«على مدى سنوات طويلة عكفت الاستخبارات الإسرائيلية وعدد من أجهزة الاستخبارات الغربية على ترجمة مقالاته لوضعها على طاولة صانع القرار صبيحة كل جمعة، فور خروج الجريدة إلى منافذ التوزيع» ــ حسب دراسة إسرائيلية.
مال الأرشيف المعلن إلى إبداء قدر كبير من الإعجاب بكفاءته المهنية، فهو «رئيس تحرير أسطورى»، لكنه «الروح الشريرة ضدنا التى تحوم حتى اليوم فى كل طابق من طوابق الأهرام الثلاثة عشر» بتعبير «سيمدار بيرى» محررة الشئون العربية فى «يديعوت آحرونوت» ــ خريف (2009).
أية نظرة على ما كتبه الأستاذ «محمد حسنين هيكل» قبل زيارة «أنور السادات» للقدس وبعدها، قبل حرب أكتوبر وبعدها، تلمح دون عناء إلى أن قضيته الأولى هى الأمن القومى.
«إن دولة تقيم وجودها وتؤكد أمنها بالتضاد مع الجغرافيا والتاريخ من الطبيعى أن تستحوذ أدوات القوة والعمل السرى صدارة أولوياتها، وهى هنا الجيش الإسرائيلى و”الموساد” وجهاز الأمن الداخلى» ــ كما قال وأكد دوما.
حسب قراءة «أمير أورين» الصحفى الإسرائيلى فى جريدة «هآرتس»، وهو بالتخصص خبير فى الشئون الدفاعية والاستخبارية لوثائق جرى الكشف عنها قبل أسابيع قليلة فإننا أمام محاولة فاشلة للوصول إلى «هيكل».
بطبيعة وظيفته فهو على صلة وثيقة بـ«الموساد»، وما كتبه خضع للمراجعة حتى يأخذ التأثير مداه، من أنه يمكن الوصول إلى حيث لا يتوقع أحد، أو يخطر له على بال.
أخذ «الموساد» يبحث ويتقصى إذا كان ممكنا أن يوافق «هيكل» على لقاء مسئولين إسرائيليين على هامش زيارة «عبدالناصر» الوحيدة إلى نيويورك لحضور اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة فى أيلول/ سبتمبر (1960).
«وضع خطة مفصلة لإقناعه بلقاء مسئولين إسرائيليين، أو حتى زيارة إسرائيل».
كان المسئول المقترح: «موشى ديان وزير الدفاع الإسرائيلى فيما بعد»!
باعتراف «أورين»: «عند استعراض كتابات هيكل ومحاضراته من الصعب تصديق أن تحويله لعميل استخبارات إسرائيلية كان مطروحا على الإطلاق».
بجملة واحدة نسف التقرير كله.
«لقد كان وطنيا شرسا، مستاء من قوة إسرائيل المتنامية، ولم يكن من النوع الذى يغريه المال، ولا شىء فى حياته يوحى بإمكانية ابتزازه للتعاون مع الموساد».
لم يستبن فى القصة الإسرائيلية الهدف النهائى منها وبدا فى بنائها ارتباكا وتهافتا.
حاول الصحفى الإسرائيلى ملء فراغات الرواية باستنتاج أن «الموساد» ربما فكر فى تجنيده، أو استخدامه للتأثير على سياسة القاهرة تجاه إسرائيل، أو على الأقل تغيير مسار الرأى العام المعادى لتل أبيب.
كان مستلفتا الزج باسمين كبيرين، أحدهما أمريكى والآخر مصرى.
الأول: الصحفى الشهير «روبرت سانت جون»، الذى حاور «عبدالناصر» دون أن يكون واضحا أنه قبل مفاتحة صديقه «هيكل».. لماذا تحلل من المهمة إذا ما كان قد قبلها بذريعة أن صديقه غادر نيويورك؟.. كأن اللقاء بينهما لم يكن ممكنا إلا فى هذه المدينة دون غيرها!
والثانى: وزير الداخلية الأسبق «اللواء ممدوح سالم» بعد أحداث أيار/ مايو (1971) قبل أن يعيّنه الرئيس «أنور السادات» رئيسا للوزراء منتصف سبعينيات القرن الماضى دون أي إشارة لما جرى فعلا حتى تكون الرواية شبه متماسكة.
بين عامى (1960) و(1967) كان «ممدوح سالم» مسئولا عن الأمن الشخصى للرئيس (عبدالناصر)، فإذا ما كان عميلا لـ«الموساد» فالأولى أن يطلب منه الضلوع بأي خطة لاغتيال الرئيس، لا التورط فى مفاتحة أحد أقرب أصدقائه فى أمر باليقين سوف يفضى به إلى المشنقة.
الوثائق الإسرائيلية، لا تقول شيئا يعتد به، مجرد تفكير من ضباط “الموساد” للاقتراب من «هيكل» لمعرفة كيف كان يفكر «عبدالناصر».
من المستلفت أن بعض عبارات الوثيقة الاستخباراتية تكاد تشبه إلى حد كبير بعض ما نشر عن «هيكل» فى الصحافة العبرية على مدى عقود، كأنه عقدة مستحكمة.
وقد استعادت دراسة إسرائيلية عن ظاهرة «هيكل» ودوره فى الصراع العربى ــ الإسرائيلى ما كتبه قبل حرب (١٩٦٧) مباشرة:
«ليست هى مسألة خليج العقبة إذن ولكنها مسألة أكبر. هى فلسفة الأمن الإسرائيلى كله.. الفلسفة التى ارتكز عليها الوجود الإسرائيلى كله منذ نشأ، ويرتكز عليها فى المستقبل. من هنا أقول: إسرائيل لا بد لها أن تلجأ إلى السلاح».
حسب نفس الدراسة فهو: «من بلور الرؤية العربية تجاه إسرائيل وصاغ الخطاب العربى، الذى امتد أثره حتى الآن وأكسبه عمقا ثقافيا ومعرفيا».
تلك الدراسة كتبها البروفسير «يو حاى بر سيلاع» المتخصص فى الشئون العربية والأفريقية.
وقد نشرت بدورية «أمجو» البحثية، التى ظهرت فى آب/ أغسطس (٢٠٠٣) بعد احتلال العراق.
تولى ترجمتها لـ«العربى» الدكتور «محمد عبود» أستاذ العبرية فى جامعة عين شمس، وأرسلت نسخة من الأصل العبرى إلى الأستاذ «هيكل».
فى الكلام عن الصراع العربى ــ الإسرائيلى ودور «محمد حسنين هيكل» نزعتان متناقضتان ــ إسرائيل مهددة وهزيمتها غير ممكنة.
«أثبتت حرب أكتوبر، فيما بعد، للجميع أنه حتى فى ظل وجود شروط التطور المثلى فى كفة الميزان العربية فإنه ليس بالإمكان هزيمة إسرائيل من جراء الفجوات الفاصلة بين إسرائيل وجيرانها، التى تواصل الاتساع والتضخم مع مرور السنين».
هكذا بالنص نزعت الدراسة الإسرائيلية عن العرب أى فرصة لأى نصر، لا فى الماضى ولا المستقبل، على عكس ما روّج له «هيكل» من أن النصر ممكن.
لا يخفى الباحث الأكاديمى الإسرائيلى إعجابه البالغ بقدراته الاستثنائية، فهو «صانع سياسات من طراز خاص» و«رئيس تحرير أسطورى».. وقد «كانت الأهرام تحت قيادته أهم جريدة فى العالم العربى والوحيدة التى يتابعها العالم كله باهتمام بالغ».
كما أنه «قصة نجاح ماثلة فى الأذهان»، و«علاقته مع عبدالناصر تجاوزت بكثير مجرد صداقة وطيدة بين صحفى وزعيم سياسى»، «ومهارته المهنية الهائلة فى فن الكتابة الصحفية أكسبته قوة استثنائية لدى الجمهور العربى، فكل ما يكتبه، كأنما قاله عبدالناصر بنفسه».
بنص ما نقله عن «هيكل»: «العدو الإسرائيلى، على الرغم من قدرته على استغلال ما يتاح له من إمكانيات، فإنه لا يلقى الرعب فى النفوس وقدراته لا تخرج عن الإطار العادى. وإلحاق الهزيمة الكاملة به أمر ممكن».
كانت تلك المعانى باتساع نظرتها للحقائق لافتة للباحثين الإسرائيليين.
بمزيج من الإعجاب البالغ والنقد اللاذع تابع الأكاديمى الإسرائيلى «يو حاى بر سيلاع» تعقب سيرة حياته وقصته مع القضية الفلسطينية.
«هو الرجل الذى دعا الجمهور العربى عام (١٩٦٤) إلى اعتبار القضية الفلسطينية قضية مصيرية وفق النقاط التالية:
أ ـ إسرائيل تمثل قاعدة عدوانية فى خدمة الإمبريالية الغربية.
ب ـ إسرائيل هى العقبة الكئود فى وجه الوحدة العربية.
جـ ـ لدى إسرائيل مطامع فى التوسع والتمدد على حساب القوى العربية والإنسان العربى».
.. وعندما بدأت تخرج إلى العلن بعد عامين على حرب (١٩٦٧) دعوات لمفاوضات تسوية للصراع تقدمت إسرائيل بمطلبها الذى تصفه دائما بالطبيعى: «إقرار حدود آمنة ومعترف بها للحيلولة دون تكرار ما تعرضت له من تهديدات إبان حرب ١٩٦٧».
نسبت الدراسة إلى «هيكل» صياغته للموقف المصرى على النحو التالى: «الحدود الآمنة والمعترف بها لإسرائيل فى رأينا هى كنيس يهودى واحد فى تل أبيب وعشرة أمتار من حوله».
كشأن الأغلبية الساحقة من الدراسات الإسرائيلية هناك ادعاء لا يوجد نص واحد يؤكده من أن «عبدالناصر» دعا لإبادة إسرائيل و«هيكل» مضى خلفه.
لم يكن زواج «المدح» و«القدح» فى وصف ظاهرته السائد دائما، كانت هناك أصوات بالأوساط الأكاديمية تجاهر بكراهيته وترفض أن تذكر «جمال عبدالناصر» بالاسم.
وفق تسجيل صوتى للبروفيسير «أرنون سوفير»، أستاذ الجغرافيا وتاريخ الشرق الأوسط فى جامعة حيفا، سجلته المحررة الفلسطينية «صابرين دياب» ونشر نصه كاملا فى حينه فإن «هيكل مخطط استراتيجى ومحرض عسكرى حاقد على دولة إسرائيل».. «الجميع يعلم أنه من حرض قيادة مصر فى مرحلة تاريخية معينة ضد دولة إسرائيلية ووضع بنفسه سيناريوهات الحرب ووقف وراء القرارات السياسية التى هددت أمن إسرائيل».. «إنه من صاغ الشعارات المتطرفة التى يتغنى بها العرب حتى الآن».. و«الصحفى العربى الوحيد فى القرن العشرين الذى استطاع أن يسهم فى صنع القرار بينما الحاصل اليوم وجود المئات من الصحفيين، الذين يحرضون الشعوب ولا يستطيعون تحريض زعمائهم».
ــ «هل فكرت إسرائيل، التى لا ترحم من يهدد أمنها، فى تصفية محمد حسنين هيكل»؟.
أجاب: «أنا لست جهازا أمنيا حتى أقول إذا ما كان سيصفى أم لا.. لكن كل دولة تحترم نفسها وسيادتها لا ترحم مهددى أمنها وليس فقط دولة إسرائيل».
ربما هناك من حاول أن يصل إليه بالاغتيال فى مرحلة ما، غير أن تلك مسألة تستدعى الوصول إلى الوثائق المخفية لعلها تبوح.
(*) بالتزامن مع “الشروق“