– أين يقع غاز شرق المتوسط في استراتيجيات الكبار؟
أود أن أنطلق من قصة بوعميّة، ملك مدينة صور في عام 831 ق.م.، الذي هرب إلى قبرص، حين هجم الآشوريون على المدينة. ويبدو أن نساء الجزيرة كنّ معجبات به، في حين لم ترُقَ أيّ منهنّ له، فقرر أن ينحت تمثالاً لفتاة أحلامه، وقد فعل ذلك بالفعل، وصار متيّماً به، إلى حد صعبت حاله على الآلهة، وخصوصاً الإلهة أثينا، التي قررت أن تبث الحياة في التمثال ليصبح گالاتيا، امرأة من لحم ودم، فتزوّجها وعاشا في ثبات ونبات، كما تقول الأسطورة. وبما أن اللغة الفينيقية وغيرها من اللغات السامية تحتوي على تنوين، فإنّ اسم بوعميّةٌ تحوّل في اللغة اليونانية إلى پگماليون Pygmalion ، الذي صار عنوان القصة الشهيرة في الأدب العالمي، وهي قصة أن يصنع أحدُهم شيئاً بيديه ويقع في غرامه في ما بعد.
لماذا نحكي هذه القصة؟ لقد عبر بوعمية شرق المتوسط، من صور إلى قبرص، ولم تعجبه إياً من بنات الجزيرة، فأصرَّ أن يخلق بيديه ما يريده تماماً. هذا بالضبط ما حدث في مطلع العام 2001. في ذلك الوقت، وصلت إدارة جديدة إلى البيت الأبيض، وعلى رأسها ديك تشيني، نائب الرئيس، الذي بادر فور تسلّمه مهام منصبه إلى تشكيل “إنرجي تاسك فورس”، وهي مجموعة عمل أخذت على عاتقها النظر في مستقبل الطاقة في العالم، وأجرى لقاءات كثيرة مع كبار رجال صناعة النفط في العالم، وكبار المسؤولين في بعض الدول التي اختارها شخصياً.
قبل ذلك، كان تشيني يشغل منصب رئيس مجلس ادارة شركة ” هاليبرتون”، وفي أواخر التسعينيات كان دائم التجوال في شرق المتوسط، حيث نفذ مشاريع هائلة قبل أن يدخل إلى البيت الأبيض، وقد واصل تلك الأعمال بعد وصوله.
حين أتحدّث عن بوعميّة الذي “لم تعجبه بنات الحي”، فإنّ هذا بالضبط ما حصل مع تشيني، إذ قابل “الشقيقات السبع”، أي كبرى شركات النفط في العالم، ولم ترق له أيّ منها، فوجد أن الحل لما يراه في شرق المتوسط يتطلب أن يصنع بنفسه ما يريد بيديه وتحت نظر عينيه.
(للمزيد، يمكن متابعة مقال “ثروات العرب الضائعة في البحر المتوسط” في موسوعة المعرفة، الذي يحدّث باستمرار، ويضم روابط لمئات المقالات بالموسوعة عن قضية غاز شرق المتوسط)
قصة “بوعميّة” وتمثاله هي تماماً قصة ديك تشيني وغاز شرق المتوسط
تقنية المنصات شبه الغاطسة
منذ 1980، وعلى خلفية أزمة الحظر النفطي غداة حرب 1973، شهدنا اهتماماً كبيراً بموارد الطاقة المختلفة التي لم تستغل من قبل. وفي الفترة الممتدة بين العامين 1980-1985، كان هناك نشاط محموم من جانب الاتحاد السوفياتي للقيام بمسح باثيمتري وسيزمي في منطقة شرق المتوسط، وهو ما قامت به سفن روسية وبلغارية بالفعل، واكتشفت أن الأعماق في بعض مناطقه تصل إلى 4,280 متر. ولذلك توقف الأمر عند هذا الحد، لعدم وجود وسيلة للحفر على أعماق تفوق 1,000 متر، ولم يتقدم أحد للقيام بهذا العمل، إلى أن بدأ ظهور تقنية جديدة في العام 1998، وهي تقنية المنصات شبه الغاطسة semi-submersible لاستخراج النفط والغاز، التي كان أول استخدام فعلي لها في العام 1999. هذه المنصات العائمة مثّلت حلاً لمشاكل كبيرة متصلة بإمكانية الوصول للأعماق الكبيرة تحت الماء، وقد بدأ استخدامها للمرة الأولى في خليج المكسيك، ومن ثم خارج الولايات المتحدة في البرازيل، حيث تمّ بواسطتها اكتشاف حقلين هائلين للغاز في العام 2000، ويمكن القول إن جزءاً أساسيا من الفورة الاقتصادية التي شهدتها البرازيل في عهد لولا دا سيلفا كان بسبب هذه التقنية.
في العام 1980، وصل فريق من شركة “أموكو” الأميركية إلى قبرص، والتقى بوزير خارجيتها نيكوس رولانديس وقالوا له: نعرف أخباراً كبيرة ستغير كثيراً في الاقتصاد القبرصي، ولكن ذلك سيحصل بعد سنوات، وما نحتاجه منك هو أن ترسم خريطة أحلامك لحدود قبرص البحرية، وهو ما ذكره الوزير القبرصي في مذكراته.
بدأت الرحلة في 4 آب عام 1980، عندما كان نيكوس رولانديس وزيراً للخارجية القبرصية، والتقى إم جي أمبروز، المدير التنفيذي لشركتي “أموكو” و”ستاندرد أويل إنديانا”، الذي أخبره بأن تلك الشركات كانت مهتمة بالاستثمار والتنقيب عن النفط والغاز أمام السواحل الجنوبية لقبرص. وكان أمبروز يتحدث عن “إحتياطيات ضخمة”. في الوقت ذاته، كان مكتب العلاقات العامة القبرصية في واشنطن دي. سي. قد أخبر الخارجية القبرصية بأن تركيا قد علمت بخصوص الاهتمام الأميركي بالغاز، وأنها هددت بالقيام بعملية عسكرية في قبرص.
في اليوم التالي، ذهب أمبروز برفقة رولانديس للقاء الرئيس القبرصي سبيروس كيبريانو، وبعد اللقاء، طلب الأخير النصيحة من كورت فالدهايم، الأمين العام للامم المتحدة، حول هذا الموضوع. رد عليه فالدهايم بأن حاول أن يثنيه المضي قدماً في الأمر تحسباً للتهديدات التركية.
في 20 أيلول عام 1983، استقال رولانديس من وزارة الخارجية، لكنه احتفظ بنسخة من ملف المقابلات الخاصة بالنفط والغاز. وفي 1 آذار عام 1998، تولى رولانديس وزارة التجارة، الصناعة والسياحة. كانت الطاقة واحدة من حقائب وزارته. أخبرته غريزته بوجود هيدروكربونات هناك، لكنه كان يخشى من تعريض نفسه وحكومته للسخرية في حالة الفشل. قبل مرور شهر، كان رولانديس خارج الوزارة، إلا أن المطران دمسكينس من سويسرا والسفير اليوناني في سوريا يوانيس موريكيس (وكان على علاقة وثيقة بهما) ناشدوه ونصحوه بأن شركات النفط الأميركية الكبرى كانت مهتمة بقطاع النفط والغاز في قبرص. وقد شجعته هذه المعلومات.
خريطة أحلام رولانديس
شركات النفط تعلم جيداً ما هي التقنيات الجديدة التي ستتوفر بعد سنوات قليلة، ومن بينها تقنية الحفر العميق (بالمنصات شبه الغاطسة)، وما هي الأماكن المرشحة لأن تكون فيها جوائز كبيرة، وعلى رأسها شرق المتوسط. فطُلب من رولانديس في النهاية أن يعد خريطة أحلامه. وفي آذار من العام 2001، كان واحداً من السياسيين القلائل الذين دعاهم تشيني إلى مجموعة العمل حول الطاقة.
ما ظهر إلى العلن من مجموعة العمل هذه قليل جداً، خاصة أن عملها أحيط بستار كثيف من التعتيم. ولكننا نعلم أنه في هذه الفترة، حين كان تشيني رئيس مجلس إدارة “هاليبرتون” ومن ثم “إنرجي تاسك فورس”، علاوة على كونه نائب الرئيس الأميركي، أنشأ محطتي تسييل غاز في مصر، وتحديداً في دمياط وإدكو.
والجدير بالذكر أن إنتاج الغاز في مصر في ذلك الوقت لم يكن يبرر انشاء حتى محطة واحدة، ذلك أنّ الغاز المكتشف والمتوقع حينها كان أقل بكثير من الاستهلاك الداخلي في مصر. علاوة على ذلك، من أهم الأفكار التي برزت في تلك الفترة كانت فكرة أنبوب الغاز العربي، بحجة أن مصر لديها كميات كبيرة من الغاز للتصدير، وهذا الأمر لم يكن صحيحاً في ذلك الوقت بأي شكل من الأشكال.
غيرة مبارك القومية
– إذاً الانبوب لم يكن يعبّر عن مصلحة مصر، بقدر ما كان تعبيراً عن مصلحة أميركية…
لماذا تقول هكذا؟ قد يكون الأمر بدافع الوحدة العربية (يضحك). فجأة ظهر وازع الوحدة العربية في قلوب المسؤولين المصريين، وخصوصاً لدى أنظمة محترمة لها باع طويل في الوحدة والقومية، مثل نظام حسني مبارك والملك الأردني حسين في آخر أيامه.
يبدأ أنبوب الغاز العربي من القاهرة باتجاه العريش، ثم يذهب جنوباً إلى نقطة في طابا، ليعبر بعد ذلك خليج العقبة بحراً باتجاه الأردن، ومن هناك يتجه شمالاً إلى الحدود السورية. تقرر وقتها أن يصل أنبوب الغاز العربي إلى سوريا، ثم إلى أشقائنا في لبنان، وجرى الحديث عن إمكانية امتداده إلى أقصى حدود سوريا، بلدة كلس على الحدود التركية. في مصر، كان تسيير خط الغاز العربي عبر شركة حكومية، وفي الأردن عبر شركة “فجر” التي هي شراكة بين الاستخبارات المصرية والأردنية والإماراتية التي تولت إيصال الغاز من العقبة إلى الرحاب على الحدود السورية. بعد ذلك، كانت المرحلة الثانية، أي من الرحاب إلى حمص، بطول 324 كيلومترا، وتحديداً في دير علي، وهي نقطة مهمة للغاية. للتذكير، فإنّ سوريا في تلك اللحظة لم تكن لها على الإطلاق أية علاقة بالغاز الطبيعي، وبالرغم من ذلك، أنشئت محطة التعامل في دير علي بسعة 1.1 بليون متر مكعب سنوياً، على أن تقوم هذه المحطة بتغذية محطتي “تشرين” و”دير علي” للكهرباء (اكتملت في شباط عام 2008)، وقد بدأت أعمال بناء شبكة كبرى خاصة للبنية التحتية للغاز في سوريا. ثمة تفصيل صغير ولكنه مهم: في كل دولة تُناط مقاولة المنشأة بشركات داخل الدولة، أما سوريا، فقد أناطت ذلك إلى شركة “سترويترانسگاز” الروسية التي يملكها گنادي تيمشينكو، وإن دلّ ذلك على شيء، فهو أن الدب الروسي كان متقيظاً، لا سيما أنه كان متابعاً لهذا الملف منذ عام 1980، وما إن لاحظ وجود “وحدة عربية” و”قومية عربية” في الغاز، سارع للتدخل مباشرة.
لبنان.. والغاز الطبيعي
حتى لحظة توقيع العقد مع سوريا، كان الحديث فقط عن حمص، بعد ذلك تحدثوا عن فرع للبنان، يتم ربط انبوب الغاز العربي بمدينة طرابلس، ولم تمانع “سترويترانسگاز”، ثم كان اقتراح بإيصاله إلى الحدود التركية، وهنا تكهرب الموقف. وصلة حمص-طرابلس تمتد من محطة الضخ في الريان إلى بانياس بسوريا ثم عبر أنبوب طوله 32 كيلومتراً إلى طرابلس في لبنان. الاتفاقية الخاصة ببدء الإمداد بالغاز وُقـِّعت في 2 أيلول عام 2009، وقد بدأ اختبار التشغيل في 8 أيلول عام 2009، والإمداد المنتظم في 19 تشرين الأول عام 2009، حيث تم تسليم الغاز إلى محطة دير عمار لتوليد الكهرباء.
في 30 أيار عام 2009، أعلن وزير الطاقة اللبناني، ألان طابوريان للصحافيين، خلال مؤتمر في القاهرة لوزراء طاقة دول خط الأنابيب إنه “بعد وعود كثيرة جرى الاتفاق على توقيع الوثائق النهائية اليوم وإن مد الغاز سيبدأ في عام آب 2009″، وأن لبنان سيحصل على ثلاثين مليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي عن طريق خط الغاز العربي اعتبارا من نهاية صيف 2009.
وكان هناك مقترح بمد فرع للخط من بانياس إلى قبرص، وهنا أيضاً تبدل الموقف وتغير كل شيء.
– لماذا تكهرب الموقف مع تركيا، في حين أن تلك الحقبة شهدت افضل العلاقات السورية التركية؟
انا أهمل دائماً علاقات اللاعبين الصغار، وأركز على الكبار، فاللاعبون الصغار وزنهم صغير في مثل هذه القضايا.
– نفهم منك أن الموضوع كان بين أميركا وروسيا؟
تماماً. لقد أدرك الروس أن ثمة لعبة “كش ملك” تمارسها أميركا، وأن ديك تشيني يلعب آخر ورقة في ما تبقى من صراع أميركي- روسي أو اميركي – سوفياتي، حيث أراد أن يسدد الطعنة النجلاء، للقضاء التام على الدب الروسي، وهذا لم يكن ليتم إلا في قطاع النفط والغاز، ذلك أن 60 في المئة من دخل روسيا يأتي من عائدات الصادرات الهيدروكاربونية. والحل الوحيد بالتالي كان إيجاد غاز يقتل سوق الغاز الروسي في أوروبا، والمكانين الأساسيين المرشحان كانا هما الغاز الجزائري والليبي ولو بدرجة أقل، وغاز شرق المتوسط. الغاز الجزائري – الليبي لم يكن كبيراً لتسديد الضربة التي تغني أوروبا عن الغاز الروسي، ولكن بالرغم من ذلك، فإنّ أهم ما انتجته “إنرجي تاسك فورس” كانت “أصابع تشيني الخمس” ، حيث صدرت الأوامر بإنشاء خمس أنابيب لنقل الغاز، أربعة منها تنطلق من الجزائر، وواحد من ليبيا، إلى جنوب أوروبا. أحد هذه الخطوط كان أنبوب ينطلق من الجزائر عبر المغرب (برغم كل ما صنع الحداد بين النظامين الجزائري والمغربي) ليصل إلى جنوب إسبانيا، وهناك أيضاً خطان للانابيب ينطلقان مباشرة من الجزائر إلى أسبانيا، وخط من الجزائر عبر تونس إلى صقلية، والخط الأخير من ليبيا (السيل الأخضر) إلى صقلية أيضاً، وقد تم تنفيذ كل هذه الخطوط في أقل من ثلاث سنوات.
حقول الجزائر تنضب!
الآن نسمع عن تظاهرات الحراك الجزائري، وقلوبنا معه بلا شك، ولكنني أود أن أنبه إخواننا الجزائريين، بأن ما يحصل لديهم يبدو أقرب إلى معركة على الغاز، فالمغرب العربي بأكمله، ولا سيما الجزائر، يغرق، والسبب في ذلك يعود إلى الفترة الممتدة بين العامين 2003-2005، حين وصلت الجزائر إلى أقصى انتاج لها من الغاز بغرض إمداد تلك الخطوط الخمس، ففــُتــِحت الصنابير على أقصى درجة ممكنة، ما تسبب ببدء نضوب مضطرد لأكبر حقلين في الجزائر، حاسي مسعود وحاسي الرمل اللذين هما عماد الاقتصاد الوطني، وستبدأ الجزائر في الاستدانة في العام القادم 2020. لقد جرت محاولة إمداد أوروبا بالغاز بصرف النظر عن الأثر المبدِّد للضخ الجائر على مستقبل اقتصاد الدول المعنية.
ما حدث في الجزائر لا يختلف عمّا حدث في السعودية والكويت، في الفترة ذاتها، حيث كانت السعودية تُغرق السوق بالنفط، وكان ذلك على حساب حقل الغوار، أكبر حقل نفط في العالم. أول من تحدّث عن الأمر كان سداد الحسيني (جيولوجي سعودي من أصل سوري. كان النائب التنفيذي لرئيس مجلس إدارة شركة “أرامكو” لشؤون الاستكشاف”، إذ كشف في العام 2009، أن انتاج هذا الحقل بلغ ذروته في العام 2007 (10-11 مليون برميل يومياً)، أي أنه في تناقص منذ ذلك الحين. فأقيل من أرامكو. وللحفاظ على مستوى عالٍ من الانتاج، اضطرت السعودية مع بدء تناقص انتاج الغوار إلى الدخول في عصر الحقول الباهظة التكاليف، مثل حقل خريص منخفض الجودة عسير الاستخراج، المكتشف في 1957، ولم يتقرر استغلاله إلا في 2007، بتكلفة قاربت 20 مليار دولار، مقاولها الرئيسي هاليبرتون.
غاز شرق المتوسط
بالرغم من أن الغاز الذي أخرج من الجزائر وليبيا قد نضّب الحقول، إلا أنه لم يكن كافياً، فكان الحل المتبقي في شرق المتوسط. في العام 2000، أعطت وزارة البترول المصرية امتيازاً للتنقيب لشركة شل، في ما يسمّي بـ”امتياز شمال شرق المتوسط NEMED“، الذي يشمل كل المياه العميقة لمصر في البحر المتوسط. في شهر كانون الأول من العام ذاته، حفرت “شل” بئرين، أسمتهما “ليل” و”شروق”، لكنها قالت لاحقاً أنهما جافان. وفي العام 2002، أعلنت الشركة عن بئرين آخرين هما LA51 و KG45، وحينها صرح رئيس قسم الاكتشافات في شركة “شل” إن اكتشافهما سيغير خريطة الطاقة في العالم، متوقعاً أن يبدأ الانتاج في أقل من ثلاث سنوات.
هكذا رسمنا حدودنا مع قبرص
في مطلع شباط عام 2003، كنت على إفطار رمضاني بنيويورك، حين أخبرني أحمد فتح الله، الذي كان رئيس الادارة القانونية في وزارة الخارجية المصرية، ثم شغل منصب ممثل جامعة الدول العربية في الأمم المتحدة، أن مكالمة صباحية أتته (في الأول من شباط) تضمنت أوامر بالتحرك سريعاً وترسيم الحدود المصرية مع قبرص خلال أسبوعين. سألته: هل قمت بأية مفاوضات مع قبرص من قبل؟ فأجاب لا، ولكن نبرة المكالمة أفهمتني أن الموضوع لا يحتمل التأخير. سألته: هل أتى ذلك من قِبل الوزير؟ فأجاب: كلا، أعلى بكثير. ما فهمناه، هو أن جمال مبارك كان المقصود بذلك. ذهب (فتح الله) وقابل نيكوس رولانديس، الذي أخرج خريطة أحلامه، وكانت تشمل ست نقاط مع مصر، كأقصى طموحات له ونقطتين إلى الغرب من النقاط الست، على أمل أن تتمكن اليونان من الحصول عليهم (من تركيا ومصر معاً) وذلك حتى تتماس الحدود القبرصية مع الحدود اليونانية لجزيرة كريت، وهو أمر مهم جداً بالنسبة إلى القبارصة اليونانيين للتواصل مع أسلافهم في اليونان وذلك حتى دون أن يدري بأفكار متصلة بأنابيب أو ما شابه. بالمختصر، ذهب أحمد فتح الله بخريطة تضم ست نقاط ولكنه عرض خريطة بثماني نقاط. بسبب درجة الرعب من المكالمة التي أتته، وافق فتح الله على النقاط الثماني، بدون أي نقاش. وانتهت القصة بسرعة كبيرة، وبذلك وصلنا للحدود المجحفة الحالية. ففي 17 شباط، اجتمع رولانديس مع وزير الخارجية المصري أحمد ماهر ووقعا اتفاقية ترسيم الحدود. قبل ذلك بستة أشهر، أسس جمال وعلاء مبارك شركة بوليون للاستثمار في المنطقة، ومركزها الرئيسي قبرص.
بذلك، فوجئت شركة “شل”، مثلما فوجئ كل العالم، بأن 17 في المئة من الطرف الشمالي لإمتيازها، والذي عثرت فيه على آبار، لم يعد مياهاً مصرية. ما حصل أن رولانديس قدّم نقاطاً من واحد إلى ثمانية، ومصر وافقت على الفور، مع أنها كانت تعتقد أن حدودها من الشرق تمتد إلى ما قبل النقطة رقم واحد. مع ذلك، قررت الموافقة على النقاط الثماني مع وضع بند ينص على أنّه في حال وصلت قبرص إلى اتفاق تشمل الحدود في الشرق مع إسرائيل، فيجب أن يكون ذلك بموافقة مصر.
نفس الملعوب مع لبنان
هذه هي بالضبط مشكلة ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، فهناك النقطة 1 اللبنانية و23 الاسرائيلية، وهنا تقع المشكلة. لا بد من الانتباه إلى هذه النقطة . اللعبة تمت حين قالت مصر إن حدودنا هي من النقطة 1، ولكن يمكننا أن نتفاوض على حدودنا الشرقية. إثر ذلك، دخلت إسرائيل على الخط، واتفقت مع قبرص على ترسيم الحدود، وقالت إن النقطة واحد هي بداية الحدود الإسرائيلية، وبالتالي فإنّ البئرين اللذين كانا بإمتياز نيميد، بحسب ما أعتقد انطلاقاً من احداثيات وقرائن أخرى، واللذين لم يتحققا أصبحا “لفياثان” الإسرائيلي و”أفروديت” القبرصي. وقد أكون مخطئ، ولكن لابد من التأكد والشفافية. بنفس المنطق، يجب التأكد من الموقع الحقيقي لحقل تمار بالنسبة للمياه اللبنانية، ولا تأخذوا الخرائط المروجة كحقائق مسلم بها.
– … وهما المكمنان الأساسيان لقبرص وإسرائيل، وهنا الفضيحة!
في الواقع ليست هذه الفضيحة الوحيدة، فثمة فضائح كبيرة أخرى في الموضوع.
“يا خيبتك القوية يا ربيع”
– هل الخطأ الذي ارتكبه لبنان في الترسيم مع قبرص يأتي ضمن السياق الذي تتحدث عنه؟ بمعنى هل كان خطأ متعمّدا؟
في الحلقة الثانية من برنامج “لعبة الأمم” على قناة “الميادين” مع سامي كليب، كنت ضيفاً، ومعي ضيف لبناني آخر، هو مستشار رئيس مجلس النواب في ملف الطاقة الاستاذ ربيع ياغي. اختلفت معه كثيراً حينها، وحذرته على الهواء. كان يلخص موقفه بأنّه لن ينالنا إلا كل خير من التعاون مع الشركات المحترمة أمثال “شل” و”بريتش بتروليوم” و”توتال”. فقلت له: لن يحك جلدك مثل ظفرك. لا بد أن ثمة معلومات خطيرة لا تستطيع أن تفرط بها لأحد. كان يحكي عن قصة نجاحه في أنه اتفق مع إحدى الشركات النرويجية على إجراء مسح لكل المياه الاقليمية اللبنانية، ليس فقط مجاناً، بل سيحصل لبنان على 20 ألف دولار من ثمن بيع كل نسخة من نتيجة المسح السيزمي. أبديت سخطي وقلت في نفسي: “يا خيبتك القوية”… أنت تذهب لتبيع كل ما عندك، وتعطيه للناس في مقابل 20 ألف دولار. الحقيقة، ما يصدمني في لبنان هو أن كل الأفرقاء مخطئون في ملف الطاقة، ولا أحد يقرأ ويتعظ مما يحصل حوله… إذاً كل هذه الأخطاء كانت نمطا.
ثمة أمر مهم، كان يجب التطرق إليه عند الحديث عن أنبوب الغاز العربي، ففي الفترة ذاتها نشأ خط من عسقلان إلى العريش، وهو الخط الذي تم من خلاله تصدير الغاز المصري إلى إسرائيل. لم نكن نعلم أن هذا الخط سينقلب اتجاه الغاز فيه بعد ذلك، ولا أعلم ما إذا كانت هذه النية قائمة منذ البداية أم لا. يجري الحديث حالياً عن ربط الانبوبين، بحيث يتدفق الغاز من إسرائيل إلى العريش، ومن ثمّ إلى العقبة فالرحاب، وصولاً إلى تركيا، ومنها إلى إلى اوروبا لينافس الدب الروسي. هذه هي اللعبة باعتقادي.
تيموشنكو وشلة ندماء بوتين
لعلّ هذه كانت اللعبة القديمة… ألم تُعدل اليوم؟
لا يزال الحديث عنها حتى اليوم. في العام الماضي 2018، أرسلت مصر بعثة لاعادة تأهيل الخط العربي في الأردن باتجاه سوريا. لم يتم إيصاله إلى تركيا، كما قلت ، لأن “ستروي ترانس غاز” الروسية لم توافق على القسم الأخير، وبالمناسبة هذه الشركة يملكها گنادي تيمشينكو ، وهو مؤسس الشركة الامنية “ڤاگنر” التي يحارب عناصرها في سوريا، وهذا ما يفسر ترابطاً. تيموشينكو نفسه هو ضمن “شلّة ندماء سانت پطرسبورگ ” التي يسهر أفرادها كل ليلة تقريباً مع ڤلاديمير پوتن، أي أنه في قلب دوائر صنع القرار في روسيا.
– هل مصر تحاول الاتصال بالروس، وفي الوقت ذاته بالأميركيين؟
لا… لا تجعل ما يُحكى يؤثر عليك.
– هل الأمر صدفة؟
بل هو لعب صبياني.
– الخط العربي كان مخططاً أن يكون بديلاً عن خط العريش – عسقلان أم ليكمّل أحدهما الآخر؟
خط العريش – عسقلان جزء لا يتجزأ من الخطة باعتقادي، فهو الحلقة الأولى من هذه السلسلة للوصول إلى أوروبا، فالهدف هو استخراج الغاز من البحر، ومن ثمّ نقله إلى عسقلان فالعريش، فالعقبة، فالرحاب، ومن ثم إلى تركيا؟
– وكيف سيذهب إلى أوروبا بعد ذلك؟
تركيا فيها أكثر من أربع خطوط غاز تصل إلى أوروبا.
– ماذا عن خط “إيست ميد”؟
“إيست مـِد” لم ينفذ، ولا أرى امكانية لتنفيذه في السبع سنوات القادمة على الأقل بسبب عمق الماء البالغ 3,500 متر في بعض المراحل. لا توجد تكنولوجيا تسمح بذلك حالياً. الحل الوحيد هو الطريق البري، وهو الأرخص، خصوصاً ان الخط التركي جاهز، وأقصد بذلك “خط عبر الأناضول“، وهو خط أنبوب غاز أذربيجاني، وقد وصل بالفعل إلى ألبانيا، والعمل جار على مد الجزء الاخير منه عبر مضيق أوترانتو في البحر الاردياتيكي ليصل إلى أيطاليا، مع العلم بأنّ الشركة المقاولة لمد هذا الانبوب هي “هاليبرتون”.
– قبل أقل من سنة وقع لبنان الاتفاق النهائي مع “روس نفط” لمد الغاز إلى دير عمار… وقد احتج الاميركيون على ذلك، قائلين إن هذه الشركة مدرجة على لائحة العقوبات.
روسيا والصين يعتبران مياه شرق المتوسط منطقة نفوذ اميركا، ولا يجرآن على الاقتراب منها. ما حدث في الحرب السورية هو استثناء هائل وسيغيّر الوضع. لو عدت إلى تصريحات وزير النفط السوري في فترة انبوب النفط العربي، لظهرت لك المشكلة. بعد رفض “ستروي ترانس غاز” للقسم التركي لم يستغرق الوقت كثيراً حتى بدأ “الربيع العربي”، وفي اعتقادي ثمة علاقة سببية كبيرة بين الأمرين. كان المطلوب السيطرة على سوريا كلها، وفي حال تعذر ذلك كان يكفي ممر واحد لتمرير انبوب الغاز من الحدود الاردنية إلى الحدود التركية.
الجغرافيا السورية… حاكمة
– هل يشمل ذلك أيضاً الأنبوب القطري؟
الرواق في جنوب شرق سوريا يمرر الغاز الاسرائيلي والغاز القطري. ولكن هناك ممراً ثانياً يأتي من إيران والعراق إلى البحر المتوسط. هذا الممران متقاطعان، وهذا هو الصليب السوري منذ 300 سنة قبل الميلاد، حيث كانت كل الحروب تهدف إلى خلق “كوريدور” من شمال جنوب سوريا، مع الإشارة إلى أن سوريا هي قسمان: “سوريا المفيدة”، كما يسمّونها، في غرب الفرات، و”سوريا الخاوية” في شرق الفرات.
أول من حاول ذلك بعد وفاة الإسكندر الأكبر، كان أولئك الذين ورثوا إمبراطوريته، أي البطالمة في مصر والسلوقيين في سوريا، وقد اندلعت بينهما حرب لأن المصريين البطالمة أرادوا فتح ممر للتجارة مع تركيا والدولة الرومانية الجديدة التي نشأت. بعد ذلك، جاءت الدولة الرومانية واتخذت الاجراءات ذاتها ضد السلوقيين ثم البيزنطيين، وخاضت الحرب ذاتها أيضاً ضد الفرس الساسانيين. في كل الأوقات كانت الجغرافيا هي الحاكمة.
الهدف هو إنشاء “كوريدور”، وكلما كان هذا “الكوريدور” أقرب الى الساحل البحري، كلما كان أفضل، لكن هذا المخطط أثبت فشله بسبب الكثافة السكانية والمقاومة السورية، كما شاهدنا منذ عام 2011 حتى اليوم. في البدء، حاولوا أن يحرروا سوريا كلها، ولم ينجحوا في ذلك، بعدها حاولوا تحرير جزء منها، بحيث يكون الممر عبر تدمر، ولم ينجحوا أيضاً، ثم كان التوجّه نحو تحرير شرق الفرات… كل هذه كانت محاولات لزحزحة “الكوريدور”، ولم تنجح، فلننتظر إذاً ماذا سيحدث.
بالتالي فإنّ الدولتين الكبيرتين، وهما الصين وروسيا، تدركان أن المنطقة هي منطقة نفوذ أميركي. العام 2005 كان مفصلياً في العلاقات المصرية-الأميركية. بطريقة ما، دخل أحد ما على مفتاح الضوء وقرر أن يطفئه عن العلاقات بين الدولتين، وتحديداً بين أمريكا وحسني مبارك. ماتت هذه العلاقة بالفعل في العام 2005، حين غضب مبارك من الأميركيين وراح يكثف علاقته بالصين، فمنحها، في العام 2007، ما أسُميت المنطقة الإقتصادية الخاصة في شمال غرب خليج السويس، وهي منطقة ضخمة عند مدخل قناة السويس، وقد أنشأ فيها الصينيون، خلال أقل من سنة، حوالي عشرين شركة صينية للنفط وتصنيع أجهزة التنقيب عن النفط وأشياء أخرى كثيرة. بعد ذلك نشرت “ويكيليكس” برقيات من السفارة الأميركية في القاهرة أسمت فيها وزراء مبارك حينها تهكماً بـ Frequent Fliers Ministers، أي أنهم يسافرون كثيراً لكي يحصلوا على “مايلات” من الطيران، ذلك أن كل الوزراء المصريين كانوا يسافرون كثيراً إلى الصين في تلك الفترة لاستجلاب استثمارات وتعزيز حضور الصين في المنطقة… ولكن في أواخر العام 2008، انسحبت الشركات الصينية العشرين كلها من مصر من دون أن تنطق بكلمة تبرير واحدة. لا احد يعرف ما الذي حصل.
فلننظر إلى ما حدث بعد ذلك. لقد اعلنت إسرائيل للمرة الأولى عن وجود حقل لڤياثان في أواخر عام 2010، وفي مطلع العام 2013، الشركة التي أتوا بها، كانت شركة صاحبنا “بوعمية”( تشيني)، الذي رفض كل الشركات الثانية وخلق شركة من جديد. في البدء، كانت شركة أميركية هزيلة لا تعمل الا على البر، وكانت تقدم خدمات تنقيب عن النفط في الأماكن الصغيرة جداً، واسمها Samdan (“شمعدان”) ولهذا الاسم مدلول ديني، ذلك أن ديانة واحدة (اليهودية) تستخدم الشمعدان. تم انتقاء هذه الشركة مرة واحدة من قبل “نوبل إنرجي” التي قامت بالتنقيب في أعماق كبيرة في شرق المتوسط. صادف أن هذه الشركة أفلست، ونقلت مقرها القانوني، في 2009، بعد إشهار الإفلاس من شركة أميركية في تكساس إلى شركة سويسرية، وتغيّر شكل الملكية فيها، ولم يُعلن من هم مالكوها الجدد.
في وقت لاحق، دخلت “نوبل إنرجي” في الحقلين الكبيرين في شرق المتوسط، ” لڤياثان” و”أفروديت” . هذه الشركة هي تماماً “غلاطة Galatea” أي “زوجة بو عميّة” (تشيني).
إحفظوا إسم فريدمان
في مطلع العام 2013، دخلت شركة الصين الوطنية للنفط البحري (صينوك) شريكاً في حقل ” لڤياثان” بحصة 30 بالمئة، ذلك أن “نوبل إنرجي” كانت شركة مفلسة وبحاجة إلى أموال، فأتوا بالصينيين حتى يدخلوا كشركاء في التمويل. بعد سنة، أعلن الصينيون خروجهم كما دخلوا وقالوا إنهم غير مهتمين بهذه المنطقة. ماذا حصل؟ لا أعلم. ولكنني أعتقد أن الصينيين تعلموا أن هذه ليست منطقتهم، فانسحبوا من المنطقة الاقتصادية شمال غرب خليج السويس، ثم من ” لڤياثان”. الروس وضعهم مختلف، وهم يلعبون لعبة أكثر تعقيداً، فعلاوة على البعد السوري، نجح فلاديمير بوتن في التخلص من كل المليارديرات ممن جمعوا ثرواتهم في عصر بوريس يلتسين، واستخدم أوليغارشيين جدداً يدينون بالولاء الشخصي له.
أحد أهم هؤلاء هو ميخائيل فريدمان. هذا الرجل دخل السوق المصرية في العام 2014، واشترى شركة “أوراسكوم تلكوم“، وهي شركة اتصالات كانت متواجدة تقريباً في حوالي أربعين دولة، ورئيسها وصاحبها، كما يقولون، هو نجيب ساويرس. أعتقد أنه مجرد واجهة ، فبالرغم من أن ساويرس هو رئيسها، إلا أنني شبه متيقن بأنها شركة تابعة للدولة المصرية زائد علاء مبارك نجل حسني مبارك. وهذا ما اكتشفه لاحقاً مجلس الأمن القومي الهندي، عندما تقدمت هذه الشركة بتصريح تأسيس او شراء لشركة اتصالات خلوية في الهند.
قالت الهند إن هذه الشركة غير معروف من يملكها على وجه التحديد، ولكننا نعلم أن فيها أموالاً لمنظمة التحرير الفلسطينية، وهو أمر صحيح، لأنه دائما كان يوجد عضو فلسطيني في مجلس ادارتها، وأوّل هؤلاء محمد رشيد تركماني الذي كان يعتبر بمثابة حامل استثمارات ياسر عرفات. بعد موت عرفات، تم التحفظ على محمد رشيد في منزله في القاهرة، ولم يكن يخرج إلا لحضور اجتماعات لمجلس ادارة “اوراسكوم”، حيث تنازل عن بعض الأملاك للشركة، ثم يعود الى منزله. في وقت انتقل إلى أوروبا، ثم إلى الإمارات، وحالياً لا ادري أين هو.
كان النظام يريد أن يسيل فلوسه، بأي طريقة من غسيل الأموال، فظهر مليونير روسي اسمه ميخائيل فريدمان، إشترى “اوراسكوم تلكوم” كلّها. تبيّن لاحقاً أن الرجل اشترى شركة المانية للتنقيب عن الغاز، واصبح يملك حالياً أكثر من ثلث حقول الغاز المصرية في المتوسط، ولكنه لا يستثمر قرشاً واحداً في اي منها. اي مستثمر يأخذ مثل هذه الحقول ولا يستثمر عليك ان تطرده فوراً، لكنّ الحكومة المصرية تخشى القيام بذلك. هو موجود ولا يفعل شيئا في الحقول، ولا احد يقترب منه. حتى الآن لا نعرف ماذا سيفعل فلاديمير بوتين بميخائيل فريدمان. هذه إحدى البطاقات التي يحتفظ بها بوتين ولم يستخدمها بعد في اللعبة.
– هل يمكن أن تعدّل معركة سوريا حسابات الصينيين والروس؟
اعتقد ان الصين ليس لديها الدافع حتى الآن لأن تصل الى هذا المستوى من التنافس أو الصراع مع أميركا. الشيء الوحيد الذي يهم الصين حالياً هي مجموعات الأويغور المتواجدة في إدلب وشمال شرق اللاذقية. في المقابل، تحاول روسيا أن تظهر للصين انها تقوم بخدمة من أجلها عبر محاربة هذه المجموعات الأويغورية، طالما أن الصين لا ترى أن هناك حاجة للتدخل. روسيا تعي أن الصين مهتمة بكيفية التعامل الروسي مع هؤلاء المقاتلين.
– ما هي الأوراق التي يمكن ان يستخدمها الروسي في هذا الصراع؟
أميركا وروسيا تعتمد حلولهما على مرور انابيب الغاز في تركيا. الانبوب الأميركي، الذي كان اسمه في السابق “نابوكو”، أخرجت روسيا في مواجهته الثوار الأرمن في قره باخ. مات “نابوكو”، فخرج بعده خط “TANAP”، وهو انبوب عبر الأناضول وأذربيجان، الذي وصل الى ألبانيا حالياً ومن ثم البحر الأدرياتي. الحل الأميركي جاهز. الحل الروسي غير موجود. لا بد أن يمر أيّ خط عبر تركيا. الشيء الطبيعي، بغض النظر عن الأشخاص والسكان والقادة، وهو أنك لو نظرت فقط إلى الخريطة، لوجدت أن تركيا لابد أن تكون حليفة لأميركا وليس لأحد آخر. تركيا يجب أن تكون دوماً خصماً لروسيا. يمكن أن تحصل تطوّرات عكس ذلك ولكنها لا تستمر.
“تورك ستريم” سيموت
– ما أهمية المشروع الروسي التركي “تورك ستريم”؟
أهميته بأن ينطلق وهذا ما لن يحصل (يضحك). اعتقد أن هذا الخط لن يسير داخل تركيا أولاً. أودّ في الحياة القادمة أن أكون مقاول مدّ خطوط أنابيب في تركيا، حيث توجد جذوع نخيل خاوية لانابيب او مشاريع انابيب كثيرة وكلها فشلت. ولكن قبل ان تفشل يتم انفاق مليارات الدولارات على مشاريع الانشاءات. المشاركة في مشاريع الإنشاءات شيء رائع بالنسبة اليّ في الحياة القادمة. هناك مشاريع أنابيب كثيرة. هناك عشرون مشروعاً في كل اتجاهات تركيا. حتى لو عولجت كل مشاريع الأنابيب داخل تركيا، فهناك مشكلة في جمهورية شمال مقدونيا. شمال هذه الجمهورية يسكنه حالياً ألبان، وهؤلاء ولاؤهم أميركي، وهم قالوا إن الانبوب الروسي لن يمر من عندنا. الالباني عدوه اللدود هو الصربي، وفكرة الانبوب الروسي أو “تورك ستريم” أو اي مشروع آخر، يجب أن يمر بتركيا، فاليونان أو بلغاريا، ومن ثم مقدونيا، ومنها شمالا الى صربيا. هذا المشروع لن يمر ولن يسمح به الألبان في مقدونيا وتحديداً في مدينة كومونوفو. أحداث امنية ضخمة حصلت في هذه المدينة في السنوات الثلاث الماضية منذ أن بدأ الكلام عن “تورك ستريم”. من يحل مشكلة بين الألبان والصرب عمرها 700 او 800 سنة؟
الأمر ذاته ينطبق على على خط الأنانبيب البحري. إما أن يكون الخط برياً من سوريا إلى تركيا، او خطاً بحرياً قصيراً من الحقول البحرية في شرق المتوسط الى قبرص ومنها الى تركيا، ومن ثم تتوجه الى اوروبا. ولكن هناك أيضاً مشكلة أخرى، وهي الصراع بين القبارصة اليونانيين والقبارصة الأتراك. في هذه الحالة، لا يبقى الا الحل التكنولوجي الباهظ والمستحيل حالياً، والمقصود بذلك أنبوب على عمق 3 او 4 الاف متر في عمق البحر.
– وماذا عن “نورد ستريم” هل سيفشل هو الآخر؟
أعتقد أن المشروع سيمضي قدماً. ببساطة، الاوروبيون يقولون للأميركيين: زوّدوني بالغاز ونحن جاهزون لأن نشتري. أميركا نفسها تصدّر حالياً الغاز المسال الأميركي الى اوروبا، ولكن هل هو كافٍ؟ وهل سعره ينافس السعر الروسي؟ هذا سؤال يحتاج الى اجابة.
– عندما نتحدث عن مكامن غازية، هل لدينا ارقام بتصرف القارىء؟
إجمالي الإحتياطي يقدر بنحو اربعة تريليونات متر مكعب في شرق المتوسط. هذا ما تجمع عندي كقارىء فقط. أنا لا أملك ملفات خفية. من خلال ما ينشر أستطيع القول ان هناك اربعة تريليونات متر مكعب وهذا الإحتياطي قيمته من حوالي 400 مليار إلى واحد تريليون دولار. روسيا حالياً تصدّر إلى أوروبا ما قيمته حوالي 7 مليارات دولار سنوياً، وهذا يشكل ثلث استهلاك اوروبا المقدر بنحو 20 مليار دولار سنوياً.
لا حروب جديدة
– الحدود عنوان خلافات بين كل دول حوض المتوسط، فهل يمكن ان تشكل مادة حروب في المنطقة؟
أعتقد أن العالم لا يحتمل اية حروب جديدة في اي مكان في العالم على الاطلاق. الأمر قد لا يتجاوز بضعة احتكاكات او تحرشات، ولا اراه يزيد عن ذلك.
– إطالة أمد الخلاف الحدودي بين لبنان واسرائيل لمصلحة من؟
في فمي قهوة وليس ماءاً. أرى أن السبب الوحيد في عدم تقدم مشاريع الغاز في شرق المتوسط حالياً هي المخاوف الأمنية والقانونية، وليس الخوف من وقوع حرب. هي مجرد مخاوف امنية وقانونية. رأس المال جبان دائماً. لا يريد المستثمر ان يضع ماله في منطقة نزاع او خلاف، الحسنة الرئيسية في لبنان أن تتأخر المسألة. صحيح انها تحيل حياة البعض الى مصاعب متواصلة ولكن البديل اسوأ. من يعلم؟ يمكن أن يجلب الخط الغازي العربي لكم الغاز(يضحك).
– وخط الكهرباء أيضاً؟
خط الكهرباء موضوع آخر. فكرة خط الغاز العربي هي فكرة لم تبدأ مع تشيني. قبل تشيني بعشر سنوات، ظهرت فكرة الربط الكهربائي العربي، وجاءت لاحقاً أحداث 1996 في لبنان (حرب “عناقيد الغضب” الإسرائيلية) وكان لبنان يعيش بلا كهرباء. مصر صرفت عشرة مليارات دولار لأجل مشاريع الربط الكهربائي مع المشرق العربي، فلماذا لم يتم بيع الكهرباء؟ الحقيقة أنه لم يحصل شيء.
– ما لم تستطع ان تقوم به الحروب هل يمكن ان يصنعه الغاز، أي التطبيع؟
أو عكسه. الارادات التي لم تستطع الحروب فرضها، يمكن للغاز او السماح به او منعه من أن يفرضها.
خريطة غازية في البيت الأبيض
– مجلة “ماكلاتشي” الأميركية عرضت خريطة غازية كانت موجودة في مجلس الأمن القومي الأميركي، ما هو سرها؟
هي مجلة مطلعة عادة. الخريطة المذكورة تعكس ارادات معينة وهذا التصميم في البلوكات يعكس هذه الارادات وتحديداً ارادة “بو عمية” مش بس خلق “غلاطه” بل ما سيحقق لها رونقها وبهاءها الى الابد. اي ترسيم الحدود الذي يدخل اليها الثراء المطلوب. ما أثارني في الخريطة تحديداً أن تكون معلقة على حائط في البيت الأبيض. معنى ذلك أن هذه القضية (الغاز) بالغة الحيوية عند الأميركيين ولا يمكن أن تهملها بل عليك أن ترصدها وتعرف ماذا يحصل يوميا وعنا ما حدش دريان.
– هل نملك كعرب مشروعاً للغاز؟
لست يائساً ولكن بالمعطيات الحالية لست متفائلاً، ولكن ثمة أموراً تحصل في اتجاه جيد.
– مثلاً؟
ما فيش مثلاً.
– هل هناك خريطة انابيب خليجية جديدة؟
منذ حوالي خمس او ست سنوات، إتصل بي مسؤول في المخابرات المصرية وانا علاقتي سيئة بهم عادةً. قال لي المسؤول: نريد منك خدمة، فقلت له: تفضّل. شرح لي أن سعر النفط كان متدنيا جدا ما خلق ازمة مالية للامارات المختلفة في دولة الامارات. قال لي ان ما يهمنا هو إمارة الشارقة – وهي امارة صديقة دائما لمصر – عبر اسداء النصيحة لها بما يمكن فعله لتنويع مصادر دخلها اذا تراجعت المداخيل التي تحصل عليها من ابو ظبي؟ أعديت له عرضاً في حوالي عشر صفحات تضمن مقترحات عدّة، وعلى راسها أن الشارقة، خلافاً لباقي الإمارات السبع، هي الامارة الوحيدة التي تطل على ساحلي الامارات، أي الساحل المطل على الخليج العربي والساحل المطل على خليج عمان. قلت له ابسط شيء يمكن فعله وفوراً ليشكل مصدر دخل وثراء هائل للشارقة والامارات هو اقامة انبوبين للنفط والغاز من الساحل إلى الساحل. هذا يغني تماماً عن مضيق هرمز ولا يحتاج الذهاب بعيداً، أو الاعتماد على دول ثانية.
الفكرة هي أن تقيم أنبوبين بطول 150 كيلومتراً، ومن الممكن انجازهما في اقل من سنة. غاب الرجل وعاد طالباً مني أن أكتب المشروع على الورق، وان أجعل المخاطب هي حكومة ابو ظبي وليس حكومة الشارقة. قلت له إنّ لا مانع لدي، واعدت توجيه الخطة إلى حكومة ابو ظبي، وارسلتها إليه، وبعد ذلك اختفى الرجل.
الفكرة كانت واضحة ومفادها انكم لو كنتم جديين في تبني الخطة، فمن الممكن تنفيذها فوراً. لكن في الواقع لا توجد اراداة، أو لعله توجد ارادة مضادة، ومع ذلك فأنا لا أظن أن الارادة المضادة، إذا إنوجدت، هي من دولة معادية. على سبيل المثال، هم لم ينفذوا الفكرة لأنهم خائفون من إيران، بل اعتقد انه يوجد سبب اخر ولكن لا ادري ماهيته. القصة ان البدائل معروفة وموجودة لدى الجميع وتغني عن مضيق هرمز، ولكن لسبب ما، هل ثمة مستفيد من استمرار الوضع على ما هو عليه؟ من المحتمل أن يكون الأمر هكذا.
– ما هي كلمتك الأخيرة؟
الغاز أغلى وأهم سلعة استراتيجية في العالم في عصرنا حالياً. كيف ندير الأمور بطريقة صحيحة؟ هذه هي القضية المهمة. علينا ألًا نفرط بالأوراق التي نملكها… هذه هي القضية.