استعصاء الكتابة، يا أصدقاء، يشبه العارض المَرَضي. لكن لا دواء له. يشبه نوعاً من الفيروسات. لكن لا لقاح له. إنّه اعتلال يصيب الإنسان. لكنّ عوارضه غريبة. بغتة، كلّ شيء يصبح مُملاً. جافّاً. مُغتمّاً إلى حدٍّ يُشعِر بالاختناق. فعندما تعزف الروح لحن شجنها، يتحوّل الكلام إلى مدينةٍ من الصمت. ويصبح الصمت زينة الرجال والنساء والأمكنة.
بينما أنا أجاهد بتعبٍ، وبعدما فتك بي جمود الكلمات وانحسارها، للإجابة على سؤالٍ بسيط: “لماذا لا أستطيع أن أكتب؟”، رأيتني أُسائل نفسي: “ولماذا تكتبين أصلاً؟”. وعليه، بدأتُ جوجلة لأفكاري؛ أنا لستُ صحافيّة. أي، لستُ ملتزمة، إطلاقاً، بإنتاجٍ محدَّد مطلوبٌ مني تقديمه في وقتٍ محدَّد أيضاً! أنا لستُ روائيّة ولا مؤرّخة ولا حتّى كاتبة سياسيّة، ينتظر الجمهور إصداراتها! فلماذا، إذاً، كلّ هذه المعاناة؟
ليس لكتاباتي أيّ وظيفة تشبه “الوظائف” التي يتحتّم على الكتّاب تأديتها. وظائف ذات بُعد رسالي، بمعنى ما. أمّا أنا، فلكلماتي مسعى وجودي. أو هكذا كنتُ أعتقد. فأنا أكتب عن كينونتي الضائعة، وسط جلبة مجتمعٍ نذره قدره للصراعات والفتن والحروب والفساد والممارسات اللاإنسانيّة والخراب.
الجوّ الذي كنتُ أنغمس فيه أسبوعيّاً لأكتب، صار يُطبِق على صدري. يسرِّع من دقّات قلبي. صدّقوني، مع كلّ مقالة كنتُ أشعر أنّني أخطّ سطوراً في وصيّتي. سطور أفرِّغ فيها حمولة الحياة الزائدة في ذاتي
ووسط هذا الخراب، تحديداً، وجدتني أُنقِّب عن أشياء يمكن لها إعادة وجودي المفتقَد. كنتُ أهرب بالكتابة من هذا الواقع، لأشيّد عالمي المتخيَّل. فلا رسالة تحملها كتاباتي إلاّ رسالة العبور. وفي زمن الوجع، تصبح تلك الكتابات الشرفة التي أُطلّ منها لطلب النجدة. لطلب الخلاص. وفي زمن الّلاقضايا، تصبح شيئاً من طريقتي في المقاومة. في المواجهة. في الصراخ بوجه أناسٍ منعدمي الكفاءة، لكنّهم يحتلّون الحياة. حياتنا. السابقة والحاليّة والآتية. يهتكون أعراضنا، وهم تافهون عديمو الضمير. وانتهازيّون عديمو المواهب. ومصفّقون عديمو الأخلاق. ألهذا تكتبين يا امرأة؟ همستُ في سرّي لنفسي.
لا خيارات تعطينا إيّاها الكتابة. اللّهمّ إلاّ النظر حوالينا، باحثين عن الحروف بين التفاصيل اليوميّة المكدَّسة. تلك التي تدفع المرء (ولا سيّما العربي وتحديداً اللبناني) لطرح الكثير من الأسئلة حول معنى الكتابة. وعمّن سيقرأ الكلمات المكتوبة؟! “أكتب لكي أتصالح مع الأشياء التي لا أستطيع السيطرة عليها. لكي أصنع نسيجاً في عالمٍ يظهر غالباً بالأسود والأبيض. أكتب لأكتشف. أكتب لأكْشِف. لكي أواجه أشباحي. لكي أبدأ حواراً وأتخيّل الأشياء على نحوٍ مختلف. وبتخيّل الأشياء بشكلٍ مختلف، ربّما يمكن للعالم أن يتغيّر”. هكذا تجيب تيري تيمبيست وليمز (كاتبة “الطبيعة اللطيفة”) بمواجهة سؤال “لماذا أكتب؟” في مجلة Northern Lights. أصاب جوابها منّي مقتلاً. تماهيتُ كثيراً مع تفسيرها لدوافعها في الكتابة. “فصناعة كلماتٍ جميلة هي صناعة عالمٍ أجمل”، كما تعبّر إيزابيل الليندي الكاتبة الإسبانيّة الأكثر قراءةً في العالم.
وأعود إلى كتاباتي المتواضعة. صحيحٌ أنّها كانت، كمَن يسكب الوقت والجهد في “مشروع” ليس له هويّة واضحة. وقد يرى فيها البعض، على الأرجح، محاولة اقتناص جدوى من الّلاجدوى! لكنّني عندما استعرضتُ عشرات المقالات التي خطّتها يدي على هذا الموقع (180 بوست)، اكتشفتُ بأنّ كلّ الأفكار التي راودتني لا تمتُ بصلة لاختصاصي العلمي. ولا لعملي الأكاديمي. إنّها مرتبطة بي، بشكلٍ أو بآخر. بما كنتُ أُحسّ به (وما زلت) وأنا أغرق تحت سابع أرض. هي كتابة سوداويّة إلى أقصى الحدود. وكأنّني كرّستها لهجاء حُكّامنا من خلال تشخيصي للمآسي التي تفنّنوا باجتراحها للمجتمع اللبناني والدولة والمؤسّسات. كانت كلماتي تحور وتدور وترجع إليهم. إلى تلك الطغمة الحاكمة التي لا شبيه لها في الكون. حتّى في القرون الوسطى. حتّى في كهف “غوف” (قرب مدينة بريستول في المملكة المتّحدة)، حيث كانت مجموعة من البشر تلتهم قبل 15 ألف سنة لحوم وعظام بعضها بعضاً. وبعد؟
“صناعة كلماتٍ جميلة هي صناعة عالمٍ أجمل”، كما تعبّر إيزابيل الليندي الكاتبة الإسبانيّة الأكثر قراءةً في العالم
كتبتُ بغزارة عن بلد الفوائض. فائض القوة. فائض الضعف. فائض الإجرام. فائض القهر. فائض الوجع. فائض الإذلال. كتبتُ عن بلد الوحوش. عن سلطة الديناصورات. عن الغولاغ اللبناني. عن حُكم الدمى. عن حكماء صهيون اللبنانيّين. عن النقابات المخصيّة. عن الشعب الخانع. عن عهد الطوابير. عن أمراء الحرب. عن أنذال الطوائف. عن قمع الحريّات. عن الموت المجاني. عن الميليشياوي الذي بات ملكاً. وعن الأستاذ الجامعي الذي أمسى شحّاذاً. عن بوهيميا الخراب الوطني و.. كلّ ما ينحرنا من الوريد إلى الوريد. شهورٌ طويلة، وأنا أهجو زُمَر السلطة اللبنانيّة وشبكات مافياتها. لطالما ردّدتُ مع العالم والفقيه الإسلامي ابن الوردي: “لقد بُلينا بأميرٍ ظلم الناس وسبَّح.. فهو كالجزّار فينا يذكرُ الله ويذبح” (طبعاً نحن بُلينا بعشرات الأمراء من هذا الصنف).
وأنا أنقِّب داخل لحظة الكتابة وطقوسها، أيقنتُ أمراً مريراً. فلقد لاحظتُ أنّ مَن أكتب عنهم وأقصدهم بالهجاء، أي مَن هم فوق، لم ولن يقرؤوا يوماً مقالاتي. أمّا مَن “يُبَلْعِط” بين أصابع مَن هم فوق، أي الفئات المبتغى تحريضها وتعبئتها ضدهم، فهي فعليّاً خارج السمع. وإذا سمعت، فلن تفعل إلاّ الإفلات من عقالها لتشتم وتخوّن وتعزف نشاز معزوفتها المعروفة. حينئذٍ قلتُ لنفسي: ما نفعُ كلّ ذلك إذاً؟ لا شيء على الإطلاق. فالواقع اللبناني الراهن أعتى من نُقّاده. هو واقعٌ يبتلعهم ويبتلع كلّ مَن تجرّأ يوماً وكتب لينتقد مَن هم فوق. بات الجميع جزءاً من المشهد الرتيب عينه.
سأل الخليفة المنصور أحدَ حكماء بني أميّة عن سبب سقوط دولتهم، فأجابه قائلاً: “أمورٌ صغيرة سلّمناها لكبار. وأمورٌ كبيرة سلّمناها لصغار. فضِعْنا بين إفراطٍ وتفريط”!
عندئذٍ، فطنتُ لماذا أصابني ما أصابني. أدركتُ لماذا دخلتُ مع حروفي في ذاك النفق الأسود. إذْ أنّ الجوّ الذي كنتُ أنغمس فيه أسبوعيّاً لأكتب، صار يُطبِق على صدري. يسرِّع من دقّات قلبي. صدّقوني، مع كلّ مقالة كنتُ أشعر أنّني أخطّ سطوراً في وصيّتي. سطور أفرِّغ فيها حمولة الحياة الزائدة في ذاتي. وكأنّني كنتُ أريد أن أتخفّف من تلك الحمولة، قبل أن أمضي. تماماً، مثل بحّارٍ عندما يحسّ أنّه هالك لا محالة. فقبل أن تبتلعه الأمواج، يكتب رسالته. يطويها ويدسّها في قنّينة ويرميها إلى البحر. لعلّها تحطّ يوماً بين يديْ باحثٍ عن اللؤلؤ. لماذا أكتبُ من جديد؟
في كتابه “عشتُ لأروي”، يقول الكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز: “الحياة ليست ما يعيشه أحدنا. وإنّما هي ما يتذكّره. وكيف يتذكّره ليرويه”. وفي لبنان، نحن لا نعيش حياتنا. نحن نحيا، فقط، كُرمى ليوميّاتٍ وساعاتٍ ولحظاتٍ سنؤرشفها. أنا من ضمن هذه الفئة من اللبنانيّين. لكنّني، شخصيّاً، عدتُ إلى طاولتي وكلماتي وحروفي، لأحفر بمقالاتي ذاكرة الأيّام الآتية. إنّها حفريّاتٌ، ليس إلاّ. وهكذا، عندما سأعود إلى كتاباتي بعد سنين، ربّما، سأقرأ وأبتسم أو أبكي. سأقول، حتماً، هكذا كنتِ تفكّرين. تعبّرين. ترفضين. تؤيّدين. تبصقين على السلطة. هكذا كنتِ مثل أمّك، تتمنّين الموت لكلّ وجهٍ سمجٍ يُطلّ على الشاشة. وستقولين، بالتأكيد، هكذا كنتِ تساعدين نفسك لتتخطّي يوميّاتك. هكذا انتظرتِ في الطابور. وذلّوكِ على باب المصرف. هكذا كنتِ تهتفين وترقصين في التظاهرات. وتهزئين من الرؤساء والنوّاب والوزراء. وكم لعنتِ الساعة التي عدتِ فيها إلى الوطن. وكم عدتِ ولعنتِ الساعة التي عدتِ وغادرتِ فيها الوطن.
كلمة أخيرة. مرّةً، سأل الخليفة المنصور (المُعتَبَر المؤسّس الحقيقي للدولة العباسيّة) أحدَ حكماء بني أميّة عن سبب سقوط دولتهم، فأجابه قائلاً: “أمورٌ صغيرة سلّمناها لكبار. وأمورٌ كبيرة سلّمناها لصغار. فضِعْنا بين إفراطٍ وتفريط”! إقتضى التذكير.