تحولات أفغانستان.. في ميزان الحسابات الإسلامية واللبنانية

للإنسحاب الأمريكي من أفغانستان تأثيراته وتداعياته ليس على هذا البلد الأسيوي وجواره فحسب، بل على مجمل منظومة الدول الإسلامية، ومن بينها الشرق الأوسط.. ولبنان. كيف؟

يُبلوّر الإنسحاب الأمريكي من أفغانستان منظوراً استراتيجياً أمريكياً جديداً في التعامل مع العالم الإسلامي عبّر عنه مؤخراً الرئيس الأمريكي جو بايدن في حديثه الأخير إلى وسائل الإعلام عندما قال ان هدف أمريكا في أفغانستان هو إستئصال الإرهاب وليس بناء الدولة. هذا المنظور يقول ان المسألة الأهم في العالمين العربي والغربي هي قضية الإرهاب، وليس حقوق الإنسان ولا الديموقراطية، وهو منظور معتمد في روسيا والإتحاد الأوروبي منذ زمن ويفضي إلى ان الشراكة مع دول المحيط الإسلامي يجب ان تكون مع من يضمن الإمساك بالوضع الأمني في تلك المجتمعات مع المحافظة على الحد الأدنى من الحريات وحقوق الإنسان والحد الأقصى من المصالح الإقتصادية.

هذا المنطق الأمريكي المستجد لا يرى مانعاً من التعاون مع حكومات غير ديموقراطية في السعودية ومصر وباكستان ولا يرى مانعاً من التفاوض والإتفاق مع إيران، وبالتالي، ماذا يمنع من التعاون مع حركة طالبان إذا التزمت هي الأخرى بمنع أي عمل إرهابي ضد الغرب إنطلاقاً من أراضي أفغانستان؟
ولعل المستجد الحقيقي على المشهد العالمي هو التعامل الروسي والصيني مع طالبان والإعتراف بها. هاتان الدولتان معاديتان تاريخياً للأصولية الإسلامية السنية لتداخلهما الجغرافي والديموغرافي معها. وإذا اثبتت طالبان قدرتها على التعاون البنّاء مع روسيا والصين، سيشكل ذلك تحولاً تاريخياً قد تنتج عنه تداعيات كبيرة على المنطقة. فنجاح العلاقة بين هكذا نظام ودول كبرى مثل الصين وروسيا سيجعل إمكانية التعاون مع مجموعات إسلامية راديكالية طامحة للحكم في وسط آسيا والشرق الأوسط وشمال افريقيا.. إمكانية قائمة وقابلة للنقاش.

سوف نرى حزب الله يقدم المزيد من الخدمات العامة حتى يبدو كأنه الجهة الوحيدة القادرة في لبنان على إدارة شؤون الناس. وسوف تنظر إليه الدول الكبرى على أنه الشريك الوحيد في لبنان الذي يمكن التعويل عليه لحفظ  الحد الأدنى من الأمن والإستقرار

وبالتالي يبدو المشهد العربي الإسلامي العام قاتماً في المرحلة المقبلة. إذ أنه لا يبشر بإستمرار منظومات الحكم الإستبعادي (كي لا أقول الإستبدادي) غير الحرة وحسب، وإنما القبول بالنموذج الإسلامي الإستبدادي منها أيضاً. هذا التطور يشكل تهديداً للأنظمة التقليدية الحاكمة التي لطالما استعملت العلمانية كورقة التوت التي تستر بها عورتها الإستبعادية. وإذا نجحت التجربة الطالبانية سيكون هناك مستقبل قاتم لنمط الحياة في المجتمعات الإسلامية. فقبول القوى الكبرى بالتعاون مع حركات متطرفة دينية سيكون على حساب الحريات الشخصية للمجتمعات الإسلامية والعربية فيكون قد تم الإنقضاض على ما تبقى من حريات في هذه المجتمعات.

وفي السياق اللبناني، قد تنتهج الإدارة الأميركية نهجاً مماثلاً مع حزب الله على اساس معادلة إبعاد الصواريخ (ولا سيما الدقيقة) عن إسرائيل مقابل منحه مسؤولية إدارة السلطة في بلد يعاني تاريخياً من ضعف الإدارة. فحلفاء الغرب في لبنان قد فشلوا في إدارة البلد بالرغم من صرف بلايين الدولارات عليهم تماماً على غرار حكومة أفغانستان المنحلة. وقد بات ينظر إلى جلهم بقدر كبير من الخيبة والإحباط.
ففي فصول المشهد اللبناني القادم، سوف نرى حزب الله يقدم المزيد من الخدمات العامة حتى يبدو كأنه الجهة الوحيدة القادرة في لبنان على إدارة شؤون الناس. وسوف تنظر إليه الدول الكبرى على أنه الشريك الوحيد في لبنان الذي يمكن التعويل عليه لحفظ  الحد الأدنى من الأمن والإستقرار. وقد ينظر للتحالفات التي صاغها حزب الله مع قوى عدة عبر الطوائف على أنها صيغة قابلة للحياة مع التركيبة اللبنانية. وهنا يبقى لنا لن نسأل كيف ستكون مواقف اللاعبين الإقليميين الآخرين من هكذا تحولات في المشهد اللبناني المقبل؟

مهما كانت حصيلة ونتائج التحولات الجارية في أفغانستان، فإن تأثيراتها على الحريات والديموقراطية في دول العالم الإسلامي ستكون سلبية، على الأرجح

في إعتبار ان العامل الأساسي المعتمد في التعامل مع الدول الإسلامية هو الأمن والإستقرار وليس الديموقراطية او حقوق الإنسان (المرأة والأقليات والحريات الشخصية)، وبما ان دول الخليج العربي قد شهدت تحولات مهمة في مسألة الحريات الشخصية مؤخراً، فإن هذه الدول لن تشعر بالتهديد على المدى القريب. لكن من شأن تقبل الحركات الإسلامية الأصولية في الحكم على المستوى الدولي ان يقرع أجراس الخطر على المدى الطويل. إذ ان حركات الإسلام السياسي تشكل خطراً دائماً على الإستقرار في دول المنطقة وقد يشكل الإعتراف بحركة طالبان حافزاً للعديد منها لإعادة تفعيل وتحفيز “عملها النضالي”. هنا تكون تطورات افغانستان سلبية للإقليم ومدعاة للقلق الكبير!

اما الموقف التركي فمن الأرجح أن يكون في ظل إدارة رجب طيب اردوغان اكثر ارتياحاً. فتركيا لها نفوذ عرقي في افغانستان وفي محيطها وتوجهها الإسلامي قد يساعدها في تعزيز علاقتها مع طالبان. ولدى تركيا خبرة في التعامل مع هذا الطابع من المنظمات اكتسبتها في سوريا ومن ثم في ليبيا. وقد تصبح تركيا اللاعب الأكثر مشاكسة ومنافسة للروس وإيران في افغانستان وسيكون لذلك تأثير على المفاوضات حول مستقبل النظام في سوريا. فإذا أمكن التعاون في أفغانستان بين تركيا روسيا وايران، سيترجم ذلك تعاوناً مماثلاً في سوريا. اما إذا تحول الوضع هناك إلى صراع ومنافسة فسوف تمتد الأزمة إلى سوريا، مزيداً من التنافس والتأزيم.

إقرأ على موقع 180  مصارف لبنان تُناور إستباقياً.. من يَدفعْ كلفة الإنهيار؟

مهما كانت حصيلة ونتائج التحولات الجارية في أفغانستان، فإن تأثيراتها على الحريات والديموقراطية في دول العالم الإسلامي ستكون سلبية، على الأرجح.

Print Friendly, PDF & Email
سامي محروم

أستاذ في جامعة بروكسل الحرة، عضو الهيئة الإستشارية لـ"مرصد الأزمة"

Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  مصارف لبنان تُناور إستباقياً.. من يَدفعْ كلفة الإنهيار؟