يبدو أن نهاية المعركة المسلحة فى مأرب بين القوات المشتركة والميليشيا الحوثية ستشكل نقطة تحوّل استراتيجية فى المشهد اليمني بشكل عام. فالصراع المسلّح الممتد لسنوات يزحف حالياً على معقل الشرعية الرئيسي مع تطويق الحوثيين للمحافظة من ثلاث جهات: شمالاً من الجوف وجنوباً من تخوم شبوة، وغرباً على امتداد الجبهات الممتدة مع صنعاء. وتحافظ الميليشيا على وتيرة هجومية متصاعدة على خطوط الدفاع الرئيسية للقوات المشتركة، مع افتقار تلك القوات إلى القدرة على إحداث اختراق نوعي. وعلى الأرجح، كل ما تستطيع فعله حالياً هو تعطيل تقدم الميليشيا واستنزاف قدراتها قدر الإمكان.
على هذا النحو، لم يعد السؤال المطروح حالياً بشأن معركة مأرب يتعلق بإمكانية سيطرة الميليشيا الحوثية عليها من عدمه، بقدر ما يتعلق بكيفية حدوث ذلك فى ظل اعتمادها تكتيك “الأرض المحروقة”، باستهداف كل ما يعترضها دون المبالاة بحجم الدمار الذي تُخلِّفه عمليات القصف بالصواريخ والطائرات من دون طيار، أو الكُلفة البشرية الباهظة، فى ظلّ عدم التفرقة بين ما هو مدني وما هو عسكري، وتداعياتها الإنسانية الصعبة فى بلد يتصدر قائمة الأزمات الإنسانية فى العالم. حيث تنظر الميليشيا فقط إلى المكاسب السياسية والاقتصادية التي ستجنيها حال السيطرة على مأرب، باعتبارها المعقل الأخير للحكومة الشرعية، بالإضافة إلى كونها الأكثر غنى بموارد النفط فى البلاد.
التحدي الديني والقبلي
وقياساً على مستوى المعارك السابقة التي شهدها الصراع اليمني الذي دخل عامه الثامن، فإن معركة مأرب هى الأعنف وستكون الأعلى فى محصلة الخسائر، فضلاً عن كونها الأطول زمنياً. فقد شهدت المعركة نقلة استراتيجية منذ شهر أبريل/نيسان 2021 بالسيطرة على جبهتى صرواح والكسارة، ثم تطويق مأرب عبر الحصار العسكري باتجاه الشمال مع الجوف، والجنوب مع شبوة. واستخدمت الميليشيا فيها الصواريخ الباليستية مبكراً بالإضافة إلى الطائرات بدون طيار المفخخة. فقد تبنت الميليشيا من قبل تكتيك الحصار والقصف فى معركة دماج التي كانت إحدى أبرز معاركها فى مسار وصولها إلى العاصمة صنعاء وإسقاطها فى 21 سبتمبر/أيلول 2014، وكانت قد استخدمت آنذاك وسائل القصف المدفعي المختلفة والصواريخ فى بعض الأحيان، إلا أنها لم تكن بنفس القدرات الفائقة التي تستخدمها حالياً.
فى هذا السياق، تبدو المقارنة ما بين معركتى دماج ومأرب مهمة من زوايا أخرى، منها مثلاً طبيعة الخصم الذي كانت تواجهه الميليشيا فى دماج (2013-2014) وهو التيار السلفي، والذي كانت تعتبره التحدي الأبرز لها فى معقلها الديني فى صعدة، حيث سبق وأنشأ السلفيون هناك “دار الحديث” وهي أشبه بمدرسة دعوية وبالتالى لديها موقف مضاد من العقيدة الحوثية بشكل عام. هذا بالإضافة إلى العامل الثأري مع هذا التيار، على اعتبار أنه فى فترة الحروب الستة بين النظام السابق والحوثيين، منح النظام مساحة حركة للسلفيين لمعادلة دور الحوثي، خاصة وأنه كان هناك اعتقاد لدى علي عبدالله صالح وربما لدى المملكة العربية السعودية أيضا بحدوث تقارب مذهبي بين الحوثي وإيران، قد يكون له تداعيات على اليمن. وبالتالي من الناحية الرمزية، فرض الحوثيون ما يعتبرونه نوعاً من الهيمنة الدينية أو المذهبية إن جاز التعبير.
لن يضيف سقوط مأرب رصيداً سياسياً للحوثيين، فلن تكون جماعة أنصار الله الحوثية هي الشرعية البديلة، ولا يعتقد أن هناك من سيعترف بها أكثر ممن اعترفوا فى السابق، خاصة إيران ووكلائها الإقليميين فى لبنان والعراق. وبالتالى فإن محصلة العائد السياسي للحوثيين هي مجرد تقويض رمزية الشرعية
كذلك فى معارك أخرى فى عمران، كسرت الميليشيا التحدي القبلي المتمثل فى أعرق القبائل اليمنية وأكبرها تكتلاً وهي حاشد، فيما تعتبر القبيلة فى حد ذاتها رمزية ربما كانت تتقدم على رمزية الدولة ذاتها فى المنظور اليمني، فضلاً عن القاسم المشترك وهو العامل الثأري فى كل تلك المعارك، حيث ركّزت فى معركتها على آل الأحمر – التي كانت تترأس تكتل حاشد – باعتبارهم سلطة اجتماعية وسياسية واقتصادية أيضاً.
إنقسامات في صفوف الشرعية
وفى مأرب، لا يمكن تنحية العامل الثأري ضد ما تبقى من بقايا الدولة التي رحلت إلى هناك. فقد قصفت الميليشيا بالصواريخ الباليستية دار الحديث في 1 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، مُخلِّفة 13 قتيلاً وعشرات المصابين، وهو المشهد الذي أعاد إلى الأذهان على الفور معركة دماج وقصف دار الحديث هناك. كذلك، فإنّ حصارها للقبائل فى العبدية ورحبة في مأرب يُذكِّر بما جرى فى معارك عمران. وبالتالي يمكن القول إن المليشيا الحوثية تجاوزت حاجز المنافسين الأيديولوجيين، ثم حاجز القبلية، لتحشد قواها القصوى فى آخر مواجهة مع الشرعية من خلال معركة مأرب.
على الجانب الآخر، تكشف هذه المؤشرات والقواسم المشتركة عن أنه لم يتم الاستفادة من الدروس السابقة. فقد كان التحسن النسبي بالنسبة لقوات الشرعية يعتمد إلى حد كبير على دفع التحالف العربي لدعم الشرعية إلى إحداث توافقات ما بين القوى العسكرية المتباينة على الهدف وهو هزيمة الحوثي. لكن هذه التوافقات لم تصل إلى معالجة الاختلالات الهيكلية العسكرية، وغالباً ما يشار إلى أنه كان هناك تحدٍ فى دمج المكونات المختلفة سياسياً. فهناك الجيش التابع للحكومة الشرعية، وهناك قوات المقاومة الشعبية وغيرها من القوات الأخرى، والتي لا يجمعها هيكل قيادي عسكري واحد بل هناك مستوى ما من التنسيق على الجبهات، بالإضافة إلى أن العديد من هذه المكونات لديها خبرات محدودة فى القتال مقارنة بالحوثيين. كما يجب الإشارة إلى ضعف أدوار بعض هذه القوى، لا سيما مكوّن “الإصلاح” فى مقاربة الهدف ذاته، وهو التصدي للحوثيين. وهكذا يشير هذا السياق إلى نتيجة أخرى، وهي أن التقدم الحوثي لم يكن يعتمد على قوة الميليشيا بقدر ما يعتمد على ضعف الطرف الآخر لأسباب هيكلية.
لا إعتراف دولياً
يبدو أن السيناريو الاحتمالي لسقوط مأرب بيد الحوثيين هو السيناريو الأصعب في ملف الأزمة اليمنية عموماً، بالنظر إلى بعض المؤشرات ومنها على سبيل المثال:
أولاً؛ على الرغم من انعكاسات السيطرة المحتملة على مأرب بالنسبة للشرعية، إلا أنها قد لا تعني الانهيار الكامل للشرعية، لكنها ستكون أضعف بكثير سياسياً من ضعفها الحالي. كما أن تعثر تنفيذ اتفاق الرياض بين الحكومة الشرعية والجنوب سيخصم من رصيد الشرعية السياسي إلى حد كبير. لكن فى المقابل، لن يضيف ذلك رصيداً سياسياً للحوثيين، فلن تكون جماعة أنصار الله الحوثية هي الشرعية البديلة، ولا يعتقد أن هناك من سيعترف بها أكثر ممن اعترفوا فى السابق، خاصة إيران ووكلائها الإقليميين فى لبنان والعراق. وبالتالى فإن محصلة العائد السياسي للحوثيين هي مجرد تقويض رمزية الشرعية. وربما ستسعى الميليشيا إلى استخدام الورقة الإنسانية كورقة ضغط للتعامل مع المجتمع الدولي، لكن ذلك لم ينجح في حالات عديدة كما في حالة الصومال الأقرب إلى الحالة اليمنية فى حال حدوث سيناريو سقوط مأرب.
ثانياً؛ ينسحب السياق ذاته على الموقف الخاص بالمكاسب الاقتصادية التي يترقبها الحوثيون حال سيطرتهم على مأرب، وبالتبعية السيطرة على قطاع النفط فيها. فمن السهولة بمكان، بل على الأرجح، سيتم فرض عقوبات على هذا القطاع، ولن تتمكن المليشيا الحوثية من الاستفادة منه، فقط يمكنها تشغيله داخلياً إلى حد ما، لكنها قد تواجه أزمات متعددة أبرزها أزمة الصيانة. إلا أن الهيمنة على منابع النفط ستظل قيمة مضافة لموارد الحوثيين بشكل عام حتى فى ظل تحديات القدرة التشغيلية.
فى الأخير، يمكن القول إن معركة مأرب ستُشكل منعطفاً فى مسار الأزمة اليمنية، وسيكون العام الثامن لهذه الأزمة هو عام التحولات الرئيسية فيها، وإعادة تشكل موازين القوى بين الأطراف الفاعلة على الأرض، كالحوثيين فى الشمال والانتقالي في الجنوب. هذا السياق ليس جديداً على الحالة اليمنية تاريخياً، بل يمكن النظر إليه بشكل عام على أنه دورة من دورات التاريخ اليمني، وربما ستكون له حسابات إقليمية مختلفة بالنظر إلى حسابات كل من إيران والسعودية.
إذ يمكن القول إن ترجيح كفة إيران فى معادلة هذا الصراع على المديين القريب والمتوسط سيضيف المزيد من التعقيدات فى المشهد الإقليمي، وسيضاعف من النظرة السلبية لمشروعها الإقليمي، وسيُقوِّض الفرص الممكنة لاستيعابها وقبولها عربياً ودولياً. كما أن كُلفة التمدد فى الخارج قابلة لأن تتحول فى مرحلة تالية إلى عامل ضعف وليس عامل قوة، بالنظر إلى التداعيات السياسية والاقتصادية لهذا التمدد خاصة وأنه سيكون مقيداً بعدم المشروعية فضلا عن القيود على حركة الحوثيين كوكيل لها.
أما بالنسبة للسعودية، فتاريخياً تعاطت سياسياً مع تحولات المشهد اليمني كمشهد قابل لإعادة إنتاج الفوضى باستمرار، لكن يمكن التكيف معه بالوسائل السياسية والدفاعية الممكنة.
(*) بالتزامن مع “أوريان 21“