الشرق الأوسط وخارطة نفوذ الصين وروسيا.. وأميركا!

أحدث تركيز الولايات المتحدة منذ عقد ونيف على التحدي الصيني والتحول نحو آسيا لمواجهته، والتخفف التدريجي من أحمال وأعباء منطقة الشرق الأوسط فراغاً كبيراً، دفع بالصين وروسيا نحو نسج علاقات سياسية واقتصادية وثيقة مع دول إقليمية وازنة في المنطقة مثل إيران، السعودية، الإمارات وغيرها.

ثمة عناصر عدة يجدر التوقف عندها، تُظهر تراجع وتآكل النفوذ الأميركي في منطقة الشرق الأوسط، يمكن إيجازها على الشكل التالي:

1 ـــ إخفاق المشروع الأميركي في العراق، وتزايد النفوذ الإيراني فيه، حيث كانت بعض الدوائر المقربة من سلطة اتخاذ القرار في عدد من دول المنطقة تنظر بريبة كبيرة حيال هذا النفوذ الإيراني، معتبرة أن واشنطن قدمت هدية مجانية لطهران باسقاط نظام الحكم في بغداد في العام 2003.

2 ـــ التباينات بين إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما والعديد من دول المنطقة، وعلى رأسها السعودية والإمارات، في كيفية التعامل مع “الثورة” في مصر وسيطرة جماعة “الإخوان المسلمين” على زمام السلطة هناك، ما أدى إلى فتور في علاقات عدد من الدول الخليجية (ما عدا قطر) بإلإدارة الأميركية بسبب حماسة الأخيرة لمشروع “الإخوان”.

3 ـــ التوصل في العام 2015 إلى خطة العمل الشاملة المشتركة أو ما بات يعرف بالإتفاق النووي الإيراني بين الولايات المتحدة وإيران، دون الأخذ في الحسبان رفض دول الخليج لأي إتفاق مع إيران لا يلحظ هواجسها، وفي طليعتها السعودية.

4 ـــ إقرار قانون “تحقيق العدالة ضد داعمي الإرهاب” في الولايات المتحدة في عهد أوباما، وهو ما فتح الطريق أمام المتضررين من أحداث 11 سبتمبر/أيلول لرفع دعاوى قضائية ضد السعودية. هذه الخطوة رفعت منسوب التوتر في العلاقات الخليجية ـــ الأميركية بشكل عام، والعلاقات الأميركية ـــ السعودية بشكل خاص. كما تسببت إنتقادات إدارة أوباما لدول الخليج في ما يخص قضايا حقوق الإنسان بتوترات إضافية.

5 ـــ شكّل إعلان الرئيس دونالد ترامب أن الهجوم على مرافق النفط السعودية في أيلول/سبتمبر 2019، هو هجوم على السعودية وليس على أميركا صدمة للرياض وعواصم خليجية أخرى، ودشّن ذلك الإعلان مرحلة جديدة في العلاقات الأميركية السعودية تطوي إتفاق كوينسي الشهير “ضمانة تدفق النفط مقابل الحماية الأمنية”.

6 ـــ طرح مشاريع أميركية تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية، ويأتي في طليعتها ما يسمى بـ”صفقة القرن”، في إنقلاب على خطاب الإدارات الأميركية المتعاقبة المتمسك بـ”حل الدولتين”.

7 ـــ التعهدات التي قطعها الرئيس الأميركي جو بايدن على نفسه، وقدمها باعتبارها جزءاً من سياسته الخارجية ويأتي في طليعتها “قضايا حقوق الإنسان” وبجعل السعودية “دولة منبوذة”، رافضاً التحدث مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، رداً على جريمة قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي.

8 ـــ فشل زيارة جو بايدن الشرق أوسطية في الصيف الماضي والتي وصفت بـ”الرحلة المضجرة” لرئيس أميركي ضعيف “في أسوأ وقت ممكن”، لتعكس واقع الإنكماش الإستراتيجي الأميركي في منطقة الشرق الأوسط، وقد علق جيفري كمب، المدير الأول لشؤون الشرق الأدنى وجنوب آسيا بمجلس الأمن القومي خلال حكم الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان على هذا الإنكماش بقوله: “لم أرَ الولايات المتحدة قط بمثل هذا التأثير الضعيف في منطقة الشرق الأوسط”.

تبدو منطقة الشرق الأوسط أمام جملة إستحقاقات كبيرة وداهمة، فصورة دولها المستقبلية وفي طليعتها العربية منها ستحددها قدرة هذه الدول على التحكم بأمورها وشؤونها بنفسها بعيداً عن أي تأثير لأي قوة خارجية مهما بلغت قدرتها ونفوذها، فتضامن الدول العربية والعمل المشترك في ما بينها وصولاً لإعادة احياء النظام الإقليمي العربي على أسس متينة وصلبة

بالمقابل، حظي الرئيس الصيني شي جين بينغ في زيارته إلى السعودية، في نهاية السنة الماضية، باستقبال مهيب وحفاوة بالغة.. وصولاً إلى ترؤسه القمتين العربية ـ الصينية والخليجية ـ الصينية، ما شكل دفعة قوية للعلاقات الصينية ـــ العربية والصينية ـــ الخليجية حيث تحتل الصين مكانة الشريك التجاري الأول لمعظم دول الخليج العربي.

9 ـــ  الإنسحاب الأميركي “الفوضوي والكارثي” من أفغانستان، على حد تعبير رئيس أركان الجيوش الأميركية مارك ميلى في شهادته أمام أعضاء في مجلس الشيوخ، فضلاً عن مشهد الأفغان المتعلقين بعجلات الطائرات الأميركية في مطار كابول، ما أضعف هيبة وصورة ومصداقية الولايات المتحدة أمام حلفائها في المنطقة والعالم.

10 ـــ تزايد حضور “أوبك بلاس” التي تضم دول منظمة “أوبك” وروسيا، وعدم إكتراث الدول الخليجية باحتجاج بايدن ومناشدته لهم مراراً وتكراراً زيادة إنتاجهم من النفط بعد نشوب حرب أوكرانيا.

11 ـــ  الدور الذي قامت به بكين لإبرام الإتفاق السعودي الإيراني في آذار/مارس 2023 ومن ثم إستئناف العلاقات الدبلوماسية بين طهران والرياض بعد قطيعة استمرت سبع سنوات، فضلاً عن سعي بكين المستمر لتعزيز وتنمية علاقاتها مع دول المنطقة في إطار مبادرة “الحزام والطريق”. وفي السياق عينه، أشار الكاتب ديفيد اغناثيوس في مقال له بصحيفة “واشنطن بوست” الأميركية إلى أن هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركية الأسبق قال له بعد توقيع الإتفاق الإيراني السعودي برعاية صينية: “إنني أرى أنه (الإتفاق) يمثل تغييراً جوهرياً في الوضع الإستراتيجي في الشرق الأوسط”.

إقرأ على موقع 180  "ميدل إيست آي": إيران على "عتبة النووي".. كيف تتصرف أميركا؟

12 ـــ يسجل لدولة الإمارات ورئيسها محمد بن زايد أنها مهّدت لعودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، من خلال تحدي الموقف الأميركي وتشجيع باقي الدول الخليجية (باستثناء قطر) على سلوك الإتجاه نفسه الذي تُوّج بحضور الرئيس السوري بشار الأسد القمة العربية الأخيرة في جدة، وكل ذلك حصل خلافاً لرغبة واشنطن التي رفضت وما زالت عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية.

هذه العناصر كلها تشي بالقول إن مهمة الولايات المتحدة لن تكون سهلة إذا قررت ترميم نفوذها المتآكل في المنطقة من ناحية، ومحاولة إحتواء نفوذ الصين وروسيا في المنطقة من ناحية ثانية، لأنها تدرك وتعي جيداً أهمية منطقة الشرق الأوسط الحيوية في المشهد الدولي في ظل صراع القوى الكبرى على النظام العالمي الجديد؛ لذا عزّزت الولايات المتحدة مؤخراً حضورها العسكري في المنطقة عبر ارسال المزيد من القطع البحرية العسكرية إليها، وفي الوقت نفسه تسعى لإنشاء شبكة نقل تربط دول منطقة الشرق الأوسط بالهند وهو مشروع ضخم للغاية، إذ سيشمل إنشاء شبكة من السكك الحديدية تربط دول الخليج بالهند عبر ممرات ملاحية. كما تسعى إلى تطبيع العلاقات السعودية الإسرائيلية، برغم رفض الرياض تقديم أي تنازل يتجاوز سقف المبادرة العربية للسلام في بيروت (2002).

في المحصلة، تبدو منطقة الشرق الأوسط أمام جملة إستحقاقات كبيرة وداهمة، فصورة دولها المستقبلية وفي طليعتها العربية منها ستحددها قدرة هذه الدول على التحكم بأمورها وشؤونها بنفسها بعيداً عن أي تأثير لأي قوة خارجية مهما بلغت قدرتها ونفوذها، فتضامن الدول العربية والعمل المشترك في ما بينها وصولاً لإعادة احياء النظام الإقليمي العربي على أسس متينة وصلبة، سيمكنها من ان تكون صاحبة الكلمة الفصل إن نجحت، ودون ذلك ستبقى المنطقة عرضة لمشاريع وأخطار تهدد كياناتها بصورة أخطر من الصور التي شهدتها منذ سايكس بيكو مروراً بمشروع الشرق الأوسط الكبير وصولاً حتى مشروع “الربيع العربي” الذي طواه التطبيع السعودي ـ السوري مؤخراً.

Print Friendly, PDF & Email
محمد سعد

كاتب وباحث في العلاقات الدولية، لبنان

Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  موظف عند الحريرية برتبة رئيس فرنسا