برغم إحتفال القيادة “الإسرائيلية” بتدمير المفاعل النووي العراقي، فان تلك العملية لم تنه أحلام صدام حسين بامتلاك أسلحة دمار شامل نووية وبيولوجية وكيميائية، وراحت المعلومات المتواترة عن محاولات حثيثة يجريها الأخير مع شركات ودول غربية لتحقيق هذه الاحلام تقض مضاجع قادة الأجهزة الأمنية “الإسرائيلية” ومعهم قيادتهم السياسية التي سرعان ما أعطت الضوء الأخضر “للقضاء على تلك الاحلام عبر القتل والاغتيال”، بحسب بيرغمان.
يتابع الكاتب ان احدى تلك المتابعات لجهود صدام حسين في هذا الإطار وصلت الى مشروع اطلق عليه اسم “كوندور”، وكان عبارة عن مشروع مشترك بين العراق ومصر والأرجنتين لتطوير مدافع بعيدة المدى من أنواع مختلفة، وتم الحصول على كمية كبيرة من المعلومات عن هذا المشروع وارسلت الى “إسرائيل” من قبل عملاء لـ”الموساد” في شركات المانية لها علاقة بالمشروع ومن البيئة العلمية في الارجنتين، كما من الجاسوس “الإسرائيلي” في الاستخبارات الاميركية جوناثان بولارد الذي كان متغلغلا في عمق عالم الاستخبارات الاميركية. ورداً على هذه المعلومات، بدأ عملاء “الموساد” يشعلون الحرائق في مكاتب الشركات الأوروبية التي لها علاقة بالمشروع، كما بدأوا بإرهاب العلماء العاملين فيه بالطريقة نفسها التي اتبعت مع العلماء الالمان الذين عملوا على المشروع الصاروخي المصري في ستينيات القرن الماضي، فقد اخذ العلماء العاملون في المشروع العراقي يتلقون اتصالات هاتفية تقول لهم “ان لم تترك فوراً سنقتلك انت وكل افراد عائلتك”، إضافة إلى ذلك، بدأ “الموساد” يعد خططاً لقتل بعض العلماء. ولكن الضغط الذي مورس أتى أكله، ولم يكن هناك حاجة لتنفيذ أي من تلك الخطط فقد أدى إستهداف الشركات الأوروبية بالحرائق واقتحام مكاتبها وتهديد العلماء إلى مغادرة هؤلاء إلى بلدانهم وقامت كل من مصر والأرجنتين بتخفيض الميزانيات المخصصة للمشروع.
يضيف بيرغمان ان ذلك أحبط صدام فلجأ الى عالم كندي عمل سابقاً في وكالة الفضاء الاميركية “ناسا” ومع الجيشين الأميركي و”الإسرائيلي” يدعى جيرالد بال، وطلب منه ان يطوّر الصواريخ والمدافع التي يمتلكها العراق بحيث تصبح قادرة على حمل كمية هائلة من المتفجرات ولها قدرة على الوصول الى مسافات بعيدة جداً كطهران مثلاً التي تبعد عن بغداد حوالي 430 ميلاً (692 كلم) او تل ابيب التي تبعد عن بغداد 570 ميلاً (918 كلم) وذلك من وحي رواية الخيال العلمي للكاتب جولز فيرن “من الأرض الى السماء”. من جهته، اكد جيرالد بال لزبونه ان مدافعه العملاقة لن تكون فقط قادرة على الوصول الى مسافات بعيدة جداً بل أيضاً ستتمتع بالدقة والفعالية والقدرة على نقل حمولة بيولوجية وكيميائية لان رؤوس الصواريخ المستخدمة فيها ستكون اقل سخونة من تلك التي تتسبب بها صواريخ سكود الروسية التي كان يمتلكها العراق.
توفي جيرالد بال على الفور قبل أن يسقط ارضاً، عندها قام القاتل بسحب كاميرا من جيبه واخذ بضعة صور لرأس العالم وهو مفتت بفعل الرصاص، احدى تلك الصور كانت قريبة جداً من الرأس وبعضها الآخر يظهره ملقى على بطنه وهو غارق في بركة من الدماء. وارسلت تلك الصور في اليوم نفسه الى مقر “مؤسسة الأبحاث الفضائية” التي كان يمتلكها بال
في العام 1989 قام عالم الصواريخ بال وعلماء عراقيون بنصب المدفع العملاق في جبل الحمراين على بعد 125 ميلاً (201 كلم) شمال بغداد وتم اطلاق ثلاث طلقات تجريبية. ولسوء حظ بال، فإنه لم يأخذ على محمل الجد التهديدات الهاتفية التي كانت تصله وتطلب منه انهاء عمله على هذا المشروع وقطع علاقته بصدام حسين ومنها ما كان يقول “سنتخذ تدابير قاسية ضدك وضد شركاتك وضد كل المتورطين معك”. وفي 22 مارس/اذار 1990 كان فريق من وحدة “الحربة” في “الموساد” في انتظاره في منزله الذي كان يبعد مسافة قصيرة بالسيارة عن مكتبه في مدينة بروكسل البلجيكية. إختبأ إثنان من فريق الإغتيال خلف باب منور السلالم، ومن موقعهم هذا كان بإمكانهم رؤية بال يسير باتجاه شقته وهو يبحث في جيوبه عن مفاتيحه وما ان مر بقربهما واصبح ظهره نحوهما تسللا بصمت من خلف الباب وهما يشهران مسدسي “ماغاروف” مزودين بكواتم للصوت، فاطلق احدهما رصاصتين على راس بال وثلاث رصاصات على ظهره فيما بقي الثاني خلف رفيقه ليتولى الحماية. توفي بال على الفور قبل أن يسقط ارضاً، عندها قام القاتل بسحب كاميرا من جيبه واخذ بضعة صور لرأس العالم وهو مفتت بفعل الرصاص، احدى تلك الصور كانت قريبة جداً من الرأس وبعضها الآخر يظهره ملقى على بطنه وهو غارق في بركة من الدماء. وارسلت تلك الصور في اليوم نفسه الى مقر “مؤسسة الأبحاث الفضائية” التي كان يمتلكها بال وهي مرفقة برسالة تقول “اذا ذهبت الى العمل غدا سينتهي بك الامر على هذا النحو”، فلم يذهب أي موظف الى الشركة في اليوم التالي وسرعان ما أقفلت الشركة ابوابها الى الابد، وارسل “الموساد” رسائل مشابهة إلى كل الشركات التي كان يتعامل بال معها. وهكذا انتهى مشروع المدافع العملاقة في مهده وفي الثاني من ابريل/نيسان 1990 عندما علم صدام حسين من استخباراته ان جيرالد بال قد قتل خاطب الشعب العراقي بكلمة تعهد فيها “ان تلتهم النيران نصف إسرائيل”. وفي الحقيقة فان قتل بال لم يؤدِ سوى الى ابطاء جهود صدام حسين في الحصول على وسائل نارية وفعالة وطويلة المدى ولكنها لم تلغِ مشروعه النووي على الاطلاق، وتبين لاحقاً ان أجهزة الاستخبارات “الإسرائيلية” والغربية لم تكن على معرفة بالجزء الكبير من مشروع الأبحاث العسكرية لصدام حسين. وينقل بيرغمان عن رئيس مركز الأبحاث التابع لجهاز “امان” العميد شيمون شابيرا قوله “كان ذلك من اكبر الإخفاقات في التاريخ الاستخباري الإسرائيلي، لقد كانت إسرائيل محظوظة اكثر مما هي منتبهة”، فقد ارتكب صدام حسين الخطأ الكبير بغزو الكويت في العام 1990 معتقداً ان الولايات المتحدة وباقي دول العالم سيقفون مكتوفي الايدي في مواجهة عدوانه هذا، لقد كان مخطئاً فقد ارتد ذلك عليه بتشكيل تحالف دولي واسع ضده ضم في صفوفه دولا عربية من اجل طرده من الكويت وفرض عليه حملات تفتيش دولية قاسية لبلاده.
يقول بيرغمان إن المفتشين الدوليين وجدوا أن ما سها عن عيون جهاز “الموساد” رؤيته، فمع انطلاق “عملية عاصفة الصحراء” لتحرير الكويت في يناير/كانون الثاني عام 1991، كان صدام حسين على بعد سنوات قليلة من امتلاك قدرة كاملة في التسلح النووي والكيميائي والبيولوجي كما على القدرة في تصنيع صواريخ ورؤوس حربية باستطاعتها إيصال هذه الأسلحة الى “إسرائيل”. لذلك وحتى بعد انتهاء حرب عاصفة الصحراء وإعلان الرئيس الأميركي جورج بوش (الأب) انه لن يغزو العراق وانه سيبقي على صدام حسين في السلطة، فان رئيس اركان الجيش “الإسرائيلي” ايهود باراك كان لا يزال مقتنعا ان صدام حسين لا يزال يشكل خطرا واضحا على “إسرائيل”، فصدام من الطبيعي ان يحاول مرة ثانية ان يطوّر أسلحة دمار شامل وان لا مجال للدخول في اي مفاوضات معه.
في 20 يناير/كانون الثاني عام 1992 امر باراك “بتشكيل فريق لدراسة إمكانية ضرب الهدف (أي صدام حسين)” وبعد شهرين من ذلك الامر، أي في 12 مارس/اذار، أرسل هذا الفريق، الذي تم تشكيله برئاسة عميرام ليفين، تقريرا الى رئيس الأركان عن التقدم في الخطة التي يتم اعدادها لتحقيق الهدف. أعطى باراك الامر بالبدء بالتحضير لتنفيذ الخطة في يوليو/تموز من ذلك العام. وتحدث باراك عن الموضوع مع رئيس الوزراء اسحق شامير ومع إسحاق رابين، اللذين كانا قد استبدلاه في العام 1992 في موقع رئاسة الأركان، وحاول اقناعهما بضرورة استخدام سلاح الاغتيال للمرة الأولى ضد رئيس دولة ذات سيادة. وفي عودة بالتاريخ الى الوراء بعد سنوات قال باراك “فقط تخيلوا كيف كان يمكن لنا ان ننقذ العالم من عقد كامل من إرهاب هذا الرجل. كان يمكن لمجرى التاريخ ان يتغير”.
يتابع بيرغمان، أن الضوء الأخضر لتنفيذ خطة إغتيال صدام حسين إكتمل بموافقة كل من شامير ورابين، فوضعت على الطاولة عدة أفكار من ضمنها ان يتحطم قمر صناعي او طائرة “إسرائيلية” فوق العراق ومن المفضل ان يكون ذلك في بغداد وان يصار الى انتظار صدام حسين عندما يظهر لتفقد مكان الحطام فيصار الى تفجير الركام به وبصحبه من المسؤولين العراقيين، ومن الأفكار أيضا ان يتم انشاء شركة وهمية في أوروبا تقوم ببيع صدام حسين استديو تلفزيوني حديث ومتطور يقوم من خلاله ببث خطبه الى الشعب العراقي وتجهيز هذا الاستديو بمعدات تربطه بـ”إسرائيل” مباشرة حيث يصار الى تفجيره بوجه صدام حسين بينما هو على الهواء يلقي احد خطبه، وأيضا فكرة ان يتم استبدال تمثال لاحد رفاق صدام في الثورة البعثية باخر مفخخ بعبوة ناسفة يتم تفجيرها بينما يكون صدام منحنياً براسه فوقها في مناسبة احياء ذكرى هذا الشخص، هذا بالإضافة الى خطط أخرى.
في النهاية، يقول بيرغمان، تقرر ان يتم قتل صدام في المكان الأكثر حراسة وحماية حيث الجميع سيكون متأكدا ان صدام حسين في المكان وليس واحدا من بدائله، في مقبرة عائلته في بلدته تكريت لحضور مراسم دفن أحد اقربائه وهو خاله خيرالله طلفة، وهو الرجل الذي تربى صدام على يديه وبرعايته والذي كان مريضا جدا. وهكذا فقد تابع العملاء “الإسرائيليون” الوضع العلاجي الذي كان يتلقاه طلفة في احد مستشفيات الأردن واخذوا ينتظرون خبر وفاته. ولكن طلفة لم يمت وبقي متمسكا بالحياة لذلك قرر “الإسرائيليون” اللجوء الى خطة بديلة، فبدلا من طلفة يلجأون الى قتل برزان التكريتي سفير العراق الى الأمم المتحدة. وتقتضي الخطة ان يتم نقل فرقة من وحدة الكوماندوس “سريات ميتكال” بطائرات هليكوبتر الى تكريت حيث يتم انزالها برا على مسافة بعيدة وان تتقدم الى المقبرة بسيارات جيب شبيهة بتلك التي يستخدمها الجيش العراقي، ولكنها في الحقيقة تكون مجهزة بنظام خاص يقلب سقفها رأساً على عقب لتظهر منه صواريخ موجهة وعندما يأتي صدام للمشاركة في الجنازة يتم اطلاق الصواريخ عليه وقتله. لو قيض لهذه الخطة ان تنجح كان الجميع يعتقد ان رئيس الأركان ايهود باراك سينخرط بعدها في العمل السياسي ويصبح مرشحا لرئاسة الحكومة بحظوظ كبيرة ان يتولى المنصب (في الحقيقة من دون نجاح هذه الخطة أصبح بعدها بسنوات باراك رئيسا للحكومة) نظراً لما يحفل به سجله العسكري من إنجازات منذ ان كان ملازماً في الجيش.
سقط الصاروخ في الوسط بين المجموعة التي كانت تلعب دور صدام حسين وصحبه وبعدها بثوان سقط الصاروخ الثاني على بعد امتار من الأول من دون ان يتسبب باية اضرار لان كل الرجال الذين كانوا في المكان كانوا قد إستلقوا ارضاً إما قتلى أو جرحى من جراء الصاروخ الأول، ففهم قائد العملية ان خطأ ما قد حصل فصرخ “أوقفوا اطلاق النار”
ولاجل تنفيذ هذه الخطة، بنت وحدة “سريات ميتكال” مجسما خاصا لمقبرة عائلة صدام حسين في تكريت في معسكر تزاليم للتدريب في صحراء النقب واخذت تتدرب على تنفيذ العملية. وفي الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني 1992 عندما كان الفريق جاهزاً للتنفيذ جاء كبار ضباط الجيش “الإسرائيلي” لمشاهدة التدريب على تنفيذ هذه الخطة. اتخذ فريق الاغتيال موقعه مع الصواريخ في حالة جهوزية للاطلاق فيما كان عناصر من وحدات الإدارة والاستخبارات يلعبون دور صدام حسين ورفاقه. ونظراً لبعض الثغرات في التخطيط والضغط الناجم عن البرنامج التدريبي الطويل فان الرجال المكلفين باطلاق الصواريخ اخطأوا بفهم التعبير الذي يعطي إشارة عملية الاطلاق. فتعبير “الشغل عالناشف” كان يعني ان الرجال الذين يلعبون دور صدام حسين وصحبه وهم يحيّون الجماهير هم في الموقع، اما تعبير “الشغل على الرطب” فكان يعني انه تم استبدال هؤلاء الرجال بدمى تحمل قياسات بشرية وبالامكان ضربهم، والخطأ الأكبر انه في الحالتين كان الامر بالتعبير نفسه “ارسلوا القبعة”، وهنا كان الخطأ الذي أدى الى فوضى عارمة وكارثة. فآمر الوحدة الذي اعتقد ان الوضع كان في “الشغل عالناشف” اعطى الامر “ارسلوا القبعة” ولكن الضابط الآمر لآليات اطلاق الصواريخ اعتقد ان الوضع كان في “الشغل عالرطب” فاعطى الامر “اطلقوا الصاروخ الأول” فضغط احد رجاله على زر الاطلاق وبدأ يقود الصاروخ في اتجاه الهدف عبر الية التحكم عن بعد ولكن عندما اقترب الصاروخ من الهدف لاحظ هذا الضابط ان شيئاً ما يجري بصورة خاطئة فصرخ “ما هذا لماذا تتحرك الدمى؟” ولكن كان الأوان قد فات فقد سقط الصاروخ في الوسط بين المجموعة التي كانت تلعب دور صدام وصحبه وبعدها بثوان سقط الصاروخ الثاني على بعد امتار من الأول من دون ان يتسبب باية اضرار لان كل الرجال الذين كانوا في المكان كانوا قد إستلقوا ارضاً إما قتلى أو جرحى من جراء الصاروخ الأول، ففهم قائد العملية ان خطأ ما قد حصل فصرخ “أوقفوا اطلاق النار، أوقفوا اطلاق النار. اكرر أوقفوا اطلاق النار”. أدى الحادث الى مقتل خمسة جنود وجرح كل الذين كانوا في الموقع (لم يحدد الكاتب عدد الجرحى ولكن من الواضح انه كان كبيراً).
يضيف بيرغمان ان المحرج في الامر انه حتى الجندي الذي كان يلعب دور صدام حسين لم يمت في العملية بل فقط أصيب بجراح (يعني لو كانت العملية واقعية كان صدام سينجو مع بضعة جروح أيضاً)، واصبح الحادث سبباً لعاصفة سياسية مخيفة وشجار بشع بين باراك وبعض كبار الجنرالات في الجيش حول من يتحمل المسؤولية عن الحادث الذي أدى الى الغاء خطة اغتيال صدام حسين وتبين لاحقاً وخلافاً لتوقعات باراك، أن صدام حسين لم يستأنف محاولاته للحصول على أسلحة نووية بعد عملية عاصفة الصحراء.