ثمة مسار تم تدشينه مع بدايات الحرب العالمية الثانية، في مطلع اربعينيات القرن الماضي، تمثل في تبادل المخابرات الأميركية والبريطانية معلومات امنية تتصل بالمخاطر التي تهدد أمنهما القومي، وانتهى بالتوقيع على “ميثاق الأطلسي” (Atlantic Charter) وصولاً إلى انشاء منصة ثابتة لتبادل المعلومات الإستخبارية، عرفت بـ UKUSA (آذار/مارس 1946) انضمت اليها كندا عام 1948 ثم استراليا ونيوزيلندا عام 1956 بحيث بات اسمها العيون الخمس (five eyes).
على مدى اكثر من 75 عامًا حافظت تلك البلدان الناطقة بالإنكليزية على بنية تحتية مشتركة للمراقبة والمتابعة لأجهزة استخبارات فاعلة ومنتشرة على مساحة جغرافية واسعة جدًا وظلت تلك المنصة سرية حتى عام 2000، عندما اُعلن عن هذا التنسيق الخماسي بشكل واضح، وفي حزيران/يونيو 2010، أماطت المخابرات البريطانية والأميركية اللثام عن الإتفاق الأساسي الكامل بين البلدين ونشرت بعض وثائق الإتفاق بين الفريقين.
إنتهت الحرب العالمية الثانية وبدأت “الحرب الباردة”، فتعزز الحلف الأميركي البريطاني في مواجهة التمدد السوفياتي والمنظومة الشرقية (حلف وارسو) وازدادت اعمال المراقبة والرصد والتنصت مع التطور التكنولوجي ثم الرقمي، حيث باتت البرامج المخصصة لرصد وسائل التواصل الإجتماعي تشكل إحدى أهم ادوات التجسس غير المباشر في عصرنا هذا.
تظل الصين شريكًا تجاريًا رئيسيًا لجميع دول التحالف الرباعي. لذلك هم بحاجة إلى المضي قدمًا في ادارة صراعاتهم معها بحذر، برغم تكريس مناخ حرب باردة جديدة على الصعيد الدولي
في عام 2013، سرّب ادوارد سنودن العامل في مجلس الأمن القومي الأميركي السابق وثائق كشفت بعض آليات عمل “العيون الخمس” وطريقة تنصتها عبر تنفيذ برامج مراقبة جماعية واسعة واعتراض مكالمات وكابلات بحرية وما الى ذلك من اساليب وتقنيات متعددة.
ومن المعروف أن كل عضو في التحالف الخماسي مسؤول عن جمع المعلومات الاستخبارية وتحليلها في مناطق معينة من العالم.
– تتولى بريطانيا مراقبة أوروبا وغرب روسيا والشرق الأوسط وهونغ كونغ.
– تشرف الولايات المتحدة أيضًا على الشرق الأوسط بالإضافة إلى الصين وروسيا وأفريقيا ومنطقة البحر الكاريبي.
– أستراليا هي المسؤولة عن جنوب وشرق آسيا.
– نيوزيلندا هي المسؤولة عن جنوب المحيط الهادئ وجنوب شرق آسيا.
– تراقب كندا المناطق الداخلية لروسيا والصين وأجزاء من أميركا اللاتينية.
على الرغم من هذا التوزيع، يبقى لكل دولة الحق في العمل في نطاق الدول الأخرى، على ان يكون “المنتج النهائي” متبادلًا بين الدول الخمس.
بعد التسونامي الذي ضرب شواطئ المحيط الهندي في 26 كانون الأول/ديسمبر 2004 ودمر مناطق واسعة وقتل ما يقارب ربع مليون نسمة من 14 دولة، ابرزها اندونيسيا وميانمار وسيريلانكا والهند وتايلاند والمالديف، اعلنت كل من الولايات المتحدة والهند واستراليا واليابان عن اطلاق حوار امني-انساني رباعي لحماية منطقة المحيط الهندي والتنسيق هناك. وفي العام 2007، عقدت جولة حوار أولى بدعوة من رئيس الحكومة اليابانية بحضور ديك شيني نائب الرئيس الأميركي ورؤساء حكومات كل من استراليا والهند، شكلت نقطة انطلاق تحالف كواد (QUAD) الرباعي وترافقت تلك المناقشات مع مناورات عسكرية مشتركة بين الدول الأربع استدعت احتجاجًا صينيًا قبل أن تتوقف تلك الإجتماعات العلنية بدءًا من العام 2008 لتعود وتستأنف عام 2017 وصولًا إلى مأسسة عمل التحالف وعقده اجتماعين سنويًا.
وفي عام 2019 اتخذت الدول المتحاورة قرارًا برفع مستوى التمثيل الدائم الى من السفراء إلى وزراء الخارجية. وفي اذار/مارس 2020 إنعقد المنتدى الرباعي لدول تحالف كواد تحت عنوان مواجهة كوفيدـ19 بمشاركة كل من كوريا الجنوبية، فيتنام ونيوزيلندا.
وكواد الى الآن، كما كواد+ لا يزالان مثيرين للنقاش، لكن الأكيد أن الولايات المتحدة تريدهما بكل أبعادهما العسكرية والأمنية والإقتصادية في مواجهة الصين، فمع وصول الديموقراطي جو بايدن إلى البيت الأبيض مطلع هذه السنة، وضع الأخير خطة معلنة لحصار الصين وعقد اول اجتماع قمة مع قادة كواد في اذار/مارس 2021 وكان افتراضيًا، وتلاه بعد ستة اشهر إجتماع رباعي في واشنطن (24 أيلول/سبتمبر الماضي) برغم المخاوف من كورونا، ما يؤشر الى ضرورة لقاء القادة بشكل مباشر لسبب كبير: الصين.
وبرغم محاولة الأميركيين إثارة قضايا كوفيد وانبعاثات الكربون في القمة، إلا أن الواضح ان الدول الأربع تعتبر الحضور الصيني في المحيطين الهندي والهادئ أبرز تحدٍ ينبغي مواجهته. طبعاً لكل دولة حساباتها مع الصين، فالهند والصين تشتركان بأطول حدود غير مرسمة بين بلدين في العالم، حيث حصل اشتباك في حزيران/يونيو 2020 ادى الى سقوط 20 قتيلًا من الجيش الهندي ودفع الهند إلى حظر تطبيقات صينية شديدة الشعبية مثل “تيك توك” وسواها.
كما تدهورت علاقات استراليا بالصين بعدما دعت كانبيرا الى اجراء تحقيق عالمي حول امكان انطلاق فيروس كوفيدـ19 من مختبرات ووهان، ناهيك عن خلافات البلدين الجمركية والتجارية التقليدية. اما نزاع اليابان مع الصين، فهو تاريخي من ملكية أراضٍ الى ملكية جزر في بحر الصين الشرقي.
ينسحب ذلك على الولايات المتحدة التي تخشى على تجارتها حيث عبرت بضائع بقيمة 2 تريليون دولار من خلال مياه المحيطين الهندي والهادئ عام 2019. وتوترت العلاقات مع بكين في السنوات الأخيرة في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي انخرط في حرب رسوم جمركية متبادلة مع بكين.
على الرغم من أن اسم الصين لم يرد في كلمة الرئيس الأمريكي خلال الإعلان عن اوكوس فإن ذلك لم يُخفِ أن الهدف الوحيد للكيان الوليد هو تطويق الصين ايضًا ومنعها من بسط نفوذها على منطقة شرق آسيا والمحيط الهادئ
وعلى الرغم من كل ماسبق تظل الصين شريكًا تجاريًا رئيسيًا لجميع دول التحالف الرباعي. لذلك هم بحاجة إلى المضي قدمًا في ادارة صراعاتهم معها بحذر، برغم تكريس مناخ حرب باردة جديدة على الصعيد الدولي سيبقى الأميركيون قطبها الأول (مع معظم التحالفات التي ورثوها بعد الحرب العالمية الثانية) ولكن ستصبح الصين قطبها الثاني وليس روسيا (الإتحاد السوفياتي سابقًا).
وفي موازاة تحالف كواد، أطلق الرئيس الأميركي جو بايدن ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون ورئيس الوزراء الأسترالي سكوت موريسون، في 15 أيلول/سبتمبر 2021، شراكةً أمنية-عسكرية ثلاثية، هي تحالف أوكوس (AUKUS الاسم مكون من الأحرف الأولى من أسماء الدول الثلاث)، بخلاف كواد الذي لم يصل إلى حد التحالف الأمني ـ العسكري.
وبموجب اوكوس، ستحصل أستراليا على أسطولها الأول من الغواصات الأميركية التي تعمل بالطاقة النووية، مما سيجعل منها الدولة السابعة التي تشغّل غواصات من هذا النوع بعد الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وروسيا والهند والصين.
وعلى الرغم من أن اسم الصين لم يرد في كلمة الرئيس الأمريكي خلال الإعلان عن اوكوس فإن ذلك لم يُخفِ أن الهدف الوحيد للكيان الوليد هو تطويق الصين ايضًا ومنعها من بسط نفوذها على منطقة شرق آسيا والمحيط الهادئ.
وبغض النظر عن الأهداف المشتركة أو المختلفة بين المجموعات الثلاث وهي العيون الخمس وكواد وأوكوس (five eyes, quad, and AUKUS) تحاول إدارة بايدن الرقص على حبل مشدود بينها وبين الصين وفق المعادلات الآتية، بحسب الاعلان الأميركي:
– التعاون مع الصين حيث يمكن (نموذج ملف تغير المناخ).
– التنافس حيث ينبغي، كما هو الحال في التقنيات الجديدة.
– مواجهة الصين حيث تجب المواجهة، حسب تصورات افتراضية لإعتداء بكين على جيرانها.
وفضلًا عن حدة إعتراض رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون على تطيير صفقة الغواصات النووية بين فرنسا وأستراليا، إلا أن تداعيات اوكوس ستؤثر أكثر على علاقة دول “اسيان” ASEAN في ما بينها ومع استراليا.
واسيان منظمة اقتصادية تضم دولًا في جنوب شرق آسيا تأسست عام 1967 في العاصمة التايلاندية بانكوك وتضم اندونيسيا والفليبين وماليزيا وسنغافورة وانضمت اليها لاحقًا بروناي وفيتنام ولاوس ثم بورما وكمبوديا، بالإضافة إلى تايلاند.
وقد اعتبرت اندونيسيا ان الغواصات النووية تشكل خطرًا عليها (ثمة حدود مشتركة بينها وبين استراليا) وانضمت إليها ماليزيا في دق ناقوس الخطر من سباق تسلح نووي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وبلغ الشعور بالخطر سنغافورة الدولة الأقرب والأوثق تحالفًا مع استراليا.
وكانت الدول الأعضاء في “آسيان” قد وقعّت عام 1995 على معاهدة إنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية في جنوب شرقي آسيا، والتي التزمت بإبقاء الأسلحة النووية خارج المنطقة.
في الخلاصة، قال جو بايدن كلامًا جميلًا في الجمعية العامة للأمم المتحدة مؤخرًا حيث أوضح أنه لا يريد حربا باردة مع الصين. لكن الكلام يتبدل بتبدل موازين القوى والى ان يحصل هذا التبدل يقف العالم على اهبة الإستعداد لطي صفحة “الإرهاب الإسلامي” بعد ان طوى قبلها صفحة الشيوعية والإتحاد السوفياتي ليفتح صفحة الصين والتنين القابل للتمدد والإنتشار.