ذلك هو التفسير المنطقي لقرار المحكمة العليا الإتحادية الذي ثبّت نتائج الإنتخابات التشريعية وردّ الطعون المقدمة من تحالف “الفتح”، وما تلا ذلك من إعلان رئيس التحالف هادي العامري القبول بالحكم ومن ثم فك أنصار “الحشد الشعبي” الطوق عن المنطقة الخضراء، وصولاً إلى تحديد الرئيس برهم صالح جلسة أولى للبرلمان الجديد في 9 الشهر الحالي.
قبل شهرين، حلّت كتلة “سائرون” بزعامة مقتدى الصدر في مقدمة النتائج بفوزها بـ73 مقعداً، بينما عانى تحالف “الفتح” الذي كان جزءاً من إئتلاف أعرض عرف بـ”الإطار التنسيقي الشيعي” (خرج الصدر منه لاحقاً)، هزيمة قاسية، إذ لم ينل سوى 17 مقعداً. وجرت قراءة النتائج على أنها هزيمة لإيران وحلفائها في العراق. سرعان ما تعقد المشهد مع الإحتجاجات التي نظمها مؤيدو “الحشد الشعبي” والتي لم تخلُ من محاولات لإقتحام المنطقة الخضراء.
وفي خضم التوتر السياسي، نجا رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي من محاولة إغتيال في 7 تشرين الثاني/نوفمبر. وبدا العراق أنه على وشك نزاع شيعي-شيعي مع مطالبة تحالف “الفتح” بإلغاء النتائج وإتهام السلطات بتزوير الإنتخابات، علماً بأن إعادة الفرز يدوياً أكثر من مرة في أكثر من دائرة، لم تسفر عن تغيير رئيسي في النتائج.
تريد إيران إحتواء نتائج الإنتخابات العراقية بالوسائل السياسية.. وأيضاً إحتواء أي نزاع من شأنه زيادة خسائر طهران في العراق بعد الضربة التي تلقتها بإغتيال سليماني والمهندس
هنا لا بد من إيراد ملاحظة مهمة وهي أنه بينما كان مؤيدو “الإطار التنسيقي” يخرجون في تظاهرات ويشكّكون في نزاهة الإنتخابات، كان الناطق باسم وزارة الخارجية الإيرانية سعيد خطيب زاده “يهنىء الحكومة العراقية وممثلي الشعب العراقي” على النجاح في إجراء الإنتخابات. وقال “ما يهم طهران هو عملية ديموقراطية وسلمية لنقل السلطة”. ووسط التصعيد، زار قائد “فيلق القدس” في الحرس الثوري الإيراني إسماعيل قآني العراق أكثر من مرة.
كانت هذه إشارات إيرانية على عدم وجود قرار إيراني بتفجير الساحة العراقية والذهاب عوض ذلك إلى إحتواء النتائج بالوسائل السياسية. وأيضاً إحتواء أي نزاع من شأنه زيادة خسائر طهران في العراق بعد الضربة التي تلقتها بإغتيال الجنرال قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” ونائب رئيس “هيئة الحشد الشعبي” أبو مهدي المهندس قبل عامين بالتحديد في بغداد على يد الجيش الأميركي.
وعلاوة على ذلك، فمقتدى الصدر، الفائز الأول في الإنتخابات الذي يرفع اليوم شعار النأي بالنفس عن طهران وواشنطن، كان حتى الأمس القريب حليفاً لإيران. ثم أن في إمكان تحالف “الفتح” أن يلجأ إلى لعبة التحالفات داخل البرلمان الجديد كي يشكل قوة نيابية ذات وزن. ومما يساعده على ذلك، أن كتلة “دولة القانون” بزعامة رئيس الوزراء سابقاً نوري المالكي، منضوية هي الأخرى تحت لواء “الإطار التنسيقي”، وهي حلّت ثالثاً بحصولها على 37 مقعداً، ويمكن أن ينضم بعض النواب المستقلين إلى “الفتح” و”دولة القانون”.
وأتى الجدل في شأن نتائج الإنتخابات العراقية مصاحباً لمعاودة مفاوضات فيينا النووية بين إيران والقوى العالمية. والتهدئة الإيرانية لها ثمنها على طاولة المفاوضات، وليس من مصلحة طهران الظهور بمظهر المعرقل للعملية السياسية في العراق، في وقت بدأت فيه أيضاً حواراً مع السعودية من بغداد بالذات.
ولا يمكن أن يغيب عن البال أن الإنتخابات الأخيرة كانت الأكثر جدلاً منذ عام 2005. إذ أنها أتت بعد عامين من الإحتجاجات الشعبية على الطبقة السياسية الفاسدة وإنعدام الخدمات الحياتية للمواطن العراقي، من كهرباء وماء وطبابة، فضلاً عن إرتفاع أرقام البطالة، وإتجاه الشباب العراقي إلى الهجرة عبر الوسائل الشرعية وغير الشرعية. وكثيرون من اللاجئين الذين يعبرون بحر إيجه وبحر المانش إلتماساً للوصول إلى أوروبا، هم من العراقيين اليائسين، وكذلك حال اللاجئين المكدسين على الحدود البيلاروسية-البولندية.
الإنفراج السياسي في العراق، الذي قد يكون أولى إختبارات المفاعيل الإقليمية لطاولة فيينا، يصب أيضاً في مصلحة بايدن الذي وعد بإنهاء المهام القتالية للقوات الأميركية في العراق بحلول نهاية 2021
وواجهت السلطات العراقية الإحتجاجات بالقمع، بينما اتهم الناشطون فصائل “الحشد الشعبي” بقتل رموز إنتفاضة الأول من تشرين الأول/أكتوبر 2019. أمران فقط تحققا نتيجة الحراك الشعبي وهما إستقالة عادل عبد المهدي من رئاسة الوزراء واختيار مصطفى الكاظمي خلفاً له، بعد توافق أميركي-إيراني على توليه المنصب، ومن ثم تقديم موعد الإنتخابات التشريعية بضعة أشهر عن موعدها الذي كان مقرراً عام 2022.
كل ذلك أدى إلى إحباط لدى الشباب العراقي، تُرجم إحجاماً عن المشاركة في الإنتخابات التي يقال أن نسبة الإقبال عليها لم تتعدَ 14 في المائة في أحسن الأحوال. وهذا دليل على فقدان الأمل بالتغيير عبر صناديق الإقتراع، وتالياً يؤسس لمزيد من الإحتقان الذي يمكن أن ينفجر في الشارع في أي وقت.
وتلافياً لمزيد من تفتت القوى المتحالفة مع إيران في العراق، سلكت التسوية السياسية عبر قرار المحكمة العليا الإتحادية، وما تلاه من قبول لهذه القوى بالقرار وبدء الحوار الشيعي-الشيعي والذهاب إلى النجف ولقاء الصدر بحثاً عن صيغة للحكومة الجديدة.
إن الإنفراج السياسي في العراق، الذي قد يكون أولى إختبارات المفاعيل الإقليمية لطاولة فيينا، يصب أيضاً في مصلحة الرئيس الأميركي جو بايدن الذي وعد بإنهاء المهام القتالية للقوات الأميركية في العراق بحلول نهاية 2021، وأي إنتكاسة أمنية في هذا البلد، ستكون وصفة لعودة ظهور تنظيم “داعش”، وتالياً إضطرار القوات الأميركية للبقاء هناك.