التحولات التركية.. الشعب في صلب دينامية التغيير

تركيا بلد التحولات والتفاعلات والتناقضات والمفارقات. هي مزيجٌ من كلّ شيء، من الشّرق والغرب، من الإسلام والمسيحية، من الدّين والعلمانيّة، من الديكتاتورية والديموقراطية، من حبّ فلسطين والتودّد لإسرائيل.

إنقضى قرنٌ على قيام الجمهورية التي ثبّت دعائمها مصطفى كمال. صحيحٌ أنّ مصطفى كمال استطاع شقّ المسار العام لتلك الدولة، لكنّه لم يحد بشكل مطلق عن روح السياسة العثمانية ومؤسّساتها التي سبقته، بل بنى عليها، وصبغها بلون الجمهوريّة الجديدة.

من يظن بانقطاعٍ كاملٍ ما بين العثمانيّة والكماليّة، على الأرجح لم يقرأ التاريخ، تمامًا كمن يعتقد بأنّ “الأردوغانيّة” تُمثّل انقطاعًا تامًا عن الكماليّة. هناك سياقات وتراكمات تاريخية؛ الثابت فيها هو السعي للنهوض بتركيا إلى مصافي الدول القوية، أمّا المتغير فيتصل بالأدوات والوسائل والأولويات.. والوجوه طبعًا.

تلعب الضرورات والحاجات دورًا مهمًا في تحديد الأولويّات. كانت رؤى مصطفى كمال ذات مغزى ووظيفة بالنسبة إلى الفترة التي كانت تمرّ بها البلاد آنذاك كما يصفها هاينتس كرامر. كانت ذات جدوى على صعيد خلق دولة قوميّة، وفقًا لمعايير القرن التّاسع عشر الأوروبيّة في العمق الأناضولي من الإمبراطوريّة العثمانيّة السّابقة. غير أن تلك المبادىء، ما لبثت أن أصبحت عقبةً على طريق تحقيق المزيد من الدّيموقراطيّة في تركيا، وبات من الضروري إعادة تفسير تراث أتاتورك السياسي، وفقًا للوقائع الداخليّة والخارجيّة الجديدة.

مسارات التغيير

يتكلم هاينتس كرامر في كتابه “تركيا المتغيّرة تبحث عن ثوبٍ جديد” عن ثلاثة عوامل مترابطة ذات تأثير حاسم في مسار عمليّة التغيير الإجتماعي: التنمية الإقتصاديّة أولًا، الريادة السياسيّة ثانيًا، والتحديث الإيديولوجي ثالثًا. فمنذ أواسط خمسينيات القرن الماضي، تمكنت تركيا مُعتمدة على سلسلة من الخطط التنمويّة الليبراليّة والدوليّة ذات الدوافع السياسيّة، من أن تُصبح اقتصادًا صناعيّا متنوعًا، وفي سبيل ضمان استمرار نموّها الإقتصادي اضطرّت تركيا إلى بذل جهودٍ جبّارة لزيادة وارداتها من الطاقة.

أمّا في عقد الثمانينيات الماضية، أي في عهد رئيس الوزاء تورغوت أوزال، ونتيجة لخطط اللبرلة الإقتصادية السائدة، حقّق الإقتصاد التّركي نجاحًا ملحوظًا على صعيد قدرته التنافسيّة على المستوى العالمي في ميادين الإنشاءات والنسيج والملبوسات وتصنيع الأدوات المنزليّة. وقد استمرّ ازدهار الصادرات التركيّة في التسعينيات، ثم جاءت الألفية الجديدة مع وصول حزب العدالة والتنميّة ليشهد الإقتصاد التركي انفجارًا حقيقيًا بمعناه الإيجابي، وذلك بموازاة تجديد البنية التحتية للبلاد.

الهدف هنا هو القول بأن التحوّلات الإقتصاديّة كانت تترافق مع تحوّلات سياسيّة واجتماعيّة. هذا التحول الإقتصادي كان من الضروري أن يرفده توسيع هامش الحريّات والعمليّة السياسيّة الداخليّة نتيجة إنفتاح السوق العالمي على البلاد، وتطوّر وسائل النقل والإتصالات والخدمات، ومهما حاول الجيش ضبط إيقاع العمليّة السياسيّة، غير أنّ تبعات تدخلاته كانت ترتدّ سلبًا على سطوته وقوّته. فقيادة الجيش، كما يشرح كرامر، لم تنجح قط في إحداث تغيير جذري في النظام السياسي الذي أثبتت ديناميته الداخليّة المتأصلة قدرة أسطوريّة على الثبات والإستمرار. فبعد انقلاب عام 1960 ازداد الإنقسام السياسي حدّة، خاصة مع صعود تيار اليسار، ثم بعد انقلاب عام 1971 صعد التيار الإسلامي، أمّا بعد انقلاب عام 1980 فقد انفتحت البلاد بقوّة على الخارج بفعل التحوّل الليبرالي، ثم جاء انقلاب عام 1997 على الإسلام السياسي ليعود بزخمٍ أكبر عام 2002، أمّا انقلاب عام 2016 فقد أدى إلى تحولٍ جذري على صعيد موازين القوى المحلية داخل النظام السياسي التركي.

الديناميات التي أطلقها أتاتورك في المجتمع، سياسيًا وثقافيًا، تحوّلت مع مرور الزّمن من مجرد شعارات جذّابة رنّانة إلى حقوقٍ مقدّسةٍ لا يجوز المسّ بها. ما يزيد هذه الفكرة مقبوليّة ومعقوليّة، هو وجود إرادة شعبيّة فاعلةٍ ومؤثّرةٍ في تركيا، تُبرهن عن نفسها في الكثير من المناسبات وأهمها الإنتخابات

التعليم وبذور التغيير

حين أفضت لبرلة الإقتصاد التركي وتدويله في الربع الأخير من العقد الماضي، إلى قدرٍ أكبر من اللامساواة الإجتماعية، وإلى هجرة متنامية من الأرياف إلى أطراف المدن، كانت قوى الإسلام السياسي سبّاقة في احتضان ورعاية الخاسرين في عملية التحديث، وكان حزب الرّفاه هو الطرف الرّابح سياسيًا. ذلك أنّ الوافدين الجدد إلى المدينة من أهل الريف التركي، هم عادة أكثر التزامًا بالعادات والتقاليد التي يشكل الدّين أحد أهمّ أعمدتها، إضافة إلى أنّ تمركز الحضور العلماني غالبًا ما يكون في المدن، وإن لامس الأرياف فإنّه يصل ضعيفًا. كما أنّ شعارات العدالة والنزاهة التي رفعها حزب الرفاه الإسلامي، مقابل الأحزاب التقليدية التي تآكلت سمعتها جرّاء الفساد حينها، دفعت الجمهور للتوجه نحو تجربة حزبٍ جديد لم يكن قد تلطخ بمثالب السلطة بعد.

هناك عاملٌ حاسمٌ مهّد الطريق أمام صعود التيّار الإسلامي وهيمنته بشكل تدريجي على المشهد السياسيّ في تركيا، هو برنامج التربية والتعليم. فخلال فترة الستينيات، سعى أعضاء “حوزة إسكندر باشا” العائدة للطريقة النقشبندية، بزعامة شيخهم ميمت قوتقو، من أجل التسلل إلى وزارتي التعليم والداخلية.

كانت عملية ضم المنظمات الإسلامية إلى النظام السياسي فعّالةً عن طريق توحيد أحزاب يمين الوسط، والجماعات الإسلاميّة، وقيادة الجيش، في الحرب ضد اليساريين والشيوعيين الذين كانوا يُعتبرون “خطرًا جديًا يُهدّد النظام الجمهوري” في عقدي الستينيات والسبعينيات، وهو الأمر الذي أفضى مع بداية الثمانينيات إلى مرحلة جديدة في عمليّة التفاعل بين سياسة الدولة الرسمية والإسلام، والتي يُطلق عليها كرامر عمليّة “أسلمة النزعة العلمانية”. فعملية “الأسلمة” الزّاحفة كانت قد تمّت في ظل نجم الدين أربكان، حين اشترك حزب الخلاص القومي تحت قيادته في حكومات الجبهة القومية الإئتلافيّة بزعامة سليمان ديميريل خلال النصف الثاني من عقد السبعينيات، والذي بنتيجته تم تقسيم المؤسسات العامة وفقًا للأفضليات الحزبية، حيث استطاع حزب نجم الدين أربكان من خلال موظفين سبق أن غُرسوا في مؤسسات النظام، من توجيه نظام التعليم في تركيا نحو إيلاء المزيد من الإهتمام للدّين، وهو مسار بدأ مع توسيع التعليم الديني منذ مطلع خمسينيات القرن الماضي وبلغ ذروته مع دستور العام 1982 الذي جعل تعليم الإسلام إلزاميًا في المدارس من الإبتدائيّة إلى الثانويّة.

إقرأ على موقع 180  مصارف لبنان تُناور إستباقياً.. من يَدفعْ كلفة الإنهيار؟

والملفت للإنتباه خلال تلك الفترة، خاصة منذ أوائل عقد التسعينيات، أنّ فتح الله غولن وأتباعه أصبحوا أبرز الممثلين الإسلاميين للتركيبة التركيّة الإسلامية، وحققوا سمعة واسعة بوصفهم قوّة إسلاميّة معتدلة معارضة لحزب الرّفاه الأكثر أصالة ووضوحًا.

التفاؤل بالمستقبل

كثيرون من اللبنانيين والعرب شعروا بالخذلان العميق من موقف حزب العدالة والتنمية تجاه مظلومية الشعب الفلسطيني، خاصّة لجهة تناقض الخطاب الشعبوي مع المسار المادي والواقعي في العلاقة مع الكيان “الإسرائيلي”. لكن إعادة التفكير بالخطاب الرسمي والشعارات الشعبوية قد تمنح البعض أملًا في المستقبل القادم، وهذا ما يمكن استشرافه ربّما من باب الإيجابيّة والتفاؤل.

أحيانًا أنت ترفع شعاراتٍ كبيرةً وعميقة، لكنّ سلوكك يكون تمامًا على النقيض منها، غير أنّ بناء أجيالٍ جديدةٍ ومتتالية تكبر على سماع هذه الخطابات سيُحوّلها مع الزّمن إلى مبادىء ثابتة وراسخة وقويّة. فمثلًا، رفع أتاتورك شعار الحريّة والديموقراطيّة وأحدث انقلابًا جذريًا في فهم الفرد التركي لمكانته الذّاتية وتحرّره من المقدسات التي نشأ تاريخيًا عليها، على اعتباره تابعًا لسلطة السّلطان (مرّة جديدة، كان برنامج التربية والتعليم أساس هذا التحول)، مع كونه قد أصبح بعد فترة وجيزة جدًا من وصوله إلى رأس السّلطة متفردًا بالقيادة، وراح يتخلّص حتى من أقرب أصدقائه الذي خاضوا معركة التحرّر معه. لكنّ الديناميات التي أطلقها أتاتورك في المجتمع، سياسيًا وثقافيًا، تحوّلت مع مرور الزّمن من مجرد شعارات جذّابة رنّانة إلى حقوقٍ مقدّسةٍ لا يجوز المسّ بها. ما يزيد هذه الفكرة مقبوليّة ومعقوليّة، هو وجود إرادة شعبيّة فاعلةٍ ومؤثّرةٍ في تركيا، تُبرهن عن نفسها في الكثير من المناسبات وأهمها الإنتخابات، ولذلك يمكن التعويل على أهميّة خلق جوٍ عامٍ معادٍ لسياسة الولايات المتحدة الأميركيّة الإستكباريّة وربيبتها “إسرائيل”، على عكس بعض الأنظمة “اللاديموقراطيّة” والمتسلطة، التي استطاعت بطرفة عين، أن تقلب العداء الشكلي للصهاينة إلى تحالفٍ وثيق!

بالإمكان تلخيص الفكرة من خلال رواية إيفو أندرتش الشهيرة “جسرٌ على نهر درينا”. هذا الجسر الذي بناه الوزير الأكبر محمد علي باشا سوكولي قرب قريته فيشيغراد، التي أُخذ منها عام 1516م حين كان صغيرًا نتيجة ما سُميّ بـ”ضريبة الّدم”، والتي كان بموجبها يتم جمع الأولاد المسيحيين الأصحاء والأذكياء والأقوياء الذين تتراوح أعمارهم ما بين العاشرة والخامسة عشرة، من أجل تدريبهم وتعليمهم ومن ثمّ فرزهم في مؤسسات السلطان السياسيّة والعسكريّة والإدارية. المهم أنّ الوزير الأكبر قام ببناء الجسر، وقد كان له دورٌ وهدفٌ محدّد، لكن مع تقادم الأيّام وتغيّر الزّمن، مات الوزير وتعاقب عددٌ كبيرٌ من السلاطين، وتغيّرت الأدوار وتبدّلت موازين القوى، لكنّ الذي تمّ بناؤه ظلّ صامدًا لمئات السنين مع تغيّر طبيعة دوره ومهمّته.

أحيانًا تطلق فكرةً أو تُنفذ عملًا لهدفٍ ما، لكنّ هذه الفكرة أو العمل، قد تبقى لفترةٍ أطول بكثيرٍ من صاحبها إذا كانت قويّة ومتينة، ثم تتأقلم مع دورها الجديد بمرور الزمن. فكرة العداء لظلم الكيان الصهيوني قويّة ومتينة، وسياسة السعيّ نحو الإستقلاليّة السياسيّة والعسكريّة والإقتصاديّة ستعطي تركيا هامشًا من الحريّة أوسع، كما ستدفع نحو تحوّلاتٍ داخليةٍ جديدة، تحديدًا كما حدث في الإنتخابات البلديّة الأخيرة، حيث أجبر الجمهور الحزب الحاكم على إعادة تقييم موقفه وأدائه من الحرب على غزّة، لذلك، فإنّ المتوقع هو أن يتغيّر أداء الدولة التركية مع القادم من الأيام، من الخطاب إلى الفعل، ولو أن التأخر على مدى ستة أشهر من حرب غزة كان مُكلفًا جدًا لأردوغان وحزبه..

Print Friendly, PDF & Email
Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  صناعة غاز شرق المتوسط.. تحديات تركية ولبنانية