بالنسبة للعديد من الدول الأوروبية، فإن القلق من فقدان الوصول إلى الطاقة الروسية لا يأتي من فراغ. فهذه الدول تستورد أكثر من 40 في المائة من غازها الطبيعي من روسيا، والعديد منها لديه علاقات تجارية واستثمارات كبيرة في الأسواق الروسية. لكن هذا “القلق” لا يؤثر على الجميع بالتساوي. والكرملين سيحاول؛ بلا شك؛ استغلال ذلك لشق وحدة الصف داخل الاتحاد الأوروبي لجهة الموقف من الحرب. فإذا استطاعت موسكو استخدام نفوذها في مجال الطاقة لإقناع ألمانيا أو إيطاليا، على سبيل المثال، بسحب دعمهما للعقوبات، فذلك سيمنحها مخرجاً لتحمل العواقب الاقتصادية.
لكن نجاح إستراتيجية “فرّق تَسُدْ” هذه ليس قدراً محتوماً. فالدول الأوروبية يمكنها أن تواجه روسيا؛ وبشكل فعَّال؛ إذا ما عزمت على محاسبتها باعتبار أن العمليات العسكرية على أوكرانيا غير قانونية. وللقيام بذلك، سيتعين على الاتحاد الأوروبي دعم الأعضاء الأكثر عرضة لما يمكن وصفه بـ”الإبتزاز” الروسي، كما سيتعين عليه إعادة التفكير في هيكل أسواق الطاقة الأوروبية.
الغاز واحدٌ.. والتأثر مختلف
نظرياً، يتمتع الاتحاد الأوروبي بميزة كبيرة في علاقته الاقتصادية مع روسيا، التي تعتمد على الأسواق الأوروبية في أكثر من نصف صادراتها، بينما يرسل الاتحاد الأوروبي خمسة بالمائة فقط من صادراته إلى روسيا. هذا التفاوت يعكس اختلافاً في الحجم، وانكشافاً مختلفاً على التجارة الدولية؛ اقتصاد الاتحاد الأوروبي أكبر بعشر مرات من اقتصاد روسيا. وإندماج روسيا في الاقتصاد العالمي ضعيف. وبرغم الضجة حول التقارب المتزايد مع بكين فستواجه موسكو صعوبة في استبدال العائدات المفقودة من صادراتها إلى أوروبا بإيرادات الأسواق الصينية.
بالمقابل، لا ترسل أي دولة في الاتحاد الأوروبي أكثر من 20 في المائة من صادراتها إلى روسيا. بلغاريا وإستونيا وليتوانيا هي الأكثر عرضة للصدمات التجارية، وصادراتها إلى روسيا لا تمثل سوى 3 – 6 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي. بل أن روسيا أقل أهمية بالنسبة للاقتصادات الكبرى مثل اقتصادات فرنسا وألمانيا وإيطاليا، التي تمثل ما بين 1- 2 بالمائة من إجمالي صادراتها. وبالتالي، فإن أي عقوبات روسية مضادة محتملة تستهدف واردات الاتحاد الأوروبي لن يكون لها سوى آثار هامشية.
لكن الطاقة قصة مختلفة. فلطالما تم الاعتراف بأن الغاز الطبيعي يعتبر أقوى نفوذ اقتصادي لروسيا في أوروبا، ولا يزال كذلك على الرغم من جهود الاتحاد الأوروبي لتقليل اعتماد دوله على الإمدادات الروسية. قد تتفاقم قدرة موسكو على استغلال هذا الاعتماد بسبب التباينات الواسعة بين احتياجات الدول الأعضاء. مثلاً، تستورد بلجيكا وفرنسا وهولندا أقل من عشرة بالمائة من غازها الطبيعي من روسيا، بينما لا تستورد إسبانيا والبرتغال أي شيء. في المقابل، تعتمد ألمانيا على موسكو في حوالي نصف وارداتها من الغاز الطبيعي، وتعتمد إيطاليا على حوالي 40 في المائة. بالنسبة للنمسا والمجر وسلوفينيا وسلوفاكيا، فإن الرقم يقارب 60٪، وبولندا 80٪. وتعتمد بلغاريا على روسيا في كل ما لديها من غاز طبيعي.
هذه التباينات في استهلاك الطاقة هي في صالح موسكو، من منطلق أن الدول الأوروبية الأكثر إعتماداً على الغاز الروسي ليس من صالحها دعم فرض عقوبات أقوى ضد روسيا، خشية أن تنقطع عنها الإمدادات. وقد تفسر هذه المخاوف معارضة كل من ألمانيا وإيطاليا؛ في بادئ الأمر؛ لعزل البنوك الروسية عن نظام “سويفت”.
سيتعين على الاتحاد الأوروبي إعادة هيكلة أسواق الطاقة الأوروبية.. ودعم الأعضاء الأكثر عرضة لما يمكن وصفه بـ”الإبتزاز” الروسي
ومع ذلك، حتى الدول الأوروبية الأكثر قلقاً لديها بدائل لإمدادات الطاقة الروسية. مثلاً، إذا أوقفت موسكو الغاز، يمكن لدول الاتحاد الأوروبي أن تتعاون في ما بينها؛ على الأقل لبعض الوقت. مخازن احتياطي الغاز التجاري في أوروبا ممتلئة بنسبة 30 في المائة تقريباً، وبعض الدول لديها احتياطيات غاز إستراتيجية (على غرار احتياطي البترول الاستراتيجي للولايات المتحدة). من خلال مزيج من عمليات السحب من هذه المخازن، وزيادة واردات الغاز الطبيعي المُسال، والتحكم بالطلب، مثل تقليص الغاز الصناعي، من المرجح أن تصل معظم الدول الأوروبية إلى خريف عام 2022 دون أن تعاني من نقص حاد في الطاقة. لكن دولاً مثل بلغاريا وبولندا، اللتين تعتمدان على الغاز الروسي بشكل كبير، وليس لديهما علاقات جيدة مع جيرانهما، فستضطران لتقليل طلبهما على الغاز بشكل كبير.
ومثل هذه الإجراءات من شأنها أن ترفع أسعار الطاقة في أوروبا إلى أعلى مستوياتها، ما سيؤدي إلى تفاقم الأزمة الجارية بالفعل. في 24 شباط/فبراير وحده؛ وبمجرد أن عبرت القوات الروسية الحدود الأوكرانية؛ ارتفعت أسعار الغاز في جميع أنحاء القارة بنسبة 60 في المائة. والتعافي الاقتصادي من جائحة كورونا الذي شعرت به الدول الأوربية للتو سيخرج عن مساره قريباً، إرتفاع سعر الغاز سيُرتجم زيادات في تكاليف الكهرباء، بالتالي ستزيد نسبة التضخم وتتآكل القوة الشرائية للأفراد وكذلك القدرة التنافسية للشركات.
إدارة الاقتصاد الأوروبي لعدة سنوات بدون الغاز الروسي صعب ومكلف للغاية.. ومستحيل من الناحية المادية
المسألة ليست فقط كيف يمكن اجتياز فصل الشتاء الحالي بدون مزيد من الواردات الروسية. سيكون من الصعب جداً إدارة الاقتصاد الأوروبي لعدة سنوات بدون الغاز الروسي. قد تستطيع بعض الدول زيادة قدرتها الاحتياطية للإستيراد من قطر والولايات المتحدة. وقد يتمكن بعض الحلفاء؛ مثل اليابان وكوريا الجنوبية؛ من تحويل بعض شحنات الغاز البحري الفائضة. لكن استبدال الغاز الروسي بالكامل سيكون أمراً مُكلفاً للغاية، وقد يكون مستحيلاً من الناحية المادية. تقوم أسواق الغاز العالمية وموردو الخطوط، مثل الجزائر والنرويج، بالفعل بالإنتاج والتصدير بكامل طاقتها. علاوة على ذلك، من المحتمل أن تحد العقود طويلة الأجل من حجم الغاز الذي يمكن للشركات إعادة توجيهه إلى أوروبا، حتى مع ارتفاع الأسعار في القارة.
يجب أن يكون التعامل بشكل استباقي مع هذه التحديات على رأس أولويات أوروبا إذا أرادت الإبقاء على العقوبات طويلة الأجل ضد روسيا. والنجاح هنا يتطلب سلسلة من الخيارات السياسية والبيئية والاجتماعية الصعبة. في هولندا، على سبيل المثال، سيؤدي إنتاج الغاز الطبيعي المتزايد إلى زيادة النشاط الزلزالي حول أكبر حقل للغاز في البلاد – وهو عامل دفع أمستردام في السابق للحد من الإنتاج. هل ستقبل الأسر الهولندية ذلك كنتيجة لزيادة الوصول إلى الغاز؟ هل يجب على ألمانيا تشغيل محطاتها النووية لفترة أطول وحتى إعادة تشغيل بعض محطات الفحم الحجري القذرة؟ ما الذي ستستغرقه فرنسا لقبول المزيد من وصلات الغاز والكهرباء عبر جبال البيرينيه – مما يتيح لبقية أوروبا الوصول إلى القدرة الاستيعابية الهائلة لإسبانيا؟ وماذا عن ارتفاع فواتير الطاقة في إيطاليا أو التدفئة في أوروبا الشرقية؟
الحلول تحتاج مدى طويلاً
إذا كان الاتحاد الأوروبي يأمل في الحفاظ على عقوبات جريئة وبعيدة المدى في مواجهة الإجراءات الاقتصادية المضادة الروسية المحتملة، على بروكسل الإستعداد لمعركة طويلة الأمد. ولكي تكون خطواته فعَّالة، فعلى بوتين أن يقلق من أن أوروبا قد تُبقي على العقوبات لعدة سنوات. قد تكون الإجراءات المحدودة زمنياً مؤلمة لفئات معينة من المجتمع الروسي، ولكن من غير المرجح أن تغير حسابات موسكو بشكل أساسي.
وينبغي لأوروبا والولايات المتحدة ألَّا تُقللا من أهمية التحدي المتمثل في الإستمرار في فرض عقوبات واسعة النطاق. على الرغم من أن الدعم السياسي سيكون عالياً إذا ما غزت روسيا كييف، إلا أن تجميد الأصول، واستبعاد روسيا على المدى الطويل من النظام المالي الغربي، وأي إجراءات مضادة من موسكو، ستضر في النهاية بمصالح محددة في جميع أنحاء أوروبا. وإلى جانب التأثير الاقتصادي المباشر على المواطنين الأوروبيين العاديين، فإن الشركات التي تُصدّر إلى روسيا ستتضرر بشدة أيضاً؛ وكذلك البنوك الأكثر تعرضاً للأسواق المالية الروسية. وكلما كانت العقوبات الجديدة أوسع نطاقاً، وطال أمدها، زادت فرص نجاح إستراتيجية “فرِّق تَسُد” الروسية.
ولتجنب هذا الخطر، وضمان وحدة الاتحاد الأوروبي، تحتاج أوروبا إلى تبني استراتيجية طاقة شاملة على مستوى القارة. على سبيل المثال، فإن إعلان وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بربوك في مؤتمر ميونيخ الأمني الأخير عن استعداد برلين لدفع “ثمن اقتصادي باهظ” من أجل السلام في أوكرانيا، أمر مرحب به ولكنه ليس كافياً. بدلاً من ذلك، تحتاج بروكسل إلى نهج منظم لضمان تلبية احتياجات جميع الدول الأعضاء من الطاقة مقابل دعم أقوى للاستجابة الجماعية للاتحاد الأوروبي لروسيا؛ بما في ذلك أولئك الذين أعربوا بالفعل عن مخاوفهم بشأن العقوبات.
قبل كل شيء، يحتاج الاتحاد الأوروبي أولاً إلى إجراء تقييم مفصل لنقاط ضعف دوله أمام الضغوط الروسية. وعلى وجه الخصوص، يتعين على الحكومات فهرسة الخيارات المتاحة لخفض اعتمادها على الغاز الروسي والتعرض للقطاع الخاص للسوق الروسية. ومن خلال القيام بذلك، يمكن للحكومات الوطنية والاتحاد الأوروبي على حد سواء البدء في فهم نقاط الضغط المحتملة التي قد تستخدمها موسكو لتقويض نظام العقوبات الناشئ.
يحتاج الاتحاد الأوروبي إلى الاستعداد لمعركة طويلة
على الرغم من أن القول أسهل بكثير من الفعل، إلا أن الحكومات الأوروبية بحاجة أيضاً إلى تقليل الاعتماد على روسيا في مجال الطاقة.
على المدى القريب، يعني ذلك أن على الدول التي لديها كميات أكبر من الغاز، مثل فرنسا أو هولندا، أن تساعد الدول التي تواجه نقصاً، مثل النمسا وألمانيا. يجب على الدول أيضاً استكشاف عقود جديدة طويلة الأجل مع موردي الغاز لإضافة مرونة إضافية إلى السوق الأوروبية. ستحتاج الحكومات أيضاً إلى تشجيع شركات الغاز على إعادة ملء منشآتها التخزينية خلال فصلي الربيع والصيف، على الرغم من الأسعار المرتفعة تاريخياً.
على المدى الطويل، يجب أن تحفز الأزمة الحالية الدول الأوروبية على تسريع الاستثمار في مصادر الطاقة المتجددة وتقنيات عزل أفضل. على الرغم من أن هذه الإجراءات لن تحل محل الغاز الروسي على المدى القريب، إلا أنها قد تسفر عن نتائج مهمة في غضون خمس إلى عشر سنوات.
لتحقيق أي من هذه الأهداف، والتي ستكون مؤلمة، سيحتاج الاتحاد الأوروبي إلى تطوير صيغة بنَّاءة لتقرير كيفية مساهمة كل دولة في الحل. ستواجه الحكومات الأوروبية سلسلة من التحديات السياسية الصعبة خلال الأشهر العديدة المقبلة، والدعم المتبادل هو السبيل الوحيد للخروج من الأزمة.
وأخيراً، يتعين على الاتحاد الأوروبي أن ينشئ صندوقاً مخصصاً لتعويض بلدان أو مناطق أو قطاعات محددة عن الخسائر المالية الناجمة عن العقوبات. ويمكن لبروكسل أن تنشئ الصندوق بسرعة، باستخدام صندوق التكيف مع العولمة في الاتحاد الأوروبي أو صندوق الاتحاد الأوروبي الانتقالي العادل كنماذج – وكلاهما مصمم للتعامل مع الآثار الخاصة بالمنطقة للعولمة وجهود التخفيف من آثار تغير المناخ. ويمكن أن يبدأ الصندوق بمبلغ 20 مليار يورو سنوياً، يتم تمويله من خلال الاقتراض من الاتحاد الأوروبي. ومن شأن هذه الآلية أن تقلل من مواطن الضعف الوطنية وتساعد أوروبا على الحفاظ على وحدتها السياسية وأهميتها.
يعرف القادة الأوروبيون أن موسكو ستحاول تفتيت وإضعاف استجابة الاتحاد الأوروبي لغزو روسيا لأوكرانيا. يتعين على أوروبا أن ترقى إلى مستوى التحدي وتضع إجابة متماسكة لاستراتيجية بوتين “فرق تسد”. من خلال الخطوات الصحيحة، يمكن لبروكسل تنفيذ مثل هذه الاستراتيجية على الفور وبطريقة مجدية اقتصاديا. لكنها ستحتاج إلى التصرف بسرعة. إذا فشل الاتحاد الأوروبي في القيام بذلك ، فقد يواجه أزمة طاقة متنامية، مما يجعل موسكو أكثر جرأة لتسليح إمدادات الطاقة في العالم.
(*) النص كاملاً بالإنكليزية على موقع “الفورين أفيرز“، أعده كلٌ من: نيكلاس بوتيرز، سيمون تاغليابيترا، غونترام وولف، وجورج زاكمان.