إدامة المفاوضات تعني إستمرارية السلطة الفلسطينية، لانّ شرعيتها الدولية تتأتى من الإلتزام بما تسمى “محادثات السلام”. لا يسعى المتنفذون في القيادة الفلسطينية الى كسب شرعية الداخل. ذلك بالنسبة إليهم قضية ثانوية طالما أن المال (ديمومة السلطة) أولاً، والمقبولية السياسية ثانياً، يُكتسبان من خلال قوى دولية وإقليمية، وليس من الشعب الفلسطيني وقواه المجتمعية.. وما الغاء الانتخابات التشريعية التي كانت مقرّرة في ٢٢ أيار/مايو الماضي بحجّة عدم شمولها أبناء القدس الشرقية سوى الدليل القاطع على صحة افتراضنا.
لقد إستبشرت القيادة الفلسطينية الجديدة خيراً في انتخاب جو بايدن رئيساً للولايات المتحدة، فالحزب الديموقراطي مؤيد تاريخياً لحلّ الدولتين على عكس الرئيس الجمهوري السابق دونالد ترامب، الذي ذهب أبعد من غيره ليس بالإنحياز الى الكيان الصهيوني، بل بالإقدام على خطوات مثل نقل سفارة أميركا من تل أبيب الى القدس، والاعتراف بيهودية الدولة، والشروع في خطوات عملية تتويجاً لـ”صفقة القرن”. الاهمّ من ذلك كان وقف المساعدات المالية المقدمّة من الولايات المتحدة الى السلطة الفلسطينية، واغلاق مكتب ممثلية منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن (٢٠١٨). الاّ أن مجىء بايدن قد أراح بعض الشيء القيادة الفلسطينية، خاصةً بالنسبة الى المساعدات المالية التي تشكّل أحد أبرز مصادر استمرارية السلطة الفلسطينية.
الخطوة الاولى في هذا السياق كانت في نيسان/أبريل الماضي، عندما أعلنت إدارة بايدن تقديمها مساعدات للفلسطينيين بقيمة ٢٣٥ مليون دولار، قُسّمت على النحو التالي: ١٥٠ مليون دولار لوكالة “الاونروا”، و٧٥ مليون دولار مساعدات اقتصادية وتنموية في قطاع غزة والضفة الغربية، و١٠ ملايين دولار لبرامج “دعم السلام” عبر الوكالة الاميركية للتنمية الدولية. هذه الخطوات كان قد سبقها تقديم مساعدة إنسانية بقيمة ١٥ مليون دولار كانت قد قدمتها الإدارة الاميركية في آذار/مارس الماضي للسلطة الفلسطينية، وذلك كمساهمة منها لمساعدة الفلسطينيين على مواجهة الآثار المترتبة عن كوفيد-١٩.
وإذا كان رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتيناهو رفض مراراً لقاء محمود عباس وإستئناف المفاوضات قبل اقتلاع “حماس” من غزة، فما بالكم بمتشدد يميني آخر، يدعى نفتالي بينيت. الاعتراض الداخلي الإسرائيلي انعكس عدم حماسة أميركية لتحريك مسار المفاوضات كي لا ينعكس هذا الامر توتراً بينهم وبين تل أبيب.
وبرغم أن إدارة بايدن أبدت رغبتها في إعادة تحريك عجلة المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين، الا أنها لم تباشر في خطوات عملية تؤكد هذه الرغبة ما خلا زيارة يتيمة قام بها مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الفلسطينية ـ الإسرائيلية هادي عمرو في أيار/مايو الماضي، في إطار الجهود الهادفة إلى وقف حرب غزة.
يبحث محمود عباس في إضاعة المزيد من الوقت بحثاً عن وسطاء محتملين لعملية سلام وهمية لا أفق سياسياً لها، سوى إضفاء شرعية لسلطة صارت تشكل عبئاً على شعبها.. أياً كان “طربوشها”!
وفي غياب أي إرادة أميركية جدية بتحريك المفاوضات، جاءت زيارة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عبّاس إلى موسكو وإجتماعه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الأربعاء الماضي، لتطرح علامات إستفهام. فقد قال عباس، عشية زيارته هذه، لوكالة “سبوتنيك” الروسية إنه يعوّل على دور روسي في تنظيم مؤتمر دولي للسلام. اذاً، هي دعوة صريحة وعلنية من قبل عباس للقيادة الروسية للعب دور أكبر في احياء “عملية السلام”.
وإذا كان تنظيم مؤتمر دولي متعذراً في الوقت الحالي لألف سبب وسبب، فإنّ القيادة الفلسطينية إستفاقت فجأة على دور روسي بهدف إعادة تفعيل عمل اللجنة الرباعية التي تضم الى جانب روسيا، الولايات المتحدة، الاتحاد الاوروبي والأمم المتحدّة. وبمقدور اللجنة الرباعية، إذا توافرت الإرادة السياسية لأطرافها، أن تلعب دور الوسيط أو الميّسر لإعادة إطلاق المفاوضات بين الجانبين.. بما يضمن إستمرارية السلطة الفلسطينية!
التوجه الفلسطيني “الرسمي” الى موسكو سبقته زيارة، هامة في التوقيت والدلالات، لمحمد دحلان، في ٥ تشرين الثاني/نوفمبر إلى العاصمة الروسية. وفي هذا الإطار، ذكر ديمتري دلياني، القيادي السابق في “فتح”، والمقرب من دحلان، في حديث لوكالة الأناضول، أن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، يبذل جهودا لإنهاء “الانقسام الفتحاوي”، بين تيار “دحلان”، وحركة فتح بزعامة “ابو مازن”. وبيّن دلياني أن دحلان أعلن على الفور، خلال اللقاء، “استعداده للمصالحة الداخلية في فتح”. وعلى الرغم من نفي دلياني فيما بعد لهذا الجزء من حديثه، مشيراً الى لغط في الصياغة، الاّ أن أوساطاً سياسية فلسطينية تقول إنّ روسيا دخلت على خط ترتيب العلاقة بين أجنحة فتح المتعددة، وبينها “تيار الإصلاح” برئاسة دحلان، ومن ثمّ المباشرة في إتمام المصالحة بين فتح وحماس.
وبمعزل عن صحة أو عدم صحة هذا الامر، فإنّ مستقبل السلطة الفلسطينية بات مدار بحث علني بين أطراف سياسية فاعلة، وإذا كانت زيارة دحلان استبقت زيارة عباس الى موسكو، فإنّ رئيس جهاز المخابرات الفلسطينية، ماجد فرج، أحد المطروحين لخلافة محمود عباس في حال رحيل الأخير، كان قد زار الامارات في تشرين الاوّل/أكتوبر الماضي، محاولاً تسويق نفسه كرئيس مستقبلي للسلطة الفلسطينية.
في المحصلة، يبحث محمود عباس في إضاعة المزيد من الوقت بحثاً عن وسطاء محتملين لعملية سلام وهمية لا أفق سياسياً لها، سوى إضفاء شرعية لسلطة صارت تشكل عبئاً على شعبها.. أياً كان “طربوشها”!