فورين أفيرز: هذا ما يريده بوتين حقاً في أوكرانيا.. وأوروبا

منى فرحمنى فرح29/12/2021
لا تشي تصرفات فلاديمير بوتين إلى نيته غزو أوكرانيا، بل تغيير الوضع السائد في شرق أوروبا منذ ما بعد انتهاء الحرب الباردة، وبالتالي إعادة روسيا جهة فاعلة رئيسية في الأمن الأوروبي. خطة بوتين هي إبقاء "الناتو" خارج أوكرانيا وجورجيا ومولدوفا، وإبقاء الصواريخ الأميركية خارج أوروبا. أهداف تتقاطع مع قرب ترشُح بوتين لانتخابات 2024، بحسب ديمتري ترينين، مدير مركز "كارنيغي" في موسكو في هذا التقرير (*).

مع اقتراب عام 2021 من نهايته، قدمت روسيا للولايات المتحدة قائمة بالمطالب التي قالت إنها “ضرورية” لدرء احتمال نشوب صراع عسكري واسع النطاق في أوكرانيا. وطالبت الحكومة الروسية؛ في مسودتي معاهدتين سُلّمتا (للولايات المتحدة والناتو) إلى دبلوماسي أميركي في موسكو؛ بأن يعلن حلف شمالي الأطلسي (الناتو) وبشكل رسمي، وقف كل خططه للتوسع شرقاً، وتجميد دائم لكل أشكال التوسع في البنية التحتية العسكرية للحلف (مثل القواعد العسكرية ومنظومة الأسلحة البعيدة المدى) داخل أراضي الإتحاد السوفياتي السابق، بالإضافة إلى وقف المساعدات العسكرية الغربية لأوكرانيا، وحظر الصواريخ المتوسطة المدى في أوروبا.

كانت الرسالة واضحة، ومفادها: إذا لم يكن بالإمكان معالجة هذه التهديدات دبلوماسياً، فسيتعين على الكرملين اللجوء إلى العمل العسكري.

كان صُنّاع القرار السياسي الغربي يقولون إن موسكو لا تملك حق النقض (الفيتو) ضد قرارات “الناتو”، وأنه ليس لديها أي سبب لمطالبة الغرب بوقف مد أوكرانيا بالأسلحة. حتى وقت قريب، كانت موسكو موافقة على هذه الشروط على مضض. ومع ذلك، تبدو الآن أنها مصممة على إتخاذ إجراءات مُضادة إذا لم تحصل على ما تريد.. لم يُمنح الغرب سوى شهر واحد فقط للرد على روسيا، الأمر الذي يُعد تحايلاً على إمكانية إجراء محادثات مطولة وغير حاسمة. وقد تم نشر المسودتين بعد تسليمهما مباشرة تقريباً، وهي خطوة تهدف إلى منع واشنطن من تسريب الاقتراح وتدويره.

إذا كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يتصرف كما لو كانت له اليد العُليا في هذه المواجهة، فهذا لأنه هو كذلك بالفعل. ووفقاً لأجهزة المخابرات الأميركية، فإن روسيا لديها ما يقرب من 100 ألف جندي متمركزين عند الحدود الأوكرانية ومدججين بكمية كبيرة من الأسلحة الثقيلة. وقد أدانت الولايات المتحدة؛ ومعها دول أخرى في حلف الناتو؛ تحركات روسيا، لكنها في الوقت نفسه أشارت إلى أنها لن تدافع عن أوكرانيا، وهي ليست بعد عضواً في “الحلف”، واقتصرت تهديداتها بالانتقام بواسطة العقوبات.

لكن مطالب موسكو ربما تكون مجرد بداية وليست إنذاراً نهائياً. فبرغم إصرارها على إبرام معاهدة رسمية مع واشنطن، تدرك الحكومة الروسية؛ بلا أدنى شك؛ أنه بفضل الاستقطاب والجمود، سيكون من المستحيل التصديق على أي معاهدة في مجلس الشيوخ الأميركي. قد تكون الاتفاقية التنفيذية بديلاً أكثر واقعية، لأنها في الأساس اتفاقية بين حكومتين لا يلزم المصادقة عليها وبالتالي لا تتمتع بوضع القانون. ومن المحتمل أيضاً أنه بموجب مثل هذا الاتفاقية، ستتحمل روسيا إلتزامات متبادلة تعالج بعض المخاوف الأميركية من أجل إنشاء ما تسميه “توازن مصالح”.

إذا كان بوتين يتصرف كما لو كان له اليد العُليا، فذلك لأنه كذلك بالفعل

على وجه التحديد، يمكن أن يشعر الكرملين بالرضا إذا وافقت الحكومة الأميركية على تعليق رسمي طويل الأجل لتوسيع “الناتو” وأعلنت إلتزامها بعدم نشر صواريخ متوسطة المدى في أوروبا. وما يمكن أن يهدئ من روع الكرملين كذلك إبرام إتفاق منفصل بين روسيا وحلف الأطلسي من شأنه أن يُقيد حركة القوات العسكرية ويحد من أي نشاط في المناطق التي تلتقي فيها أراضي الطرفين، من بحر البلطيق إلى البحر الأسود.

بالطبع، يبقى السؤال المطروح هو عمَّا إذا كانت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن مستعدة للتعامل بجدية مع روسيا. ستكون هناك معارضة شديدة لأي إتفاق داخل الولايات المتحدة، بسبب الاستقطاب السياسي الداخلي وحقيقة أن إبرام “صفقة” مع بوتين سيُعرض هذه الإدارة لموجة انتقادات لا تنتهي ولإتهامات أقلها “الخضوع لحكم مُستبد”. كذلك ستكون المعارضة شديدة داخل أوروبا أيضاً، حيث سيشعر القادة بأن التسوية التفاوضية بين واشنطن وموسكو تتركهم على الهامش.

هذه كلها قضايا خطيرة. ولكن من الأهمية بمكان أن نلحظ أن بوتين قد عايش أربع موجات من توسع “الناتو”؛ وأنه اضطر أن يقبل إنسحاب واشنطن من المعاهدات التي تحكم الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية والقوات النووية المتوسطة المدى وطائرات المراقبة غير المسلحة. وأوكرانيا بالنسبة للقائد العام الروسي هي الموقف الأخير. وهو يحظى بدعم مؤسساته الأمنية والعسكرية، ولا يواجه أي معارضة داخلية لسياسته الخارجية على الرغم من خوف الجمهور الروسي من اندلاع حرب. والأهم من ذلك كله، أنه (بوتين) لا يستطيع تحمل أن يُرى في مظهر المخدوع. كان بايدن محقاً في عدم رفض مطالب روسيا تماماً وتفضيل المشاركة بدلاً من ذلك.

خطوط بوتين الحمراء

هناك تفاوتٌ كبيرٌ في الأهمية التي يعزوها الغرب وروسيا لأوكرانيا. فقد عرض الغرب بالفعل على اوكرانيا احتمال قبول عضويتها في “الناتو” في عام 2008. ولكن بدون جدول زمني رسمي للتنفيذ. بعد عام 2014، اي بعدما استولت روسيا على شبه جزيرة القرم، وبدأت في دعم المسلحين الموالين لها في منطقة دونباس، أصبح من الصعب رؤية كيف ستسمح الحكومة الأميركية لأوكرانيا بالانضمام إلى “الناتو”. بعد كل شيء، لن يكون هناك دعم شعبي كبير داخل الولايات المتحدة لنشر قوات للقتال من أجل أوكرانيا. واشنطن مُثقلة بوعد لكييف؛ يعرف الجانبان أنه لا يمكن لأي منهما الوفاء به. على النقيض من ذلك، تتعامل روسيا مع أوكرانيا باعتبارها مصلحة حيوية لأمنها القومي وقد أعلنت عن استعدادها لاستخدام القوة العسكرية إذا ما تعرضت تلك المصلحة لأي تهديد. الاستعداد والإلتزام بإرسال قوات عسكرية والقرب الجغرافي يمنحان موسكو ميزة على الولايات المتحدة وحلفائها.

هذا لا يعني أن الغزو الروسي لأوكرانيا وشيكٌ. فعلى الرغم من ميل وسائل الإعلام الغربية إلى تصوير بوتين على أنه متهورٌ، إلا أنه في الحقيقة شخص متحفظٌ وحذرٌ للغاية، لا سيما عندما يتعلق الأمر باستخدام القوة. بوتين لا ينفر من المخاطرة؛ والعمليات التي قادها في الشيشان، ومن ثم في القرم وسوريا دليلٌ على ذلك. لكن في رأيه، يجب أن تفوق الفوائد التكلفة. وبالتالي فهو لن يغزو أوكرانيا فقط بسبب انحياز قادتها للغرب.

ومع ذلك، هناك بعض السيناريوهات التي يمكن أن تحث الكرملين على غزو أوكرانيا. في عام 2018، أوضح بوتين وبشكل علني أن أي محاولة أوكرانية لاستعادة الأراضي في منطقة دونباس بالقوة ستطلق العنان لرد عسكري روسي. هناك أسبقية تاريخية لهذا: في عام 2008، ردَّت روسيا عسكرياً على هجوم جورجيا على جمهورية أوسيتيا الجنوبية الانفصالية. خطٌ أحمرُ روسي آخر هو انضمام أوكرانيا إلى “الناتو” أو وضع قواعد عسكرية غربية وأنظمة أسلحة بعيدة المدى على أراضيها. بوتين لن يتنازل أبداً عن هذه النقطة. ولكن في الوقت الراهن، لا يوجد أي دعم لا من الولايات المتحدة ولا من أعضاء “الناتو” الآخرين يسمح لأوكرانيا بالانضمام إلى “الحلف”. في أوائل كانون الأول/ ديسمبر 2021، أبلغ مسؤولون في وزارة الخارجية الأميركية كييف أنه من غير المرجح أن تتم الموافقة على عضويتها في “الناتو” في العقد المقبل.

بوتين متحفظٌ وحذرٌ، لا سيما عندما يتعلق الأمر باستخدام القوة. وفي رأيه، يجب أن تفوق الفوائد التكلفة

وإذا ما حشد “الناتو” قواته في الدول “الشرقية” العضوة في الحلف، فقد يؤدي ذلك إلى زيادة عسكرة الخط الفاصل الجديد في أوروبا؛ الممتد على طول الحدود الغربية لروسيا وبيلاروسيا. يمكن لروسيا وضع المزيد من الصواريخ قصيرة المدى في كالينينغراد – الجزء غير المتجاور الواقع في أقصى غرب روسيا والذي يقع بين بولندا وليتوانيا. يمكن لتحالف عسكري أوثق مع بيلاروسيا أن يفرض مزيداً من الضغط على أوكرانيا. يمكن لموسكو أيضاً الاعتراف بـ”الجمهوريات الشعبية” في دونيتسك ولوهانسك ودمجها في كيان جيوسياسي جديد مع روسيا وبيلاروسيا.

إقرأ على موقع 180  10 إشارات إيجابية من فيينا.. وطهران وواشنطن!

قد يتردد صدى الآثار الجيوسياسية لهذه التطورات خارج أوروبا. ولمواجهة العقوبات الاقتصادية والمالية الغربية الأكثر صرامة، سواء تحسباً لأي توغل روسي في أوكرانيا أو نتيجة لذلك، فقد تحتاج موسكو إلى الإعتماد على بكين، التي تجد نفسها أيضاً تحت ضغط أميركي متزايد. وبالفعل، فقد بدأ الرئيس بوتين ونظيره الصيني شي جين بينغ مناقشة الآليات المالية لحماية بلديهما من العقوبات الأميركية. في هذه الحالة، فإن زيارة بوتين المقررة إلى بكين (لحضور دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في شباط/ فبراير 2022) قد تتحول إلى أكثر من مجرد زيارة مجاملة. يمكن للولايات المتحدة بعد ذلك أن ترى الوفاق الصيني الروسي يتحول إلى تحالف أكثر قوة. وقد يصل التعاون الاقتصادي والتكنولوجي والمالي والعسكري بين القوتين إلى مستويات جديدة.

لعبة تبادل التهم

باءت جهود الكرملين لإغراء الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لإبرام صفقة بشأن دونباس – بدت واعدة في أواخر عام 2019 – بالفشل. زيلينسكي، الذي فاز بالرئاسة بأغلبية ساحقة كمرشح سلام، هو زعيم غريب الأطوار بشكل استثنائي. أدى قراره باستخدام طائرات بدون طيار مسلحة في دونباس في عام 2021 إلى تصعيد التوترات مع موسكو في وقت لم تكن أوكرانيا قادرة على تحمّل استفزاز جارتها.

لقد فشلت فرنسا وألمانيا في جهودهما الرامية إلى إيجاد حل دبلوماسي للمأزق الروسي – الأوكراني. الأوروبيون، الذين كانوا الطرف “الضامن” لإتفاقية مينسك لعامي 2014 و2015 والتي كان من المفترض أن تجلب السلام في المنطقة، لم ينجحوا في إقناع الأوكرانيين بإبرام اتفاق مع موسكو. كذلك لم يستطع الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير، وزير الخارجية آنذاك، إقناع كييف بقبول حل وسط كان سيسمح بإجراء انتخابات في منطقة دونباس. في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، ذهب الروس إلى حد نشر مراسلات دبلوماسية خاصة بين وزير خارجيتهم، سيرجي لافروف، ونظيريه الفرنسي والألماني لإظهار كيف انحازت القوى الغربية بالكامل لموقف الحكومة الأوكرانية.

وعلى الرغم من أن التركيز في الغرب كان على حشد القوات الروسية بالقرب من الحدود الأوكرانية، فقد جاء ذلك في الوقت الذي وسعت فيه دول “الناتو” أنشطتها العسكرية في منطقة البحر الأسود وفي أوكرانيا. في حزيران/يونيو، أبحرت مُدمرة بريطانية عبر المياه الإقليمية قبالة شبه جزيرة القرم، والتي لا تعترف لندن بأنها تابعة لروسيا، ما دفع الروس لإطلاق النار عليها. في تشرين الثاني/نوفمبر، حلَّقت قاذفة إستراتيجية أميركية على بعد 13 ميلاً من الحدود الروسية في منطقة البحر الأسود، ما أثار حفيظة بوتين.

ومع تصاعد التوترات، تدفق المستشارون العسكريون والمدربون الغربيون مع أسلحتهم وذخيرتهم إلى أوكرانيا. ويشتبه الروس أيضاً في أن مركز التدريب الذي تبنيه بريطانيا داخل الأراضي الأوكرانية هو في الواقع قاعدة عسكرية أجنبية. ويصر بوتين بشكل خاص على عدم التسامح بأي شكل مع الأشكال مع نشر أي نوع من الصواريخ الأميركية في أوكرانيا، خصوصاً تلك الصواريخ التي يُقال أنها يمكن أن تصل إلى موسكو في غضون خمس إلى سبع دقائق.

تهديد بوتين باللجوء إلى القوة أساسه إحباطه من تعثر العملية الدبلوماسية

بالنسبة لروسيا، كانت التهديدات العسكرية المتصاعدة واضحة. قد يؤكد بوتين في مقالاته وخطبه على وحدة الشعبين الروسي والأوكراني، ولكن أكثر ما يهتم به هو منع توسع “الناتو” في أوكرانيا. لنتأمل ما قاله في آذار/مارس 2014 بعد إرسال قوات إلى شبه جزيرة القرم رداً على الإطاحة بالرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش. يومها قال عن القاعدة البحرية الروسية الشهيرة في شبه جزيرة القرم: “ببساطة، لا يمكنني أن أتخيل أننا سنسافر إلى سيفاستوبول لزيارة بحارة ’الناتو’. بالطبع، معظمهم شباب رائعون، ولكن سيكون من الأفضل أن يأتوا هم لزيارتنا ليكونوا ضيوفنا، وليس العكس”.

تشير تصرفات بوتين إلى أن هدفه الحقيقي ليس غزو أوكرانيا وضمها لروسيا، بل هدفه هو تغيير الوضع السائد في شرق أوروبا منذ ما بعد انتهاء الحرب الباردة. والمقصود هنا الوضع الذي ترك روسيا كجهة حاكمة للقواعد دون أن يكون لها رأي أساسي في الأمن الأوروبي الذي لطالما كان يتمحور حول “الناتو”. بوتين يعتقد أنه إذا تمكن من إبقاء “الناتو” خارج أوكرانيا وجورجيا ومولدوفا، وأبقى الصواريخ الأميركية المتوسطة المدى خارج أوروبا، فهو حكماً قادر على إصلاح جزء من الضرر الذي لحق بأمن روسيا بعد انتهاء الحرب الباردة. ليس من قبيل الصدفة أن يكون ذلك بمثابة برنامج انتخابي جيد ومفيد للترشح في عام 2024، عندما يكون بوتين على وشك إعادة انتخابه.

(*) النص الأصلي بالإنكليزية على موقع “الفورين أفيرز

Print Friendly, PDF & Email
منى فرح

صحافية لبنانية

Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  10 إشارات إيجابية من فيينا.. وطهران وواشنطن!