دلالات أحداث كازاخستان: وضوح في الشرق.. إرتباك في الغرب 

ما زالت معركة الوعي قائمة بين النخب العربية حول التحوّلات الدولية التي أفضت إلى صعود الشرق وأفول الغرب كي لا نقول أكثر من ذلك. 

ما زالت بعض النخب العربية المثقفة تراهن على الغرب بشكل أو بآخر، وما زالت بعض النخب في محور المقاومة تعتبر أن الغرب ما زال لاعباً لا يمكن اهماله وأن زمام المبادرة ما زال بيده. ولذلك نعتبر أن مهمتنا هي في صلب معركة الوعي الذي يجب أن يتحكّم بالقرار العربي التحرّري، فعملية تحرير العقل أصعب بكثير من تحرير الأرض وبالتالي تحرير الإرادة يمرّ حتماً بتحرير الوعي فالعقل.

ما نريد قوله هو أن قراءة الأحداث التي تتصدّر المشهد السياسي في العالم وفي المنطقة مفتاحها هو التسليم بصعود الشرق وأفول الغرب. هذه المعادلة البسيطة ليست ببسيطة في تداعياتها الفكرية والسياسية وبطبيعة الحال العملياتية. لن نعود إلى تعداد مظاهر إخفاق الغرب وتخبطه في المراحل السابقة بل سنذكر بعض المحطات التي تصدّرت الإعلام في الأيام الأخيرة وليس في الأسابيع والأشهر الماضية.

هناك حدثان مهمان يجب التوقف عندهما لأنهما يدلّان بشكل قاطع أن الغرب لم يعد ممسكاً بزمام الأمور وأن الشرق يتقدم بخطوات ثابتة ومدروسة ومخطّط لها منذ فترة، ما يُفسّر الإنجازات التي يحقّقها يوماً بعد يوم في مواجهة عنجهية الغرب وغطرسته وتهديداته الفارغة.

الحدث الأول هو أحداث كازاخستان التي شغلت العالم وسبقت الحدث الثاني، أي المفاوضات الروسية الأميركية والروسية الأطلسية في الأسبوع الثاني من شهر كانون الثاني/يناير الحالي. فأحداث كازاخستان لها دلالات عديدة ونتائجها مهمة للغاية ليس فقط على الصعيد الجيوسياسي بل على المسار المرتقب للأمور في سوريا والعراق ولبنان ناهيك عن التطوّرات في الجزيرة العربية والسودان..

ولّى زمن “الثورات الملوّنة” ضد كل دولة ترغب بالإستقلال عن الاملاءات الأميركية والغربية، ولن تسمح الكتلة الاوراسية للولايات المتحدة بمحاصرتها. هذا الدرس وصل أيضاً للهند التي كانت تريد اللعب على التناقضات بين الولايات المتحدة والكتلة الاوراسية، فإذ بها تُفاجأ بسرعة حسم الأزمة في كازاخستان

الدلالة الأولى: إستمرار الغرب وخاصة الولايات المتحدة وتركيا والكيان الصهيوني في استعمال وسائل مستهلكة لزعزعة الوضع بهدف إحداث إنقلاب سياسي يغيّر بشكل ملحوظ موازين القوّة في آسيا وبالتالي في المنطقة والعالم. لم يعد ممكناً فصل ضرورة سيطرة المشروع الأميركي على وسط آسيا والشرق الأوسط فالترابط أصبح أمراً واقعاً. أما الخطة التي تتبعها الولايات المتحدة وحلفاؤها فترتكز على “انتفاضات ملوّنة” تستغلّها قوى مسلّحة ومدرّبة تستفيد من الفوضى لتسيطر على مرافق الدولة وتعلن “التغيير” المطلوب أميركياً. هذا ما حدث في أوكرانيا سابقاً، وهكذا جرت محاولة تكرار الخطة في كازاخستان مؤخراً. لكن الخطة فشلت لأن خصوم الولايات المتحدة استدركوا الأمور مسبقاً هذه المرة وكانوا متحسبين لها.

الدلالة الثانية: جهوزية القوى المناهضة للهيمنة الأميركية في كازاخستان وعلى رأسها الرئيس الحالي قاسم جومارت توغاييف الذي طلب تدخل روسيا وفقاً لاتفاقية منظمة الامن الجماعي (CSTO). وخلال ساعات كانت القوّات الروسية الخاصة موجودة في المدن الأساسية لكازاخستان واستعادت المرافق التي استولى عليها المتمرّدون. كان الرهان الأميركي أن العملية ستطول لاستغلالها في المفاوضات المقررة في جنيف وبروكسل مع روسيا من موقع قوي. بات واضحاً ان الحسابات لم تكن في محلها بل كانت روسيا ممسكة بزمام الأمور ومؤكّدة أنها لن تسمح بأي تغيير جيوسياسي مناهض لها وللصين تريد فرضه الولايات المتحدة.

الدلالة الثالثة: فعّالية اتفاقية الأمن الجماعي بينما فعّالية منظمة حلف الأطلسي لا تتعدّى حدود الثرثرة البيروقراطية العاجزة عن الفعل. والدرس واضح بالنسبة لبعض الدول كتركيا التي وجدت نفسها تواجه بمفردها روسيا وعدم تدخل حلف الأطلسي لدعمها.

الدلالة الرابعة: توكيل أرمينيا بقيادة القوى العسكرية التابعة لمنظمة الدفاع ودلالتها واضحة بعد الاشتباكات بين أرمينيا واذربيجان. فروسيا والصين تلوّحان لكل من تركيا واذربيجان أن الأمن الآسيوي بيد المنظمة التي تقودها كل من روسيا والصين وأن المراهنة على دعم أميركي من الأوهام التي يجب أن يكفّوا عنها.

الدلالة الخامسة: ولّى زمن “الثورات الملوّنة” ضد كل دولة ترغب بالإستقلال عن الاملاءات الأميركية والغربية، ولن تسمح الكتلة الاوراسية للولايات المتحدة بمحاصرتها. هذا الدرس وصل أيضاً للهند التي كانت تريد اللعب على التناقضات بين الولايات المتحدة والكتلة الاوراسية، فإذ بها تُفاجأ بسرعة حسم الأزمة في كازاخستان. لذلك، على الهند وتركيا واذربيجان مراجعة سياساتها الخارجية والالتحاق بالكتلة الاوراسية من دون التفكير بفصول جديدة من التلاعب والتذاكي والتحاذق.

الدلالة السادسة: أتاحت النتائج الميدانية في كازاخستان الفرصة للدولة من أجل القضاء على بؤر التوتر ومؤسسات الـ”إن. جي. أو” المموّلة من الغرب، فجميع رموز هذه المنظومة بدءاً من رئيس الاستخبارات السابق كريم ماسيموف تمّ توقيفهم، ما جعل وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية والمخابرات البريطانية والتركية والصهيونية بلا أذرع سياسية تستطيع الاعتماد عليها. لم يكن كافياً أن الدولة في كازاخستان كانت مخترقة من قبل المخابرات الغربية بل أرادت كل الدولة فخسرت كل شيء!

الدلالة السابعة: ما حدث في كازاخستان سينعكس حتماً على الخارطة السياسية في المشرق، بما في ذلك الحرب على سوريا. فالرئيس التركي رجب طيب أردوغان كان يعتمد على نزارباييف لكبح غضب الرئيس فلاديمير بوتين عندما لا يفي بتعهداته له. الآن، فقد اردوغان حليفاً قوياً مع خروج نزارباييف نهائياً من المسرح السياسي، ما يجعله أكثر انكشافاً امام روسيا وإيران. هذا يعني أنه عاجلاً أم آجلاً، على الرئيس التركي أن يلتزم بتنفيذ التعهدّات التي قطعها لموسكو وطهرانفي الملف السوري لأجل تسريع الحل عبر استعادة الدولة سيطرتها على ادلب وشمال غرب سوريا.

المطلب الروسي واضح ويتلخّص بنقطتين أساسيتين: أولاً؛ إيقاف التوسع الأطلسي شرقاً. ثانياً؛ عدم تموضع المنظومات الصاروخية الأميركية والأطلسية قرب حدودها. النخبة الأميركية الحاكمة لا تستطيع القبول بذلك بينما الروس جادون في تحقيق ما يلزم لمصلحة أمنهم القومي. ما يمكن أن تقدم عليه روسيا هو التلويح باستعادة أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962

اما الحدث الثاني فهو سلسلة اللقاءات في جنيف وفيينا وبروكسل بين روسيا والولايات المتحدة ومنظمة الحلف الأطلسي. حتى انعقاد الجلسات التفاوضية لم تكن الولايات المتحدة وحلف الأطلسي مقتنعين بالإنذار الروسي للأطلسي في عدم التقدم في أوكرانيا وجورجيا. من يقرأ تصريحات المسؤولين الأميركيين قبل المفاوضات ومن يقرأ “تقارير الخبراء” عن روسيا في مراكز الأبحاث الأميركية والاعلام المهيمن الأميركي يخرج بانطباع ان روسيا غير جادة في ما تقوله ولا تستطيع تطبيقه. ثمة غرور أميركي بإمتلاك قوة مفرطة (وهمية) يجعلها تعتقد أن روسيا تقوم بعملية “بلف” كما في لعبة البوكر (أي الإيحاء بامتلاك أوراق قوية قد لا تكون موجودة) بينما في حقيقة الأمر كانت روسيا، ومعها حليفتها الصين، تتصرّف وفقاً للعبة الشطرنج، أي عبر خطوات مدروسة ومحسوبة.

إقرأ على موقع 180  400 عسكري أميركي إلى العراق.. في إطار الإنسحاب!

فوجئ الوفد الأميركي في كل من جنيف وفيينا وكذلك منظمة حلف شمال الأطلسي بدقة المطالب الروسية، ما كشف عدم استعداد الأميركيين للمفاوضات. لغة الجسد لرئيسة الوفد الأميركي وندي شيرمان والأمين العام لحلف الأطلسي ينس ستولتبرغ أظهرت إرتباك الإثنين مقابل جدّية الموقف الروسي وإلمامه بالتفاصيل. لم تأتِ الولايات المتحدة للتفاوض بل لفرض املاءات على روسيا وإذ بها تُفاجأ بأن روسيا جادة في تنفيذ الإنذار الذي وجّهته للولايات المتحدة ومنظمة الحلف الأطلسي. بات واضحاً ان الولايات المتحدة غير جاهزة وعاجزة عن التفاوض الجدّي كما بات واضحاً أن منظمة الحلف الأطلسي مؤسسة بيروقراطية تكثر من الثرثرة وتقلّ من الفعل. كان الرهان الأميركي على “نجاح” الانقلاب في كازاخستان للتفاوض من موقع أقوى فكان الفشل في كل من كازاخستان وفي القدرة على فرض الاملاءات على روسيا.

بدا واضحاً أن الولايات المتحدة ومن خلال تلويحها لروسيا بـ”عواقب وخيمة” إن “احتلّت” أوكرانيا، إنما تريد دفع روسيا للتفاوض مع الحكومة الأوكرانية بينما تريد روسيا وقف التوسع الأطلسي شرقاً ولا سيما في أوكرانيا وجورجيا. ليست الولايات المتحدة جاهزة للتفاوض على هذا الأساس وبالتالي يصبح الرهان على “الإجراءات العسكرية” التي يمكن ان تتخذها روسيا لتعطيل مراكز القرار والسيطرة للقواعد الأطلسية والتي لن تكون محصورة في أوكرانيا. الولايات المتحدة والحلف الأطلسي غير جاهزين لذلك والدول الأوروبية كألمانيا وفرنسا على سبيل المثال غير جاهزة لاندلاع حرب في القارة الأوروبية. سلاح العقوبات برهن عن عدم جدواه وبالتالي قد تواجه الولايات المتحدة هزيمة سياسية لا تقل خطورتها عن الانسحاب من أفغانستان وذلك في ظل مناخ سياسي داخلي أميركي متوتر للغاية وانخفاض شعبية الرئيس الأميركي جو بايدن الى مستويات قريبة من الحضيض.

الاحتلال الروسي لأوكرانيا ليس وارداً لأن روسيا لا تريد أن تحتل دولة فقيرة منخورة بالفساد ولا قيمة استراتيجية لها. المناطق الشرقية لأوكرانيا كمقاطعة الدونباس ودونيتسك أكثرية سكّانها من الروس والمصانع الأوكرانية متمركزة في شرق أوكرانيا أي في المناطق الخاضعة للنفوذ الروسي.

واللافت للإنتباه أن القيادات العسكرية الأميركية لا تشاطر القيادات السياسية الأميركية ولا الاعلام الأميركي الفرضية القائلة بحتمية الإحتلال الروسي لأوكرانيا، فالأقمار الصناعية الأميركية تشير إلى أن تموضع القوات الروسية قرب الحدود مع أوكرانيا هو تموضع عادي وغير قتالي. وهذا التباين بين وجهة نظر “سياسية” (وإعلامية) ووجهة نظر “عسكرية” يساهم أكثر في إرتباك الموقف الأميركي. لم يعد الكلام العالي النبرة دليل “حزم” أو “وضوح” خاصة لدى حلفاء الولايات المتحدة. كما أن روسيا ومعها الصين تدرك أن الولايات المتحدة عاجزة عن اتخاذ خطوات عسكرية غير تلك الإجراءات الاستفزازية في البحر الأسود أو في بحر الصين والتي يمكن ردعها بسرعة.

المطلب الروسي واضح ويتلخّص بنقطتين أساسيتين: أولاً؛ إيقاف التوسع الأطلسي شرقاً. ثانياً؛ عدم تموضع المنظومات الصاروخية الأميركية والأطلسية قرب حدودها. النخبة الأميركية الحاكمة لا تستطيع القبول بذلك بينما الروس جادون في تحقيق ما يلزم لمصلحة أمنهم القومي. ما يمكن أن تقدم عليه روسيا هو التلويح باستعادة أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962 لكن هذه المرة بشروط أفضل (نشر قواعد صاروخية في كل من كوبا وفنزويلا).. إذاً المسلسل مستمر حتى الحلقة التالية!

بدأنا بالحديث عن الوعي ونختم بمثله: دروس الفشل في كازاخستان لا بد وأن تدخل في صميم الوعي الغربي الذي سيؤثّر على مستقبل الولايات المتحدة.

Print Friendly, PDF & Email
زياد حافظ

باحث؛ كاتب إقتصادي ـ سياسي؛ وعضو الهيئة التأسيسية للمنتدى الاقتصادي والإجتماعي

Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  قراءة روسية في التحوّلات الليبية: تركيا تفوز بالماراثون