تَحقُق الوحدة العربية ليس مستحيلاً. أولاً، ليست غير قابلة للتحقيق. تحققت سابقاً بشكل كامل أو منقوص، لكنها تحققت. كان الدافع الى الوحدة هو دائماً وحدة اللغة، وقد نزل الكتاب الموحى الذي رافق التوحيد الإلهي الى الأرض بلسان عربي مبين. كان قائد التوحيد النبي العربي الكريم، وكان حلمه يتجاوز إمكانياته الكبرى. لكن الدافع الروحي والمادي للفتح كان موجوداً، وقد أكمل الخلفاء الذين جاؤوا بعده ما بدأ به. ولم يكن منهم من يصدق ما حدث بعد ذلك. كان سلاحهم الأساسي أن النبي دفعهم في طريق لم يريدوا ولوجها. وقد ولجوها إيماناً به واحتراماً له ومعرفةً منهم بأنه قادهم في السابق الى تحقيق ما لم يحلموا بتحقيقه. روح قيادته جعلت المستحيل ممكناً، وجعلت من الأنقاض دار مكنية تسع العالم، أو نصفه كي نكون أكثر تواضعاً.
ربما فهم النبي أن البلاد التي تسرّب العرب إليها سابقاً وعبر عدة قرون، وهي تشمل سوريا الكبرى وما بين النهرين وربما مصر، قد تعرّبت، وأن التعريب قد أصاب منها ما جعلها ترحب بالعرب كفاتحين رغم اختلاف الدين. كانت امبراطوريتا الفرس والروم منهكتين بسبب الحروب بينهما، ولم تلاحظا أن التعريب التدريجي لبلاد سوريا ولبنان وفلسطين والعراق سيجعل من الفتح في هذه البلدان تحريراً لشعوبها من حضارات وحكومات غريبة. استقبلت شعوب هذه المنطقة العرب وكأن وجود العرب بينهم هو الأمر الطبيعي لا الفرس أو الروم بحضارتهما المكروهة وحكمهما الظالم. يبدو أن بلدان شمال أفريقيا كان وضعها مشابهاً، بعكس الهضبة الإيرانية وأواسط آسيا. الفتوحات العربية هي خارج سوريا والعراق والجزيرة العربية أي خارج المشرق العربي. هذه الفتوحات خارج المجال الحضاري العربي استغرقت عقوداً طويلة. لم تكن الفتوحات في ايران بأقل صعوبة من شمال أفريقيا، أي ليبيا وما بعدها غرباً. لكن أهل المغرب العربي تعربوا عندما أصبحت العروبة أو الإسلام حركتهم الداخلية والمحلية.
في ايران وما بعدها شرقاً استيقظ شعور بالذاتية الحضارية بعد ثلاثة قرون من سقوط الدولة الساسانية. وانطلق فكر عبر كتب مثل الشهنامة، والتي تتحدث عن أمجاد وذكريات الفرس ما قبل العرب والإسلام.
العربي هو كل من عرّف نفسه أنه عربي. لا شك أن في المنطقة العربية مجموعات ترفض الانتماء والدين. لها الحق بذلك، إذا كانت هذه هي إرادتها. الأكثرية الساحقة من الذين يتبنون العروبة يتكلمون العربية. أكثرية المسلمين لا يتكلمون العربية. ما يحدد العروبة هو اللغة برغم تعدد العادات والتقاليد والاتجاهات
كانت الفتوحات مرحلة من مراحل التأسيس لما سوف يسمى أمة عربية في ما بعد. قبل الفتوحات كان العرب قد جعلوا المشرق مستقراً. خلال الفتوحات توسعوا شرقاً وغرباً من حدود الصين الى الأندلس مرورا ببلاد المغرب العربي، ليبيا وتونس والجزائر والمغرب. أرسوا في هذه المناطق ديناً ولغة. معظم أتباع هذا الدين لم يتعربوا لا سابقاً ولا لاحقاً. في بلاد البربر هناك كلام كثير قيل عن عروبتهم أو عدمها. هم كغيرهم من العرب يتكلمون لهجات محلية، واللهجات المحلية ربما تحولت الى لغات. لكن اللهجات العامية تبقى مضبوطة بالفصحى، لغة القرآن. تتطوّر اللغات الأخرى في العالم حتى لتكاد تتميّز الى لغات مختلفة بين عصر وآخر. أما اللغة الفصحى، لغة القرآن، فهي تبقى ثابتة. ربما رأى البعض في ثبات هذه اللغة أمراً سلبياً يتعلّق بإمكانية هذه اللغة على استيعاب التكنولوجيات والألفاظ الجديدة التي تظهر مع أنماط جديدة من العيش والسلوك. لكن اللغة العربية بما تتمتّع به من مرونة الاشتقاق، يبدو أن احتمالاتها غير محدودة. ربما كان الإعراب صعباً لكن الحل سيكون سهلاً لو تجاوز العرب ماضٍ لم يعد موجوداً وممارسات لم تعد واردة.
يقودنا كل ذلك الى محاولة البعض تعريف من هو العربي. نقول العربي هو كل من عرّف نفسه أنه عربي. العروبة بذلك هي هذا التعريف وهذا الانتماء الذي يفترضه التعريف. لا شك أن في المنطقة العربية مجموعات ترفض الانتماء والدين. لها الحق بذلك، إذا كانت هذه هي إرادتها. الأكثرية الساحقة من الذين يتبنون العروبة يتكلمون العربية. أكثرية المسلمين لا يتكلمون العربية. ما يحدد العروبة هو اللغة برغم تعدد العادات والتقاليد والاتجاهات السياسية والاختلافات الثقافية والخلافات الدينية والإثنية والمذهبية. إذا كان للعروبة روح فهي اللغة، وإذا كان لها جوهر فهو اللغة.
على كل حال، إنكار أن للأمم روح وجوهر هو الأكثر شيوعاً في هذه الأيام. وعلى كل حال أيضاً، اللغة لا توحد. هي أحد الشروط الضرورية وغير الكافية. الكثير من الشعوب الإسلامية لا يتكلم العربية، رغم حفظ وتقديس القرآن. لا يعتبرون أنفسهم عرباً. الولايات المتحدة، مثلاً، يتكلم أهلها الانجليزية، بينما لا هم أنجليز ولا الانجليز أميركان. القارة الأميركية الجنوبية والوسطى يتكلم أهلها الإسبانية أو البرتغالية (البرازيل) وهم ليسوا اسباناً ولا برتغاليين.
الوحدة العربية، كأي وحدة أخرى، عمل سياسي أو ديبلوماسي. هي عمل سياسي بما هو إرادي يعبّر عن تواصل الشعوب العربية بشكل أو بآخر. وهي عمل ديبلوماسي لأنه يحدث بين الدول. وحدة الشعوب العربية أمر مفروغ منه. ثورة 2011 أثبتت أن لدى العرب جميعاً نبض واحد. يتحركون على نغم واحد. يرقصون على لحن واحد. وحدة الدول العربية هي المحك الأساسي. إذا كانت الشعوب العربية غير موحدة أو لا تريد الوحدة، فلا معنى للحديث عنها، ولا معنى لوحدة الدولة. تتحد الدول استجابة لدوافع شعوبها فقط.
يقودنا هذا الى التساؤل عن وجود الأمة في حال عدم تكريسها في كيان سياسي موحد. الأمة ليست قومية بمعنى عصبية لهوية معينة. في الوقت الحاضر، تتشكّل المنطقة العربية من دول، ولكل دولة قومية او أمة. مهما بدا هذا الكلام متناقضاً، إلا أن وجود دول متعددة يحتم وجود ايديولجيات تكرسها ومصالح تتمسّك بها فئات ترى في التخلي عنها تضحية.
لم تتحقق الأمة العربية في كيان سياسي موحد بعد. فهي رغبة. تبقى ايديولوجيا ولو كانت محببة. هي يوتوبيا مستقبلية تتوفر لها كل التطورات التاريخية أو الظروف التي تجعل من إمكانية تحققها أمراً معقولاً. معظم الذين يتكلمون في الأمة العربية وكأنها واقع فعلي لا يدركون أنهم بذلك يجعلون منها كائناً ميتافيزيقياً. مقولة فكرية أو نفسية تقبع في عالم غير هذا العالم، وتتجلى أحياناً في مراحل معينة من التاريخ؛ تهبط من السماء. الأمة فعل سياسي. إرادة مشتركة. تحقق واقعي. وإذا أردنا استعمال التعبير الأرسطوي نقول الأمة العربية الآن موجودة بالقوة لا بالفعل. هي احتمال. يتعرّض العرب لضغوط وحروب أهلية؛ وفساد في الأرض؛ ونوايا امبريالية؛ وتخلف داخلي ثقافي واجتماعي واقتصادي؛ وحكومات استبدادية تعتمد السلطة لا الدولة؛ وتصحّر يجعل الحضارة والثقافة مجالاً ضامراً؛ وتصحّر ذهني يجعل الوعي خالياً من العقل؛ وكلامولوجيات يعج الفضاء بضجيجها؛ وجيران أسيويون وأوروبيون وأفارقة يرون في العروبة تعدياً على مجالهم التاريخي.
اللغة العربية لها احتمالات كثيرة غير متاحة لغيرها. أما إعراب آخر الكلمة فهو عملياً يحتّم على الواحد منا أن يفهم قبل أن يقرأ. إذ لا يمكن إعراب آخر الكلمة قبل فهم الجملة برمتها. هذه صعوبة لا يمكن تجاهلها. لا بدّ من التذكير أن التطوير في اللغة، أمر سياسي
العروبة حليفها العقل وعدوها الديماغوجية؛ ديدنها الصدق ونقيضها النفاق. العروبة مصير لا قضية. إذا كانت قضية فجوهرها الصراع ضد إسرائيل. مصير الشعوب العربية، الأمة العربية، ليس مرتبطاً بوجود اسرائيل. العكس هو الصحيح. الذين يرهنون الوجود العربي بالوجود الإسرائيلي يحكمون على العروبة وشعوبها بالفناء. وجود إسرائيل جرح في جسد هذه الأمة. لا بدّ للجرح أن يلتئم. والذين يقولون بالصراع العربي الإسرائيلي، يساوون بين احتمال تاريخي عظيم وبين وجود صغير جعله الدعم الغربي، خاصة الأميركي، اكثر من تافه.
تضيف اللغة العربية الى أمتها قدسيتها (فصحى القرآن) وكونيتها. هما سمتان لا يمكن أن تنافسهما لغة أخرى؛ لا الأتراك ولا الإيرانيون، إذ أن لغتيهما أبعد عن ذلك. ولا العبرانية التي تحصر القداسة في جماعة مغلقة. أما العامية فهي لا تعاني من الفصحى كما عانت العاميات الأوروبية من اللاتينية، واضطرت الى منافستها وإزاحتها كي تصير اللغة مفهومة لدى العامة. الفصحى العربية تضبط العامية ولا تنافسها ولا خوف عليها منها. الأرجح أنه ليس في العالم لغة أخرى لديها عدة الشغل العامية كالعربية. في نفس الوقت لا تحصر هذه العربية تفسها في اطار محدود، إذ أنها حين جعلت الجاهلية واحدة من روافدها باستخدامها شعر الجاهلية لتفسير الكتاب المقدس استطاعت الالتفاف حول جمود القداسة.
كل اللغات الأخرى في العالم لدى كل واحدة منها مجالاً جغرافياً محدوداً إلا اللغة العربية فلها الكون مجالاً لها. لا قدسية للغة أخرى إلا وواجهت العاميات التي اضطرت الى إلغائها. إذا كان للبنى اللغوية تأثير في الشعوب المتكلمة بها، فإن اللغة العربية تضيف الى أصحابها سمة كونية، لذلك يصح القول إن الأمة العربية غير فوضوية. القوميات كلها تعني الانحصار في الجغرافيا، وفي معظم الأحيان العصبية ضد الاثنيات الأخرى. جميعها استبعادية. العربية وحدها استيعابية بحكم كونها لغة كونية. وسائل الإعلام لدى الشعوب العربية تقرّب العاميات من الفصحى ولا تنتج التباعد الذي تعانيه اللغات الأخرى.
لكن العربية تعاني في النحو والإعراب. النحو صعّبه النحويون ليجعلوا منه سراً مهنياً مقتصراً على من لا يعرف إلا هذا السر، سر المهنة. أما الإعراب فهو مسألة أخرى. الحركات في داخل الكلمة الواحدة تزيد من إمكانياتها، واشتقاقاتها تزيد من إمكانياتها؛ باختصار، ربما صح القول إن اللغة العربية لها احتمالات كثيرة غير متاحة لغيرها. أما إعراب آخر الكلمة فهو عملياً يحتّم على الواحد منا أن يفهم قبل أن يقرأ. إذ لا يمكن إعراب آخر الكلمة قبل فهم الجملة برمتها. هذه صعوبة لا يمكن تجاهلها. لا بدّ من التذكير أن التطوير في اللغة، كما في كل شيء آخر، أمر سياسي. المجامع العلمية (اللغوية) لا تكفي على ضرورتها. لقد جرى تنقيط اللغة العربية وتحريك حروفها في ظروف تاريخية كانت الدولة المركزية حينها قوية (عباسيون، أمويون). لكن لم تتدخل السلطة السياسية في ذلك مباشرة. النخب الثقافية، خاصة في الكوفة والبصرة وبغداد، هي التي فعلت ذلك باستقلالية، وإن كان لها علاقة بالدولة المركزية وبالدواوين البيروقراطية. كانت الدواوين بعد أن تعربت لغتها، وكان ذلك في عصر عبد الملك بداية، بحاجة الى تطوير (قواعد وتنقيط وإعراب). وقد أمدتها النخب بالمساعدة. لقد كان العمل الذي قامت به نخب هذه البلدان، ودمشق أيضاً، ولاحقاً القاهرة والقيروان وقرطبة، عملاً ضخماً يثير الإعجاب. لم يهدموا الهيكل من أجل هيكل جديد، بل جعلوا اللغة حاملة لاحتمالات أكثر وغير محدودة. ان تفعيلات العروض، وتفعيلات المصادر بتعدد احتمالاتها لكل لفظة هي ما يتيح للعربية الامتداد على مدى العصور والأمكنة. امتداداً غير محدود. الصعوبات التي عانتها محاولة الكتابة باللاتينية في لبنان، وقد كانت الظروف السياسية في لبنان مؤاتية، دفنت هذه المحاولة في المهد. كل إثنية تحاول أن تنفصل عن عالم العروبة تعاني صعوبات تتجاوز سهولة القول بالانفصال القومي. العامية العربية هي اللغة المحكية لدى هذه الإثنيات. هي تربطها، بشكل أو بآخر، بمركز لا يمكن الفكاك منه.
إن الصعوبات التي يعانيها العرب والعربية صعوبات سياسية، لا يمكن التقليل من اهميتها. هي صعوبات يدفع الحل اللغوي الى تسهيلها لا الى تأجيجها. السياسة في المجال العربي تقع على طرفي نقيض مع اللغة بجميع أشكالها، القرآنية، والفصحة، والعاميات. السياسة تفرّق للأسف بسبب الطغيان في كل بلد عربي، ومصالح متمكنة في كل قطر عربي. لكن اللغة العربية عامل توحيد لا تجزئة، وهو أمر غير متاح لأية أمة أخرى متحققة بالفعل أو مزمعة الوجود (موجودة بالقوة).. يتبع.