الإقليم كله فى وضع تأهب ترقبا لانسحاب تقترب مواعيده للقوات الأمريكية من العراق.
لم يكن الانسحاب الأمريكى من أفغانستان حدثا منعزلا عن حسابات الإقليم الذى نحيا فيه وتشتعل فى جنباته أزمات وحروب مزمنة أنهكت بلدانه بقسوة بالغة.
وفق نفس النظرة الاستراتيجية الأمريكية، التى سوغت الانسحاب من أفغانستان، فمن المتوقع انسحابا مماثلا من العراق، الذى جرى احتلاله وتحطيمه بعد أفغانستان مباشرة على إثر حادث الحادى عشر من أيلول/سبتمبر قبل عشرين عاما بالضبط.
هناك ما يشبه الإجماع داخل المؤسسة الأمريكية على سحب القوات الأمريكية من أفغانستان والمشرق العربى وتخفيض الحضور العسكرى فى الخليج، الذى عليه أن يتحمل تكاليف حمايته ــ على ما كان يقول الرئيس السابق «دونالد ترامب».
هذا خط استراتيجى سوف يأخذ مداه بغض النظر عمن يجلس فى البيت الأبيض بقصد تركيز الاهتمام على الداخل الأمريكى المتصدع بصراعاته السياسية والعرقية والتوجه بدرجة أكبر إلى الشرق الآسيوى حيث الصراع على المستقبل مع الصين.
لم يكن الاعتراض فى الحالة الأفغانية منصبا على المبدأ بقدر ما كان على الطريقة العشوائية التى جرى بها الانسحاب ونالت بقسوة من هيبة الولايات المتحدة.
ولا كان انسحاب القوات الأمريكية المتمركزة فى سوريا مستبعدا على عهد «ترامب»، فقد تبنى خيار الانسحاب وأعلن عنه، لكنه أجله لوقت لاحق تحت ضغط المؤسستين العسكرية والاستخباراتية خشية الأضرار المحتملة بالحلفاء.
ثم سوغ بقاءها بالاستيلاء على البترول السورى، هكذا دون حياء.
مقدمات وشواهد الانسحاب الأمريكى من العراق ماثلة، ترتيبات أمنية وسياسية تمهد وجو عام داخلى يطلب ويلح على ذلك الانسحاب، الذى يتلكأ خشية الإضرار بمصالح وحلفاء، لكنه محتم فى مدى منظور.
العراق ليس أفغانستان، بقدر مركزية موقعه فى مشرق العالم العربى وحجم أدواره المحتملة فى معادلات الإقليم إذا ما استعاد قدرته على الحركة والفعل المستقلين.
أفغانستان قضية حرب على الإرهاب وسط آسيا ومناكفة لدول الجوار فيما العراق قضية عالم عربى يتطلع أن ينهض مجددا من تحت الركام، وهذا تهديد وجودى للحليف الإسرائيلى.
عودة العراق تعاكس ما تعرض له من تحطيم منهجى على مدى عشرين عاما بحل جيشه ومؤسساته ومحاولات تقسيمه لثلاث دويلات عرقية ومذهبية.
بأى حساب لن تكون عودة العراق سهلة ومتاحة على هذا النحو المرجو بمجرد الانسحاب الأمريكى، فالألغام سوف تزرع لتفجيره من الداخل ومنعه من استعادة دوره ووزنه كقوة عربية كبيرة ومؤثرة.
إذا ما توصلت مفاوضات فيينا إلى إحياء الاتفاق النووى، فإن الحسابات كلها سوف تختلف، وتترتب عليها انقلابات إقليمية تجرى بمقتضاها تسوية الأزمتين السورية واليمنية بالتوافق بين اللاعبين الإقليميين، وهذا بالضبط ما تناهضه إسرائيل ساعية إلى منع أى إحياء للاتفاق النووى
أحد التحديات الرئيسية، التى سوف تطرح نفسها على العراق وجواره وعالمه: «من يملأ فراغ القوة الأمريكية؟».
فى أعقاب حرب السويس (1956)، التى أفضت نتائجها السياسية والاستراتيجية إلى انكشاف الإمبراطوريتين السابقتين الفرنسية والبريطانية وتراجع أوزانهما فى معادلات ما بعد الحرب العالمية الثانية طرحت القوة الصاعدة الأمريكية نفسها بديلا باسم «ملء الفراغ».
تصدت مصر، الدولة المستقلة حديثا، لسياسات ملء الفراغ بالأحلاف العسكرية كـ«حلف بغداد»، ونجحت فى اسقاطها بقوة العمل الشعبى العربى، الذى التف حول زعامة «جمال عبدالناصر».
الأحوال الآن اختلفت، لا نحن فى زمن حركات التحرر الوطنى، ولا الإمبراطورية الأمريكية سوف تخرج نهائيا من الإقليم لكن أوزانها فى تراجع مضطرد يكاد ينفى عنها صفة القوة العظمى، الصين بدورها لاعب جوهرى محتمل دون أن يكون بوسعه أن يتطلع لأية أدوار تماثل ما تمتعت به الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، ولا بوسع روسيا الطموحة اكتساب أية أوزان إضافية بالنظر إلى أوضاعها الاقتصادية، ولا الاتحاد الأوروبى بقدرته أن يطرح نفسه بديلا أو شبه بديل.
الأطراف الدولية كلها سوف تتنازع على اكتساب مساحات أكبر دون أن يكون بوسع أحد أن يهيمن، أو يرث الدور الأمريكى السابق، أو الذى يكاد أن يكون سابقا!
من يملأ الفراغ الاستراتيجى إذن؟
أسوأ إجابة ممكنة: «إسرائيل المتحفزة» بتحالف أكبر مع حلف «الناتو» وبحركة أوسع لتمديد الاعتراف بها من دول عربية جديدة بزعم حمايتها وما قد توفره من خبرات تقنية حديثة.
بمعنى آخر، استراتيجى مقصود: تطويع العالم العربى لمقتضيات قيادتها دون أي تسوية للقضية الفلسطينية وفق المرجعيات الدولية، تطبيع مجانى وسلام بلا أرض، وتصعيد المواجهة بالمقابل مع إيران كـ«عدو افتراضى» جديد يسوغ التحالف معها!
إذا ما توصلت مفاوضات فيينا إلى إحياء الاتفاق النووى، فإن الحسابات كلها سوف تختلف، وتترتب عليها انقلابات إقليمية تجرى بمقتضاها تسوية الأزمتين السورية واليمنية بالتوافق بين اللاعبين الإقليميين، وهذا بالضبط ما تناهضه إسرائيل ساعية إلى منع أى إحياء للاتفاق النووى.
وسط تعقيدات الإقليم فإن التطلع الإسرائيلى لملء الفراغ محض أوهام.
سؤال الفراغ بتحدياته طرح نفسه بصورة غير مباشرة على «مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة».
المؤتمر لخص الجو العام الجديد فى الإقليم وأجواء الترقب لما قد يحدث غدا.
لم تكن قيمة المؤتمر فى القرارات التى أصدرها، بقدر الجو العام الذى ساده، فقد تجمعت على مائدة واحدة تناقضات الإقليم كله، غلبت مداخلاته روح المصالحة والاستعداد بدرجات مختلفة لطى صفحة الخلافات دون دخول فى أية ملفات ملغمة خشية إفساد المؤتمر برسالتيه المعلنة ــ دعم العراق ومساندته، وغير المعلنة ــ استكشاف فرص إعادة التمركز انتظارا لما قد يحدث عند الانسحاب الأمريكى من العراق.
كان حضور الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون لأعمال المؤتمر دالا بذاته عن نزوع غربى، أمريكى بالضرورة، لخفض مستوى الصراعات البينية فى الإقليم بين الحلفاء المفترضين للتحكم فى التوجهات العامة لما بعد الانسحاب الأمريكى من العراق خشية أن تفلت التفاعلات وتصب نتائجها فى اتجاهات مضادة.
بعض الاقترابات التى جرت على هامش المؤتمر متوقعة وبعضها الآخر مفاجئة.
مما هو متوقع الإشارات المتضمنة فى الخطابين السعودى والإيرانى من روح تستجيب لدواعى المصالحة دون أن تمضى إلى نهاية الشوط، فالحوار بين البلدين جار فى سلطنة عمان، ورئيس الوزراء العراقى كشف علنا ما كان معروفا فى الكواليس الدبلوماسية والإعلامية من دور قديم لبغداد فى مد الجسور وتنظيم لقاءات بينهما.
ومما هو متوقع الإعلان عن جولة استكشافية جديدة مصرية تركية فى أنقرة بغضون أسبوع، تمهيدا للإقدام على خطوة راديكالية فى مستوى العلاقة بين البلدين، لم يحدث مثلها مع الإيرانيين رغم الاتصالات غير المعلنة.
ومما هو مفاجئ تسارع اللقاءات بين الإماراتيين والقطريين، ربما فى محاولة من الطرفين ألا يضر أحدهما الآخر بمقبل التفاعلات.
بصورة أو أخرى حدث نوع من التقاطع بين مصالح دول الإقليم فى خفض التوترات ومصالح الغرب فى التحكم بما قد يحدث عقب الانسحاب الأمريكى.
بتفاهم ما استبعدت سوريا ولبنان من حضور المؤتمر، كان ذلك إجراء مقصودا بذريعة أن حضورهما قد يصب لصالح إيران، فيما كانت إيران نفسها ممثلة فى المؤتمر بوزير خارجيتها الجديد «حسين أمير عبداللهيان»، كأن المقصود فى اللعبة الجديدة تحجيم أدوارها دون إلغائها.
المأساة ــ هنا ــ أن سوريا بلد جوهرى فى المشرق العربى واستبعاده عمل عدائى ينزع عن المؤتمر شمولية فكرة المصالحة الإقليمية.
وتغييب لبنان عمل عدائى آخر ضد بلد عربى يتعرض لمحنة اقتصادية واجتماعية وسياسية متفاقمة تكاد تدفعه إلى التفكيك دون أن يجد سندا جماعيا من محيطه.
كان ذلك داعيا للاحتجاج من نخب عربية عديدة دون أن تقلل من أهمية المضى قدما فى سياسات خفض التوتر بالإقليم المنكوب.
(*) بالتزامن مع “الشروق“