال، هناك خلاف أيديولوجي عميق بين الحزب الشيوعي اللبناني والقوى التي تتصدر صفوف المقاومة مع الإحتلال الصهيوني وداعمه الأمريكي، فالحزب الشيوعي بما هو حزب علماني لا يتوافق مع الأيديولوجية الإسلامية للمقاومة التي يُمثلها حزب الله في لبنان وحركتي حماس والجهاد الاسلامي في فلسطين ولا مع إيران الداعم الرئيس لهم. وهنا أيضاً غاب عن ذهن الحزب الشيوعي اللبناني منطق ترتيب الأولويات ماركسياً، لجهة تحديد التناقض الرئيسي والتناقض الثانوي، من أجل أن تتقدم أولوية الصراع الأساسي على الصراع الثانوي، فهل الصراع الأساسي اليوم هو مع هذه القوى أو أن الموقع الطبيعي للحزب الشيوعي هو في أن يكون في موقع التحالف معها؟
لقد جاءت الحرب الهمجية البربرية على غزة منذ أقل من شهر لتؤكد بما لا يقبل الشك أن الصراع الرئيسي في العالم وفي منطقتنا لا يزال مع الرأسمالية العالمية المتوحشة بقيادة الإمبريالية الأمريكية، وأن الصراع في منطقتنا لا يزال صراعاً وجودياً بين شعب فلسطين من جهة والمستوطنين الذين جلبوا من أربع جهات الأرض لإقامة كيان يشكل قاعدة عسكرية متقدمة للرأسمالية العالمية بقيادة واشنطن من جهة أخرى.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن التحالف مع مقاومة حزب الله الإسلامية لا يعني الذوبان أبداً في إطارها، بل يُمكن التحالف معها في مواجهة العدو والإختلاف معها في أمر المواجهة مع منظومة الفساد اللبنانية. أما عن البعد الطائفي لهذه المقاومة الإسلامية، فان تاريخ الحزب يشهد أنه في ضوء تحديد التناقضات يتم رسم التحالفات، وإلا كيف يُمكن تفسير تحالفه مع قوى طائفية في مواجهة قوى أخرى ولا مجال لاعطاء أمثلة الآن.. بل هي أكثر من أن تُعد وتُحصى منذ العام 1982 حتى يومنا هذا؟
إن أقل ما كان يمكن للحزب الشيوعي اللبناني أن يفعله منذ اللحظة الأولى للعدوان هو تدارك خطأه التاريخي عبر تموضعه في المواجهة مع قوى المقاومة عبر إعلان سياسي يُحدّد من خلاله موقعه الطليعي في المواجهة ويدعو عبره إلى التعبئة العامة للشيوعيين (ولو بصورة عسكرية متواضعة) بالتنسيق مع المقاومة الإسلامية ميدانياً، بدل الإكتفاء بإصدار بيانات الإدانة والإستنكار للعدوان إلى حد يجعل الحزب الشيوعي أشبه ما يكون بمنظمة إنسانية غير حكومية أو في أحسن الأحوال نقابة عمالية تتظاهر في مصنع لتحسين أوضاع العمال فيه!
إن الإكتفاء بهذا النوع المتواضع من البيانات يتناسى أيضا المقولة الماركسية بالرد على العنف الرجعي بعنف ثوري مضاد، وهل هناك عنف رجعي أكبر من الذي يواجهه جنوب لبنان وفلسطين اليوم من العدو الصهيوني بدعم سافر من الولايات المتحدة الأمريكية؟
إن إعلان التعبئة العسكرية اليوم في صفوف الحزب الشيوعي اللبناني هو القرار الوحيد الذي يتماشى مع تاريخ هذا الحزب ومع رأي غالبية قواعده المنتشرة على كل الأراضي اللبنانية (في التنظيم وخارجه)، وما دون ذلك يبقى بعيداً كل البعد عن المهمات التي ينبغي على الحزب الشيوعي التصدي لها في هذه المرحلة المفصلية من تاريخ بلدنا ومنطقتنا.