“القومية السعودية”.. ومعضلات بن سلمان

في السابع عشر من أيلول/سبتمبر 1932، أعلن عبد العزيز آل سعود توحيد مملكته لتحمل إسمه المملكة العربية السعودية. في الثالث والعشرين من الشهر نفسه، وقع عبد العزيز المرسوم الملكي الذي كرّس توحيد المملكة، وهو التاريخ الذي أصبح "يوماً وطنياً" (يوم إجازة) تحتفل به المملكة سنوياً، منذ العام 2005.  

غداة اعتلاء الملك سلمان عرش المملكة في العام 2015، خلفاً للملك الراحل عبدالله بن عبد العزيز، أصبح نجله محمد هو الممسك الفعلي بتلابيب حكم المملكة. راح ولي العهد يُدخل تعديلات جوهرية على صعيد نظام الحكم وقاعدته الإجتماعية والدينية وعلاقته بالمذهب الوهابي وقواعد إنتقال السلطة ومراكزها، وأيضاً على صعيد الثقافة السياسية والاجتماعية القائمة منذ عشرات العقود الزمنية.

لم يكتف ولي العهد بذلك، بل قدّم نفسه “نموذجاً” يُحتذى به ولا سيما لفئة الشباب السعودي. كان في خطوته هذه يبحث عن مشروعية مختلفة. مشروعية لا تتأتى فقط من الأسرة ولا من المؤسسة الوهابية ولا من نظام الرعاية، بل من خلال أسر فئة الشباب التي تشكل 50% من المجتمع السعودي (25 سنة وما دون). يسري ذلك على المرأة التي أعطيت من الحقوق ما كانت تطالب به منذ عقود طويلة. كل ذلك على طريق تكريس شعور جديد بالهوية السعودية الجديدة وخلق قاعدة أقوى للنظام الجديد.

أنفق ولي العهد محمد بن سلمان الكثير لأجل إظهار نفسه شخصاً “إستثنائياً” و”واعداً”، لا سيما في ضوء ما أصاب صورته من تهشيم على خلفية جريمة تصفية الصحافي السعودي جمال خاشقجي في مقر القنصلية السعودية في إسطنبول وحرب اليمن. أتى بن سلمان بشركات غربية متخصصة وإستطاع إغراء بعض كبار كتاب الأعمدة في الصحافة الغربية، وفي الوقت نفسه كان يعمل بلا كلل لأجل تطوير نزعة قومية جديدة بين الشباب السعودي. صار شعار هذا التوجه هو “السعودية للسعوديين”. لا الهوية العربية ولا الإسلامية ولا الخليجية تتقدم على الهوية السعودية، فإذ بالسعوديين يستهويهم شعار “السعودية أولاً”، كما إستهوى الشعار نفسه جماهير عديدة بينها الجمهور اللبناني قبل عقد ونصف من الزمن.

إن طموحات بن سلمان “القومية” على مختلف المستويات تواجه معضلات وتحديات جمة، خصوصاً أنه يدأب على مواجهتها دفعة واحدة، في الوقت الذي يحضّر نفسه لوراثة أبيه، نذكر جلّها:

أولاً؛ علاقة الوهابية بآل سعود متجذرة في التاريخ، وأثمرت ولادة الدولة السعودية الأولى في منطقة الدرعية، في النصف الثاني من القرن السابع عشر ميلادي، حيث كانت المبايعة التاريخية، وهي عبارة عن اتفاق ثنائي صاغه زعيم ومؤسس الحركة الوهابية الشيخ محمد عبد الوهاب من جهة والأمير محمد بن سعود من جهة ثانية، ويقوم هذا الاتفاق على أن يتولى الأمير الحكم ويوّرثه لذريته من بعده مقابل ترك الأمور الدينية وتنظيمها للشيخ وذريته من بعده أيضاً. وما زال هذا الاتفاق قائماً إلى يومنا هذا، راسماً خطاً واضح المعالم يفصل بين اختصاصات آل الشيخ في نظام المملكة واختصاصات العائلة المالكة. ولم يشهد تاريخ المملكة أي تجرؤ على مشايخ الوهابية والعمل على تقليم أظافرهم والحد من دورهم على غرار ما يفعل بن سلمان حالياً، برغم أن العلاقة بين ملوك آل سعود من جهة وآل الشيخ من جهة ثانية لم تكن على ما يرام، خصوصاً مع مؤسس الدولة السعودية الثالثة – الملك عبد العزيز، الذي حارب بـ”إخوان الوهابية” لأجل توحيد أراضي السعودية وإعلانها مملكة في العام 1932، ومن ثم قضى عليهم بُعيد اشتداد عودهم وأعادهم إلى عهدهم القديم كجهة ناظمة للأمور الدينية وحسب.

كان يقول إن الاجتهادات والفتاوى الدينية النافرة والمبهمة وغير المسندة، وهي كثيرة لدى علماء الوهابية، لن نستمر بالسير بها، وهذا ما يجري عملياً، بدءاً بالسماح للمرأة بالقيادة إلى افتتاح دور السينما والملاهي وغيرها من الأمور التي تعارضها الوهابية بشدة

ومذ تولى بن سلمان ولاية العهد ينتقد الوهابية بالمباشر حيناً والمواربة حيناً آخر، وفي مقابلته التلفزيونية الأخيرة مع الصحافي السعودي عبدالله المديفر، لمناسبة مرور 5 سنوات على إطلاق رؤية 2030 المترنحة، كان واضحاً في موقفه تجاه الوهابية وحدود دورها في نظام المملكة، وركّز على موضوع الاعتدال والاجتهاد ليتسنى له التفلت من قبضة رجال الدين. وقال “سنستمر باتباع القرآن دستوراً للأبد، على ما ينص نظام الحكم بشكل واضح سواء في الحكومة أو مجلس الشورى كمشرع أو الملك كمرجع للسلطات الثلاث”، وأضاف: “في الشأن الاجتماعي والشخصي، نحن فقط ملزمون بتطبيق النصوص التي وردت في القرآن بشكل واضح. أي يجب عدم طرح عقوبة شرعية بدون نصّ قرآني واضح أو نصّ صريح من سنة الرسول”، لكأنه كان يقول إن الاجتهادات والفتاوى الدينية النافرة والمبهمة وغير المسندة، وهي كثيرة لدى علماء الوهابية، لن نستمر بالسير بها، وهذا ما يجري عملياً، بدءاً بالسماح للمرأة بالقيادة إلى افتتاح دور السينما والملاهي وغيرها من الأمور التي تعارضها الوهابية بشدة.

ثانياً؛ خلق بن سلمان هوية وقومية سعودية جديدة دونها عقبات كبرى لا يمكن تجاوزها بـ”برمجة” المشاريع الاقتصادية والتنموية في ما يسمى “رؤية 2030″، ولا في ابتداع أحداث تاريخية واحتفالات وطنية. القومية مسار وتاريخ طويل من الإنجازات والإخفاقات وثوابت وأعراف وتقاليد ومشتركات. وطبقًا لمعجم المعاني، القومية هي صلة اجتماعية عاطفية تنشأ من الاشتراك في الوطن واللغة ووحدة التاريخ والأهداف، وهذا ما تفتقر إليه القومية السعودية. والسؤال البديهي هنا؛ كيف لإبن سلمان معالجة الجانب الديني وإقناع مشايخ الوهابية بالقومية المستحدثة؟ هؤلاء الذين لطالما رفضوا الهوية القومية العربية وجعلوها في موقع نقيض مع الإسلام. فهل ثمة من يعتقد أنهم سيقبلون بالقومية السعودية؟ وهذا ما يرتب على أنصار القومية الجديدة في السعودية إيجاد مخرج للتملص من هيمنة مفهوم الدولة الدينية، الذي لا يعلو عليه مفهوم عند التيار السلفي الذي يفهم مبدأ شمولية الإسلام فهماً نصياً/ حرفياً، ويذهب إلى التأكيد على بعده السياسي، قائلاً بحاكمية الشريعة، وصولاً إلى الادعاء بأن الدولة أصل من أصولها.

إقرأ على موقع 180  إستعادة الجغرافيا والمبادرة.. ووهج القضية الفلسطينية

ثالثاً؛ تجاوز بن سلمان كل الأعراف والتقاليد بتعاطيه بقسوة وشدة مع أمراء آل سعود وأبناء ملوك سابقين، لا سيما عندما حجزهم في فندق ريتز كارلتون في الرياض وأرغمهم على التنازل عن جزء من ثرواتهم، ووضع بعضهم قيد الإقامة الجبرية حتى يومنا هذا، ورسم سياساته الداخلية والخارجية على خارطة تؤدي به إلى سدة المملكة، ليفتتح بذلك عهد الجيل الثالث من آل سعود..

رابعاً؛ ثمة معضلة سوف تلاحق بن سلمان وتبقى عصيّة على الحل، سواء في موضوع القومية او في أي عملية تحديث للنظام، تتمثل في استحالة انتقال المملكة من نظام ثيوقراطي – قبلي إلى نظام ديمقراطي يسمح بالمشاركة السياسية للشباب ولكافة أطياف الشعب السعودي، وكيف لذلك أن يحصل وبن سلمان يعد نفسه بعرش المملكة إلى ما يشاء الله! إذ تبقى كل العراضات والتطلع إلى مستقبل أفضل للشباب السعودي دون إشراكه في العملية السياسية سراب لم تؤتِ أوكلها.

خامساً؛ اتباع بن سلمان سياسات خارجية – تدخلية، وتسعير الصراع مع إيران وإشعال الجبهات معها في سوريا واليمن ولبنان والعراق، دون ان يحرز تقدماً في أي منها حتى الآن في ظل سياسة الصبر الاستراتيجي التي يتبعها الإيرانيون. كما أن تكبد السعودية خسائر جمة في اليمن، أثقل كاهل الموازنات المالية وأدخل المملكة في عجز صارخ بعدما كانت تحقق وفراً سنوياً بمئات مليارات الدولارات. ومن شأن ذلك إعاقة مشاريع بن سلمان السياسية والاقتصادية والإنمائية وغيرها… ويبدو بن سلمان مؤخراً، في طور تغيير استراتيجيته في الإقليم، أقله لناحية تبريد الأجواء مع إيران، وربما تسير الأمور نحو تطبيع العلاقات بين الرياض وطهران.

لطالما حارب آل سعود القومية العربية واعتبروها على طرف نقيض مع الإسلام، وحصرت السعودية انتمائها للعالم الإسلامي وحسب، ولم يكتفِ آل سعود وآل الشيخ إلا وأدخلوا موقفهم العدائي تجاه القومية في الكتب المدرسية، التي تضمنت تأكيد الانتماء إلى العالم الإسلامي وأمته الواحدة، بل تعتبر أن القومية إلى جانب الشيوعية والدعوات الدينية المنحرفة هي “أحد عناصر العدوان الداخلي على العالم الإسلامي في العصر الحديث”، حسبما يورد د. طلال عتريسي في كتابه “الجمهورية الصعبة – إيران في تحولاتها الداخلية وسياساتها الإقليمية”.

وتقول الأكاديمية السعودية المقيمة في الخارج مضاوي الرشيد في مقال نشرته في موقع “ميدل إيست آي” البريطاني إن القومية السعودية الجديدة “عبارة عن مبادرة من الأعلى إلى الأسفل. وهدفها هو إيجاد مادة لاصقة تربط الجيل الجديد من الشباب بالنظام الملكي”، وتضيف حسب النص المترجم (موقع عربي 21) “أن تكون سعودياً، لا عربياً ولا مسلماً، هو أهم ما ترتكز إليه خطط ولي العهد السعودي في سبيل إحكام قبضته على السلطة، وتجديد الرؤية المستقبلية للمملكة العربية السعودية وإنجاح عملية التحول الاقتصادي – وهي الأهداف الثلاثة التي تقوم عليها معظم سياساته. محمد بن سلمان وافد جديد على القومية، إلا أن سرديته حول من هم السعوديون أو من ينبغي أن يكونوا، وحول مصيرهم ومسؤولياتهم ومواصفاتهم القومية، تعاني من التناقضات المشتركة للقومية التي ازدهرت وانتشرت من قبل في أماكن أخرى من أرجاء العالم”.

طالما اتفاق آل سعود وآل الشيخ ما زال قائماً فرؤى بن سلمان التحديثية المختلفة ستبقى في حالة تخبط وصراع مع التيارات الدينية حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

Print Friendly, PDF & Email
مهدي عقيل

أستاذ جامعي، كاتب لبناني

Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  سوريا صينية.. في صياغات شرق أوسطية جديدة