إيران ما بعد “الطوفان”.. خطوتان إلى الأمام، خطوة إلى الوراء!

مع دخول حرب غزة أسبوعها العاشر، تصاعدت وتيرة الموقف العسكري في جبهة جنوب لبنان كما في مضيق باب المندب مع قرار جماعة "أنصار الله" في اليمن منع عبور السفن التي تنقل البضائع إلى الموانىء الإسرائيلية، فيما استمر إستهداف القواعد الأمريكية في العراق وسوريا، وفي هذه الأثناء، إكتفت كل من إيران وأمريكا حتى الآن بتبادل الإتهامات والتلويح باتخاذ الخطوات الردعية المناسبة!

لا يُمكن عزل ارتفاع حدة التوتر بين إيران وأمريكا عن السلوك التدميري ـ الدموي الذي يتبعه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والجيش الإسرائيلي في قطاع غزة، حيث تسعى تل أبيب إلى تحقيق هدفين بعيدي المنال في المدى المنظور: الأول، ما تسميه “سحق حماس” وبالتالي إعادة إحتلال قطاع غزة والإفراج عن الأسرى من دون صفقة تبادل؛ والثاني، محاولة توسيع نطاق الحرب وخصوصاً في الجبهة الشمالية مع لبنان، لكن بشرط ضمانة انضمام الولايات المتحدة وحلف الناتو إلى دائرة النزاع، الأمر الذي سيجعل حكومة نتننياهو تقتنص الفرصة وبالتالي تُعيد إلتقاط أنفاسها في ظل الدعم الأميركي الغربي المفتوح.

إلا أن الرئيس الأمريكي جو بايدن ومن خلال استيعابه الأهداف التي يسعى نتنياهو وحكومته المتطرفة إلى تحقيقها، منذ اليوم الأول لعملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول، يكتفي بمد تل أبيب بكل ما تحتاج من أسلحة وذخائر وتقنيات ويُوفّر لها سحابة استشكافية تجسسية في كل منطقة الشرق الأوسط، إلا أنه يتجنب مشاركة بلاده بشكل مباشر في الحرب على قطاع غزة كما أنه يريد للحشد العسكري الأميركي في المتوسط والخليج والبحر الأحمر أن يكون عنصراً رادعاً يحول دون انخراط “أعداء” إسرائيل أكثر في المعركة إلى جانب حركة “حماس”.

بالمقابل، فإن السياسة التي تتبناها إيران في هذه الأيام مستقاة من التجارب التي راكمتها على مدى أربعة عقود من المواجهة مع أمريكا في المنطقة، فإيران وأمريكا وصلتا إلى حافة الحرب مراراً إلا أن أياً منهما لم يبادر إلى الضغط على الزناد، برغم أن ايران تتبنى سياسة أيديولوجية تجاه أمريكا بعنوان “الشيطان الأكبر” من وجهة نظر قائد الثورة الأول الإمام الخميني، وهي الراعي الأساسي للمقاومين على أرض قطاع غزة إلا أنها لم تتورط حتى الآن في سياسة المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة بل تكتفي بتبني موقف واحد ينص على أنها لا تتدخل في أي قرار تتخذه القوى الحليفة لها في المنطقة.. وأن طهران تحترم قرارات قوى المقاومة لكنها لا تملي على أي من هذه القوى أي قرارات ولا تتدخل بشكل مباشر في تبنى هذه القوى لأي عملية ضد أمريكا أو إسرائيل، لكن هذا لا يعني استبعاد أن يتسع نطاق الحرب وبالتالي أن تخرج الأمور عن السيطرة نتيجة تدحرج أو خطأ يتحمل مسؤوليته هذا الطرف أو ذاك.

بعد عملية “طوفان الأقصى” في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، ركّزت ايران على مسارين؛ الأول، تجنب التورط في حرب إقليمية؛ والثاني، إيقاف العدوان على قطاع غزة. هذان المساران يحظيان بتأييد الرأي العام الأمريكي، فالسياسة التي تبنتها ايران حيال القواعد الأمريكية التي تم استهدافها من قبل قوى المقاومة الحليفة لطهران كانت سبباً رئيسياً في منع الوصول إلى نقطة الإنفجار في العلاقات بين ايران وأمريكا، يأتي هذا في وقت تعتمد فيه السياسة الايرانية على توزيع المهام بين القوى المتعددة التابعة لمحور المقاومة وتسعى طهران من خلال ذلك إلى تحقيق أكبر قدر من المكاسب السياسية في مقابل أقل قدر من الخسائر في ميدان الحرب نفسه.

إيران وأمريكا وصلتا إلى حافة الحرب مراراً إلا أن أياً منهما لم يبادر إلى الضغط على الزناد، برغم أن ايران هي الراعي الأساسي للمقاومين على أرض قطاع غزة إلا أنها لم تتورط حتى الآن في سياسة المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة بل تكتفي بتبني موقف واحد ينص على أنها لا تتدخل في أي قرار تتخذه القوى الحليفة لها في المنطقة

لا شك أن مساعي طهران وواشنطن تتمحور حول كيفية الحفاظ على المسار الديبلوماسي نتيجة إدراك الطرفين أن المسار الآخر سوف يكون أسوأ بكثير للطرفين، برغم أن الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إعتبر في خطابه الأخير أن التزام طهران بالقضية الفلسطينية ودعمها للشعب الفلسطيني من التعاليم الراسخة والثابتة في الجمهورية الإسلامية الايرانية، إلا أن هذه المبدئية لا تتنافى مع تبني التيار المحافظ سياسة خارجية واقعية قوامها عدم تورط طهران في أي صراع خارجي مخافة أن يؤدي ذلك إلى تفاقم الأزمات الإقتصادية والتأثير ليس فقط على لقمة عيش المواطن الإيراني، بل على أصل النظام.

لكن هذا الحذر لن يُجدي نفعاً إلى ما لا نهاية خاصة إذا عرفنا أن شعلة الحرب عادة ما تندلع نتيجة حادث غير متوقع، فتبادل التهديدات بين ايران وأمريكا على خلفية الأحداث العسكرية التي وقعت في البحر الأحمر ومضيق باب المندب الاستراتيجي؛ استهداف القواعد الأمريكية في شرقي سوريا وشمالي العراق وتصويب الكونغرس الأمريكي على قانون حجز الأموال الايرانية في أمريكا وقطر بالتزامن مع اشتداد وتيرة الحرب في قطاع غزة، كل هذه العوامل قد تؤدي إلى حادث غير مرغوب يسعى الطرفان إلى تجنبه، لذا، يجب أن نراقب الأوضاع لنعرف هل أن زمام الأمور سيبقى، كما في السابق، ممسوكاً بيد كل من واشنطن وطهران أم أن الأحداث المتسارعة سوف تدفع الطرفين رغماً عنهما نحو الخيار المُدمر؟

إقرأ على موقع 180  أولى الأولويات وقف العدوان الإسرائيلي بضمانات دولية

التهديد الأخير على لسان قائد القوات الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط لطهران فيما يتعلق باستهداف الجيش اليمني لحاملة الطائرات الأمريكية في البحر الأحمر واحتجاز السفن الاسرائيلية في مضيق باب المندب وضعه المراقبون في خانة ملامسة الخط الأحمر الذي يسعى الطرفان لعدم تجاوزه دائماً، كما أن الرد الإيراني الذي إعتبر أن أي خطوة أمريكية لن تبقى من دون رد مناسب أيضاً جاء مختلفاً عن المواقف السابقة لطهران، لكن هذا الجو المتشنج ومحاولة اللعب على حافة الهاوية ليس بالأمر الجديد بين طهران وواشنطن.

قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول، تبنت طهران وواشنطن ديبلوماسية مشتركة بعيداً عن الإعلام والضوضاء أثمرت إتفاقاً غير معلن تم بموجبه الإفراج عن مليارات الدولارات الايرانية المجمدة في البنوك الخارجية ما رسم ملامح حقبة جديدة من خفض التصعيد بين ايران وأمريكا.

غير أن عملية “طوفان الأقصى” التي باغتت اسرائيل وأمريكا والعالم كانت كفيلة بأن تجعل حكومة نتنياهو تتلقف الفرصة لكي تشن حربها المستمرة بهدف استعادة مكانتها وإعادة العلاقات الايرانية الأمريكية إلى ما قبل إتفاقية عُمان غير المعلن عنها، إلا أن تأكيد أمريكا عدم رغبتها في توسيع نطاق الحرب وتأكيد طهران أنها لم تكن شريكة في قرار عملية “حماس، إنما يؤشر بوضوح إلى أن الطرفين لا يرغبان في مغادرة مسار إتفاق خفض التصعيد والتوتر الذي رُسمت معالمه في سلطنة عُمان.

وإنطلاقاً مما سبق يمكن القول إن السياسة الخارجية للحكومة الايرانية الحالية هي نقطة التلاقي المشتركة بين المنظرين الاصلاحيين والمعتدلين والمحافظين المعتدلين الذين يسيطرون على الأكثرية في حكومة ابراهيم رئيسي؛ هذه السياسة بقدر ما هي واقعية بقدر ما تساهم في الحفاظ على المصالح الوطنية، وبقدر ما حافظت على سياسة دعم قوى المقاومة الحليفة لايران في مواجهتها مع أمريكا واسرائيل بقدر ما تُجنب طهران تكبد خسائر ضخمة.

Print Friendly, PDF & Email
طهران ـ علي منتظري

كاتب وصحافي ايراني مقيم في طهران

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  الفرصة الفلسطينية لا يجب تفويتها.. عربياً