يسوع المسيح إحضر حالاً..!(*)

هذه ليست مقالة. هذه شذرات كلام. إشارة وجع، كتلك التي يرسلها شعبنا وهو سائر على طريق جلجلته. أو قلْ، هي صرخة تأوّهٍ، كتلك التي صدحت بها مريم في ليلة مخاضها العسير. صرخة صارت ترنيمةً مع انبعاث الحياة. اليوم عيد الميلاد.. هلّلويا. ولكن، هل تستطيع أن تفرح بالعيد أعينٌ لبنانيّة تنام على فزع، وعليه تستيقظ؟ 

يطيب لي، كثيراً، عندما أتناقش مع طلاّبي في كليّة الإعلام في الجامعة اللبنانيّة، أن أتوقّف مليّاً عند الدور الإعلامي للصورة. يستنفد تناولُ هذا الدور جزءًا كبيراً من محاضراتي، بخاصّة وأنا أُسهِب في الشرح عن الرسائل التي تصوغها الصورة. أو دلالاتها، بمعنى أدقّ. وتحديداً، عندما يضعها “متحدّثٌ ما” في خلفيّة المكان الذي يدلي فيه بدلوه. والخلفيّة، للتذكير، هي ما يظهر في الساحة الخلفيّة من المشهد. في النطاق الخلفي من الصورة. فلهذه الخلفيّة والنطاق، في عالم التلفزيون، وظيفة مهمّة جداً. دورهما أساسي في التدليل (للمُشاهد) إلى “الموقع” الذي يشغله هذا المتحدّث أو ذاك. في التبرير، إلى حدٍّ ما، لدوافع استضافته ومقابلته. لذا، نقصد العامل في مصنعه. والأستاذ في قاعة محاضراته. والطبيب في عيادته (أو المستشفى). والممثّل على خشبة المسرح. والوزير في مكتبه في الوزارة.. وهكذا.

لكنّنا في لبنان، وعلى عادتنا، نخالف كلّ منطق. لا نلتزم بأيّ معيار. نمسخ كلّ شيء. نشوّهه. نتركه أثراً بعد عين. ننفخ في طينه ما يحلو لنا من أرواح. انظروا إليهم، يا أصدقائي. أعني، انظروا إلى هذه الحفنة من أشباه البشر. تمعّنوا في صورهم التي تبثّها شاشاتنا. ألاحظتم كيف “يهندسون” مشهديّة المواقع والمقاعد التي سينطقون زوراً من خلالها. انظروا، أيضاً، إلى خلفيّات صورهم التي يحرصون على إشهارها. يعرف المراسلون الصحافيّون والمصوّرون، تماماً، عمّا وعمّن أتحدّث.

“لحظة من فضلك”، يستأذن المتحدّث مستمهِلاً مَن يمسك بعدسة الكاميرا. ينادي “أحدهم” لكي يضع لمساته المُساعِدة على تثبيت الصورة الخلفيّة وضبطها في الزاوية المناسبة لحقل التصوير. أي، صورته مع “الزعيم” المفدّى. مع “القائد” الفذّ. مع “الشهيد” البطل. هو يحرص كذلك الأمر، على أن تكون الدروع التي مُنِحت له تكريماً “لعطاءاته وإنجازاته” ظاهرة للعيان. وتفادياً لعجقة التوضيب، في اللحظات الأخيرة، بات البعض من سياسيّينا يثبِّتون مقعداً دائماً لهم يطلّون عبره للجماهير. متى قرّروا أن يغدقوا علينا تصريحاتهم. بتواطؤٍ مريب من المحطّات التي ما زالت تصرّ على إبرازهم والترويج لمواقفهم وآرائهم. وفي زمن الميلاد، يقتحم تفصيلٌ آخر الصورة والمشهديّة. ما المقصود بذلك؟

تأمّلوا في وجوههم الكالحة، وهم يتكلّمون بتؤدة في زمن التهيئة والمجيء (زمن الميلاد). هؤلاء دجّالون برتبة الشرف. هم ممّن يريدون ذبيحةً لا رحمةً. هؤلاء، يجدون في الميلاد ضالّتهم. فرصتهم النادرة لممارسة العهر “برعايةٍ ربّانيّة”. لممارسة السطوة “بمباركةٍ كنسيّة”. واللهِ! هؤلاء أخطر علينا وعلى المسيحيّة من يهوذا الإسخريوطي

المعنيّون “بإقحام هذا التفصيل” هم، حصراً، المسؤولون والسياسيّون المسيحيّون اللبنانيّون، بطبيعة الحال. أي، أولئك الذين يرشح الزيت ويفيض بفعل تقواهم وإيمانهم وعفّتهم وزهدهم، ليل نهار. انظروا إليهم خاشعين في القداديس. مساكين. لا يلوون على شيء. تأمّلوا في وجوههم الكالحة، وهم يتكلّمون بتؤدة في زمن التهيئة والمجيء (زمن الميلاد). هؤلاء دجّالون برتبة الشرف. هم ممّن يريدون ذبيحةً لا رحمةً. هؤلاء، يجدون في الميلاد ضالّتهم. فرصتهم النادرة لممارسة العهر “برعايةٍ ربّانيّة”. لممارسة السطوة “بمباركةٍ كنسيّة”. واللهِ! هؤلاء أخطر علينا وعلى المسيحيّة من يهوذا الإسخريوطي (الذي سلّم المسيح لليهود مقابل ثلاثين قطعة فضّة).

نعود إلى استعراضات إيمانهم وتقواهم أمام الجماهير، مع ديكورات زمن الميلاد. تجدونهم يصرّون، إذاً، على أن تلتقط الكاميرا صورتهم تحت وهج أضواء شجرة الميلاد وزينتها. هم يهتمّون جداً كي يراهم الناس في وضعيّةٍ “محمودة”. تناسب خططهم التي سيستأنفونها بعد الأعياد لتأجيج العصبيّة الطائفيّة. وكلّ ما خطر ببالهم من عصبيّات. فهذه الشجرة التي تُعتبَر، ليتورجيّاً، بمثابة حاملٍ للأمل في حياةٍ جديدة، تأخذ مع سياسيّي لبنان معاني أخرى. دلالات مختلفة. تصبح مثل الـ”تراند” الذي يسوّقون، من خلاله، لأنفسهم. تصبح أشبه ما يكون بإعلاناتٍ، ظاهرها ديني وباطنها تجاري بحت.

بمعنى أوضح، تمسي شجرة الميلاد، معهم، نوعاً من تجارةٍ فريدة. عنوانها تسليع الدين. وأحقيّة التكسّب من “التبشير” بمعتقداته. رهيبٌ، تحوُّل الدين إلى سلعة. انقلابه إلى مطيّة للاستغلال. للتوظيف المصلحي المُستثمِر في خوف الناس. في حاجاتهم الروحيّة. فظيعٌ، كيف يقتحم “سياسيّونا” بواسطته الوجدان ليوجّهوا ضمائر المؤمنين. ليمحقوا قيمهم المقدّسة تبعاً لأهوائهم. وفقاً لمآربهم الذاتيّة. كلّ أهل الحُكم والمسؤوليّة عندنا، مسيحيّين كانوا أو مسلمين، ينحون هذا المنحى. ما العمل؟ هكذا هي طموحاتهم. طموحات وضيعة ودنيئة. فيها من السفالة، ما يلوّث بحار المعمورة ومحيطاتها. راقبوا كيف جعلونا نستقبل الميلاد!

لقد زرعوا دروب حياتنا بحقولٍ من الأفخاخ والألغام. عبّدوها لتصبح طريق جلجلةٍ مستدامة. قَلَب أعداءُ الروح والإنسانيّة أيّامنا، رأساً على عقب. أرجعوها إلى تاريخ ما قبل الميلاد. بتنا نعيش في مغاور. يولد أطفالنا في مَذاوِد. ينامون على التبن. يتدفّؤون بلهاث الغنم والبقر. يستنيرون بالنجوم والبرق. بعدما أسقط مجرمو العصر القمر كالمرايا المحطَّمة. في زمن الميلاد، وما قبله وما بعده، صار يحاكمنا أعداء الوطن. ويحكمون علينا بالجَلْد والصَلْب.

إذا كان يسوع الفادي والمعلّم والمخلّص قد رضي لنفسه بكلّ صنوف العذاب والبلاء فداءً للبشر، فنحن، أهل لبنان وبكلّ صنوف عذاباتنا وبلائنا، مَن يا ترى نفتدي؟ الفاسدين؟ عصابات المصارف؟ مافيات السلطة؟ المجرمين؟ الخونة؟ المتاجرين بأجسادنا في سوق النخاسة؟

في يوم الميلاد هذه السنة، كم نجسّد معاناة يسوع الناصري! معاناة أعظم ثائرٍ في تاريخ البشريّة. نشبهه كثيراً. بظروف ميلاده. بعناء جوعه. بفقره. نشبهه كثيراً. بدم أهلنا المسفوك في مرفأ بيروت. في التليْل. في الطيّونة. في كلّ بقاع لبنان. نشبهه كثيراً. بظلم الطغاة الذين يحكموننا باسمه. بفجور أهل الهيكل. بتآمر القيافيّين المزدوجين من أجل كرسي أو بضعة دولاراتٍ طازجة. ولكنّ سؤالاً إشكاليّاً كبيراً يطرح نفسه اليوم:

إقرأ على موقع 180  رون آراد يعود.. فقط إلى الصحافة الإسرائيلية!

إذا كان يسوع الفادي والمعلّم والمخلّص قد رضي لنفسه بكلّ صنوف العذاب والبلاء فداءً للبشر، فنحن، أهل لبنان وبكلّ صنوف عذاباتنا وبلائنا، مَن يا ترى نفتدي؟ الفاسدين؟ عصابات المصارف؟ مافيات السلطة؟ المجرمين؟ الخونة؟ المتاجرين بأجسادنا في سوق النخاسة؟ مَننننننننننننننننن؟

كلمة أخيرة. في ليلة الميلاد عام 1967، خاطب الشاعر أنسي الحاج يسوع المسيح، بالمباشر. فكان في خطابه شيءٌ من المناجاة. أستعيد، في ما يلي، بعضاً من كلماته إذْ يقول:

“أأنت المسيح صاحب قصة لعازر؟ إذن تفضّل. نريد أن نعرف. نريد أن يقول لنا أحدٌ ماذا نفعل. أين الحقّ. لماذا نعيش. مَن هم هؤلاء، ومَن هم أولئك. نريد أن يقول لنا أحدٌ مَن نحن. ولماذا يضربوننا، ويكذبون علينا، ويجوّعوننا، ويبشّعون حياتنا، ويهدرون مستقبل أولادنا، ويعهِّرون الحياة من بابها إلى محرابها. نريدك “أنت”. جسداً وصوتاً، كما أنت. نازلاً من السماء، طالعاً من القبر، آتياً من الجدار، أو منبثقاً من الماء، لا فرق. تعال. الأمم مجنونة وبلهاء. والشعوب مسحوقة وغبيّة. والزعماء يقتلون ويعبدون أنفسهم. الكنائس تعيش على الذكريات. الأديرة مهجورة. الرهبان رهبان لأجل أنفسهم. الصليب نجمٌ سينمائي. الأناجيل صارت كتاباً كجميع الكتب. المسافة شاسعة. اقترب وادخل. هذا وقتك. لن يكون لك وقتٌ أفضل. إذا لم تجئ الآن، فلا تجئ بعد ذلك. الحاجة إليك الآن. لا بدّ من حضورك. لم نعد نريد الكتب. لم نعد نريد سفراءك على الأرض. لم نعد نريد اللجوء إلى الغيب والتجريد. نريدك بلحمك وعظمك. أنت يسوع المسيح. نريد أن نعرف. أن نعرف كلّ شيء. نريد أن نعرف منك أنت شخصيّاً، بكلامٍ جديد، واضح، هادئ أو صارخ. تعال. إحضر حالاً. العالم كلّه ينتظر”.

إقتضى الانتظار والأمل بالخلاص و.. التمنيّات لكم بميلادٍ مجيد.

(*) أستعير عنوان المقالة التي كتبها الراحل أنسي الحاج في 24 كانون الأول/ديسمبر 1967.

Print Friendly, PDF & Email
وفاء أبو شقرا

أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية

Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  الإتفاق النووي.. مسار متعرج من فيينا إلى الناقورة!