يعود الكاتب رونين بيرغمان إلى تاريخ 13 أذار/مارس 1978 (قبل قرابة سنة من انتصار الثورة الإيرانية) فيقول في هذا التاريخ “أقلعت طائرة فخمة خاصة في مهمة سرية من مطار طهران وعلى متنها رجلان قلقان هما اوري لوبراني، سفير “إسرائيل” في إيران، وروفين ميرهاف، رئيس محطة “الموساد” في إيران. كان الرجلان في طريقهما للقاء الشاه محمد رضا بهلوي في مكان تمضية إجازته في جزيرة كيش التي تبعد حوالي عشرة اميال عن الشاطئ الإيراني في خليج فارس.
كان الشاه حاكما مطلق الصلاحيات لا يرحم. طاغية يعاني من جنون العظمة. كان يريد ان يحوّل بلاده بسرعة الى بلاد “أكثر تطورا من فرنسا”، فاستثمر عائدات إيران الضخمة من النفط لبناء جيش قوي وبنى تحتية متطورة واقتصاد حديث وفرض عملية متسارعة لتحويل شعبه الى النمط الغربي، وهو الامر الذي لم يتقبله الكثير منهم بدءا من تجار البازار الكبير في طهران وصولا الى رجال الدين المسلمين الذين وجدوا في ذلك استفزازا وضررا كبيرين. لكن اعتراضاتهم لم تعد الشاه الى ارض الواقع، بل على العكس، فقد امر الجيش والاستخبارات السرية “سافاك” بقمع المعارضة بقوة وبقبضة حديدية”.
يتابع بيرغمان، “لقد كانت السياسة الخارجية للشاه تستند إلى الروابط السياسية والعسكرية والمدنية مع الولايات المتحدة، كما أنه شكّل تحالفاً استخبارياً عميقاً مع “إسرائيل”، وهذا ما أدى الى حيازته كميات هائلة من السلاح والمعدات من “الدولة اليهودية” وذلك مقابل النفط والمال، كما انه سمح لـ”الإسرائيليين” ان يطلقوا من الأراضي الإيرانية العديد من العمليات ضد الدول العربية. لقد كان لاضطراب لوبراني وميرهاف سبب وجيه، ففي حين كانت الروابط بين إيران من جهة والولايات المتحدة و”إسرائيل” من جهة ثانية اقوى من أي وقت مضى، كان حكم الشاه لبلاده يتهاوى، وكانت التظاهرات ضده تتنامى اكثر فاكثر يومياً والاحتجاجات من كل القوى في البلاد – التجار والشيوعيين والقوى اليمينية والإسلاميين – تزداد قوة، وكان البيت الأبيض الذي اعتاد ان يغض الطرف عن خروقات الشاه لحقوق الانسان قد اصبح الان تحت سلطة الرئيس الليبرالي جيمي كارتر الذي كان قد بدأ يزيد التعبير عن عدم ارتياحه لاستخدام القوة ضد المتظاهرين، ما أدى الى تردد الشاه في نشر الجيش بمواجهة المحتجين”.
يواصل بيرغمان روايته: “العائلة الإيرانية المالكة والقيادات العليا في البلاد لم تكن تكترث لمراقبة النمط الباذخ من العيش الذي كانت فيه، وما ان حطت طائرة الوفد “الإسرائيلي” في جزيرة كيش حتى شاهد لوبراني وميرهاف ذلك بأم العين، فقد كانت الجزيرة مقر الاقامة المفضل للشاه ومقر ادارته للبلاد في أوقات كثيرة من السنة”، وينقل بيرغمان عن ميرهاف قوله عن الجزيرة “لقد كانت مكان الترفيه لعلية القوم وكانت شواهد الفساد المذهل في كل مكان فيها، لقد صدمنا بأجواء اللذة الطاغية وبالإسراف”. لقد اتى “الإسرائيليان” الى كيش للقاء الشاه ومستشاريه المقربين من اجل تقييم قوة النظام في مواجهة المعارضة المتنامية، وما زاد من قلقهما هو حقيقة ان العناصر الشيعية المتطرفة ارتبطت بمثيلاتها في لبنان وبدأت التدريبات في مخيمات أقامها (الزعيم الفلسطيني) ياسر عرفات، وينقل الكاتب عن ميرهاف قوله “هذا الخليط بين ما كان يعتبر القوة الإرهابية الرئيسية ضدنا – منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة عرفات ـ والمتطرفين الشيعة بدا لنا انه يملك إمكانية التحول الى خطر جدي علينا”.
ويقول الكاتب ان أبرز قائد في المعارضة الدينية كان روح الله الخميني الذي كان يرث لقب “سيد” الذي يستخدم فقط لأولئك الذين يتحدرون من نسل النبي محمد، وكان قد نال اعلى رتبة يحصل عليها رجال الدين الشيعة وهي “اية الله العظمى”، وعندما كان الخميني شابا يعيش في بلدة عائلته خمين كان يعرف عنه بانه واعظ وخبير متعمق في تعقيدات الأمور الايمانية لكنه يفتقد للكاريزما في فن الخطابة. ومع ذلك في العام 1962 حين كان في عمر الستين سنة، تغير الخميني جذريا، فبعد فترة من العزلة خرج من غرفة نومه مقتنعا ان الملاك جبرائيل، المبعوث الخاص لله، قد زاره وأخبره ان الله قد حدّد له مصيرا يتضمن أشياء عظيمة.
يقول الفر إنه “بعد الاجتماع بأشهر قليلة، عرفت من هو الخميني وانا اسف جدا للقرار الذي اتخذ، فلو قتل “الموساد” الخميني، بحسب الفر، لكان التاريخ سار باتجاه مغاير”
لإتمام مهمته، يقول بيرغمان، “تحوّل الخميني فعلياً فتخلى عن الأسلوب المعقد الذي كان يعتمده في أحاديثه الى الأسلوب البسيط، ولم يعد يستخدم اكثر من الفي كلمة، ويعيد ويكرر مرارا وتكرار بضعة جمل بحيث أصبحت تلك الجمل اشبه بالتعاويذ ومنها العبارة المفضلة لديه (الإسلام هو الحل)، واخذ يصوّر العالم على انه صدام بين الخير والشر، ويجب اقتلاع الشر من جذوره وتدميره وهذا الواجب يقع على عاتق أصحاب الخير الذين كانوا يتألفون من القضاة والجلادين، وقد وجد اتباعه في ذلك امرا مقنعا ولا سيما الفقراء منهم. في ما بعد، أعاد الخميني تصوير الإسلام الشيعي ليتناسب مع الدور القيادي الذي رسمه لنفسه، فهزّ الأسس التي كانت قائمة للفصل بين السلطة الدينية والسلطة المدنية التي كانت دائما تسود في الامبراطوريات الإسلامية، وأعلن انه لم يعد هناك من حاجة لملك بمستشارين من العلماء (رجال الدين) فالسلطة يجب ان تكون في يد العلماء انفسهم وان كل الأنظمة الملكية والأنظمة الإسلامية التي لم تكن في ظاهرها دينية – مثل قادة مصر وسوريا والسعودية وإيران – كانوا غير شرعيين ويجب الإطاحة بهم بموجب فتواه الإسلام هو الحل”.
ويتابع الكاتب بيرغمان ان موقف الخميني من الشهادة (الاستشهاد) أيضا “وضع ليخدم التحضير لامتلاكه السلطة، فقد شرح لأنصاره ذلك بالقول ان اقصى عقوبة تستخدمها الدولة ضدهم كانت قدرتها على قتل الناس، فبإسقاط وصف العقوبة عن عملية القتل وتحويلها الى مكافأة منشودة تنتزع من السلطة مصدر قوتها فكتب الخميني “ارجوكم اقتلونا لأننا نحن أيضا سنقتلكم”، وأعطى تعليماته للعائلات المنكوبة باستشهاد أبنائها واقاربهم بان يقيموا الاحتفالات الفرحة لتكريم أولادهم الشهداء في الحرب المقدسة في إيران. وكانت الخطوة التالية للخميني هي تحطيم تقليد مهم في النظرية الشيعية فقد سمح لأنصاره – بل شجعهم – ان ينادوه بـ”الامام” وهو تعبير تقليدي شيعي يقارب الى حد ما المضمون المسيحي-اليهودي لفكرة المسيح الذي يكون ظهوره إشارة لعلامات القيامة. وفي العام 1963 بعد وقت قصير من تكوين عقيدته، أطلق الخميني من مدينة قم، أقدس المدن الإيرانية، حملة مفتوحة ضد الشاه، ولم يجرؤ الأخير على قتله وبدلاً من ذلك نفاه خارج البلاد، فاتخذ الخميني ملجأ له في تركيا ومن ثم العراق وانتهى به الامر في فرنسا. هناك اخذت الدروس التي كان يلقيها تستقطب المزيد من التلامذة، وفي السبعينيات (من القرن الماضي) أصبح، وعن بعد، القائد الأكثر قوة بين معارضي الشاه. وفي الوقت الذي اتى فيه لوبراني وميرهاف للقاء الشاه في كيش، كان الخميني قد أرسل طوفا من اشرطة التسجيل الصوتي قدرت بـ 600 ألف شريط تتضمن خطبه، واخذ الملايين يستمعون اليها في المساجد والأسواق والمناطق الريفية وحتى في المكاتب الحكومية – سرا ـ لقد كانوا يسمعونه يقول أشياء مثل “هذا الشاه الحقير، هذا الجاسوس اليهودي، هذا الافعى الاميركية يجب ان يُسحق راسه بالحجارة، يقول انه يهب الشعب الحرية، اصغ الي أيها العلجوم المنتفخ، من انت لتهب الحرية؟ ان الله هو من يهب الحرية، القانون هو من يهب الحرية، الإسلام هو من يهب الحرية، الدستور هو من يهب الحرية. ماذا تعني عندما تقول إنك تهبنا الحرية؟ من اعطاك القدرة ان تهب أي شيء؟ من تعتقد نفسك؟”. وكانت عمليات توزيع اشرطة التسجيل تجري تحت الاعين الساهرة لجهاز “السافاك” بعدما طلب مسؤولوه من الشاه السماح لهم بمداهمة مراكز توزيع الأشرطة لكن طلبهم رفض بسبب الضغط الذي كان يمارسه الرئيس الأميركي كارتر لمنع خرق حقوق الانسان وبسبب الضعف وعدم الوضوح في الرؤية عند الشاه الذي كان يعاني من مرض السرطان ويتلقى العلاج، ولم يعلم حينها لوبراني وميرهاف بمرض الشاه الذي ابقي سراً”.
تقدم بختيار إلى رئيس محطة “الموساد” الجديد في طهران اليعازر تسافرير بطلب مباشر: هل يمكن من فضلكم ان يتولى “الموساد” قتل الخميني في الضاحية الباريسية التي يعيش فيها؟ على الفور دعا إسحاق هوفي رئيس “الموساد” حينها لاجتماع طارئ وسأل “في حال تنفيذ العملية ما هي المنافع التي ستحصدها “إسرائيل”؟
يقول بيرغمان “لم يُسمح الا للوبراني بلقاء الشاه الذي إستقبله بحرارة، ولكن السفير (لوبراني) عرف ان الحديث لن يقود الى شيء وقد غادر الغرفة المزركشة بالذهب وهو في مزاج سيء وأخبر ميرهاف بعدها “ان الشاه منفصل عن الواقع ويعيش في عالمه الخاص وهو عالم الأوهام، ومحاط بمجموعة من المتملقين الذين لا يخبرونه الحقيقة عن وضع البلاد”. توصل ميرهاف الى الاستنتاج نفسه بعد ان التقى برؤساء الأجهزة الاستخبارية الإيرانية. وبعد هذه الزيارة بوقت قصير، أرسل الرجلان تحذيرا للأجهزة الاستخبارية “الإسرائيلية” يفيد ان حكم الشاه يتهاوى والتحالف النادر بين المعارضين العلمانيين والدينيين لنظامه الى جانب الفساد الضارب في البلاد ونسيان العالم الخارجي للشاه، كل ذلك كان بمثابة مقدمات واضحة للإطاحة بحكم عائلة بهلوي. لكن هذا التحذير لم يلقَ اية آذان صاغية وكانت القناعة راسخة في وزارة الخارجية “الإسرائيلية” وفي “الموساد” وفي الـ”سي أي ايه” ان المسؤولين “الإسرائيليين” ميرهاف ولوبراني مخطئان في تقديرهما وان نظام الشاه قوي وراسخ وان إيران ستبقى حليفة لـ”إسرائيل” وامريكا الى الابد. لقد كان ذلك خطأ مميتا لان الخميني ومن مقره الباريسي كان يوجه جماهير المتظاهرين بالآلاف ومن ثم بعشرات الآلاف وبعدها بمئات الآلاف في كل المدن الإيرانية”.
يتابع بيرغمان، “في 16 يناير/كانون الثاني عام 1979 قرر الشاه المريض والمنهك انه من دون الدعم الأميركي من الأفضل له ان يحزم حقائبه ويرحل. فاخذ صندوقا صغيرا يحتوي القليل من التراب الإيراني واستقل مع زوجته ومجموعة من مساعديه الطائرة متوجها الى مصر. في اليوم التالي، توجه شاهبور بختيار رئيس الحكومة العلماني (عيّنه الشاه) إلى رئيس محطة “الموساد” الجديد في طهران اليعازر تسافرير بطلب مباشر: هل يمكن من فضلكم ان يتولى “الموساد” قتل الخميني في الضاحية الباريسية التي يعيش فيها؟ على الفور دعا إسحاق هوفي رئيس “الموساد” حينها لاجتماع طارئ لكبار مساعديه في مقر القيادة على بوليفار الملك شاوول في تل ابيب للتداول بالموضوع. في حال تنفيذ العملية، ما هي المنافع التي ستحصدها “إسرائيل”، فجهاز “السافاك” سيكون مديناً لـ”الإسرائيليين” بالكثير، ومن شأن هذه العملية أيضا ان تغير مجرى التاريخ وان تمنع الخميني الذي كان قد أوضح رؤيته المعادية لـ”إسرائيل” واليهود في حال توليه السلطة في إيران. ناقش المجتمعون عدة نقاط: أولاً، هل قتل الخميني ممكن من الناحية العملية؟ هل الخميني يشكل خطراً جدياً؟ إذا كان كذلك هل “إسرائيل” جاهزة للمخاطرة بتصفية اعلى رجل دين؟ وان تفعل ذلك على الأراضي الفرنسية”؟
ردا على ذلك، يقول الكاتب بيرغمان، “قال ممثل رئيس وحدة “قيساريا” المتخصصة بعمليات الاغتيال مايك هراري انه من الناحية العملية لم يكن قتل الخميني عملا صعبا او معقدا، ولكن بطبيعة الحال مثل اي عملية مماثلة خاصة يُعمل عليها في وقت ضيق ومحدود، يمكن للأمور ان تتجه بمنحى خاطئ. فيما قال أحد مسؤولي الأقسام الذي خدم في إيران “دعوا الخميني يعود لإيران فلن يعيش طويلا. الجيش والسافاك سيتولون امر أنصاره المتظاهرين في الشوارع والمدن، فهو يمثل ماضي إيران وليس مستقبلها”. وكان ميل هوفي واضح لجهة رفض طلب بختيار “لأسباب مبدئية، فهو كان يعارض استخدام عمليات الاغتيال ضد القادة السياسيين”. اما يوسي الفر المحلل والباحث الرئيسي الذي كان يتولى الملف الإيراني، فقد قال في الاجتماع “ليس لدينا معلومات كافية عن مواقف الخميني وعن فرصه في تحقيقها، لذلك لا يمكن ان احدد بدقة ان كان يشكل خطرا مبررا لاغتياله”. وافق هوفي على رأي الفر وأمر ان يتولى تسافرير إعطاء بختيار الرد السلبي لطلبه. في عودة الى الوراء، قال الفر “بعد الاجتماع بأشهر قليلة، عرفت من هو الخميني وانا اسف جدا” للقرار الذي اتخذ، فلو قتل “الموساد” الخميني، بحسب الفر، لكان التاريخ سار باتجاه مغاير”.