الإنسحاب الأميركي المنقوص.. رافعة توازن مع إيران

لا يرقى إعلان الرئيس الأميركي جو بايدن عن انتهاء "المهام القتالية" للقوات الأميركية في العراق بحلول نهاية العام، بأي شكل من الأشكال إلى مستوى إعلان الإنسحاب الكامل من أفغانستان بحلول نهاية آب/أغسطس الجاري. 

هناك تناقض صارخ بين الإعلانين، مما يستدعي التساؤل عن الأسباب التي تحمل البيت الأبيض على اعتماد مقاربتين مختلفتين لأطول حربين أميركيتين، شنتهما الولايات المتحدة ضد العراق وأفغانستان، بعد تعرضها لهجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001.

كانت كلفة الحرب في العراق أقسى بشرياً ومادياً على الولايات المتحدة، ويمكن اعتبار بايدن على تماس مع التطورات العراقية أكثر من غيره من الرؤساء الأميركيين، وقد زار العراق 16 مرة خلال عمله السياسي، بينها 7 زيارات خلال توليه منصب نائب الرئيس السابق باراك أوباما. وصوّت على قرار مجلس الشيوخ في عام 2002 الذي منح الرئيس سابقاً جورج دبليو بوش، تفويضاً باستخدام القوة في العراق. لكنه أقر في ما بعد بخطأ قراره. وأسقط بايدن تداعيات الحرب على وضعه الشخصي، فذكر أكثر مرة أن سبب إصابة إبنه بو الذي خدم في العراق بسرطان الدماغ والذي أدى إلى وفاته لاحقاً، كان التعرض لسموم ناتجة عن حرق نفايات عسكرية هناك.

ومع ذلك، قرر بايدن البقاء في العراق تحت مظلة تقديم المشورة والتدريب للقوات العراقية ومقاتلة فلول تنظيم “داعش”. أما الأسباب الاستراتيجية الأبعد، فهي مرتبطة مباشرة بعدم إخلاء الساحة العراقية للنفوذ الإيراني بالكامل وإيجاد توازن مع دور طهران هناك. وتنقل صحيفة “النيويورك تايمز” الأميركية عن السفير الأميركي السابق في العراق جيمس جيفري “أن القوات الأميركية في العراق تساعد على توفير توازن سياسي مع إيران وعلى احتوائها، لما تشكله من خطر على المنطقة”.

سقوط صاروخين قرب السفارة الأميركية في المنطقة الخضراء ببغداد بالتزامن مع عودة الكاظمي من زيارته لواشنطن، يبعث برسالة غير مطمئنة بالنسبة إلى المقاربة الأميركية لمسألة البقاء عسكرياً في العراق

وحتى لو اقتضت مصلحة أميركا وإيران التوافق على إحياء الإتفاق النووي لعام 2015، فإن الصراع على النفوذ في الشرق الأوسط لن ينتهي. وها هي إدارة بايدن تربط عودتها إلى الإتفاق بموافقة إيران على البحث لاحقاً في حدود برنامجها الصاروخي ونفوذها الإقليمي. وهاتان نقطتان اعتبرهما المرشد الأعلى في إيران علي خامنئي من أسباب تأخير مفاوضات فيينا.

وإنهاء “المهام القتالية” كانت صيغة وسط إرتآها بايدن لرفع ضغط فصائل الحشد الشعبي المطالبة بالإنسحاب الأميركي الكامل، عن رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، والإحتفاظ في الوقت نفسه بوجود عسكري أميركي في هذا البلد. بيد أن سقوط صاروخين قرب السفارة الأميركية في المنطقة الخضراء ببغداد بالتزامن مع عودة الكاظمي من زيارته لواشنطن، يبعث برسالة غير مطمئنة بالنسبة إلى المقاربة الأميركية لمسألة البقاء عسكرياً في العراق.

وفضلاً عن الأسباب المتعلقة بإيران، يعتقد المسؤولون العسكريون الأميركيون أنه في حال الإنسحاب الكامل من العراق، لن يكون في امكان 900 جندي أميركي ينشرون الآن في منطقة سيطرة “قوات سوريا الديموقراطية” التي يقودها الأكراد في شرق سوريا، البقاء في هذه المنطقة الحيوية جداً بالنسبة إلى الضغط الإقتصادي الذي تمارسه واشنطن على نظام الرئيس بشار الأسد. إذ أن آبار النفط وحقول القمح تتركز في هذه المنطقة. ومن شأن بسط النظام سيطرته عليها أن تشكل له متنفساً اقتصادياً هو في مسيس الحاجة إليه.

وما دامت الولايات المتحدة لا تملك مقاربة للحل في سوريا غير تشديد العقوبات، فمن غير الوارد سحب القوات الأميركية من شرق سوريا.

ويضاف إلى كل هذه الأسباب، أن لا ضغط أميركياً داخلياً على بايدن للإنسحاب الكامل من العراق. ومسؤولون كثيرون لا يزالون ينتقدون أوباما على إنجازه الإنسحاب الكامل في 2011، ومن ثم مسارعته للعودة في 2014 لمواجهة “داعش”.

“الإيكونوميست”: “عندما بدأت أولى القذائف الأميركية تتساقط على بغداد في 19 أذار/مارس 2003، لم يدر في خلد بوش الإبن أن الجنود الأميركيين سيبقون في العراق 18 عاماً وأن آباء وبنوناً سيقاتلون في الحرب نفسها”

أما في أفغانستان، فقد رسم بايدن خطاً أحمر لعدم العودة إلى هناك، يتمثل في عدم حصول هجمات على الأراضي الأميركية من قبل تنظيمات تتخذ الأراضي الأفغانية مقراً لها. وهو لا يهتم كثيراً بمن يحكم هذا البلد المعقد، سواء الحكومة الحالية الموالية للغرب أو طالبان. وطالما لا تتعرض الولايات المتحدة لهجمات على غرار 11 أيلول/سبتمبر 2001، فإنها لن تعود عسكرياً إلى هناك. وهذا مغزى الاتفاق الذي كان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب قد وقّعه مع حركة طالبان في شباط/فبراير 2020، والتزم بايدن تنفيذه على عكس كثيرٍ من الخطوات التي اتخذها ترامب وعكسها بايدن لدى دخوله إلى البيت الأبيض.

وفي حال العراق، الأمر مختلف، إذ أن “داعش” وفروعه المختلفة في العالم لا تزال تضرب حيث يتسنى لها في مناطق مختلفة من العالم، على رغم أن أراضي “الخلافة” التي أعلنت عام 2014 في سوريا والعراق قد زالت. لكن التقديرات الأميركية تفيد باستمرار وجود ما يتراوح بين 8 آلاف و16 ألف مقاتل لـ”داعش” عبر الحدود العراقية – السورية.

إقرأ على موقع 180  "أنور السّادات".. أو "الشّتاء العربي" الطّويل

وهذه إحدى المبررات التي يوردها المسؤولون الأميركيون في معرض الدفاع عن قرار استمرار الوجود العسكري الأميركي في العراق واستطراداً في سوريا.

وهكذا، يبدو أن إبقاء 2500 جندي أميركي في العراق و900 آخرين في سوريا، هو خارج الإتجاه الأميركي العام إلى سحب المزيد من القوات الأميركية من الشرق الأوسط، من أجل التركيز على منطقة آسيا-المحيط الهاديء مع تصاعد المواجهة مع الصين. وفي هذا الصدد، تقول المسؤولة السابقة في البنتاغون ميشيل فلورنوي، إنه “على رغم النقاشات التي تمنح أولوية لمنطقة آسيا-المحيط الهاديء، فإننا لم ننقل بعد كل ثقلنا في ذاك الإتجاه”.

مجلة “الإيكونوميست” البريطانية علّقت على إعلان بايدن إنهاء المهام القتالية للقوات الأميركية في العراق، فكتبت أنه “عندما بدأت أولى القذائف الأميركية تتساقط على بغداد في 19 أذار/مارس 2003، لم يدر في خلد بوش الإبن أن الجنود الأميركيين سيبقون في العراق 18 عاماً وأن آباء وبنوناً سيقاتلون في الحرب نفسها”.

Print Friendly, PDF & Email
سميح صعب

كاتب وصحافي، لبنان

Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  لـ"17 تشرين المرحوم".. "تعيش وتاكل غيرها"!