مع إقفال المجلس الدستوري الفرنسي باب تقبل ملفات الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة، وتزامن ذلك مع إعلان الرئيس ايمانويل ماكرون رسمياً ترشحه لولاية جديدة، اكتمل المشهد السياسي وبدأت تتوضح معالم المعركة الانتخابية الرئاسية المقبلة.
ماذا عن “غربال” الخمسمئة توقيع؟
احد ابرز الشروط الالزامية لقبول ملف الترشح، وهو الحصول على توقيع خمسمئة فعالية منتخبة وممثلة للمدن والبلدات والمناطق، لم يكن صعباً لمرشحي الاحزاب التقليدية اليمينية واليسارية المعتدلة. في المقابل، كانت المهمة شاقة لمرشحي اليمين واليسار المتطرفين، ولولا تدخل عدد من الشخصيات السياسية الوازنة (وفي مقدمها رئيس مجلس الشيوخ جيرار لارشيه) وحثها الفعاليات المحلية والبلدية والمناطقية لاعطاء توقيعها حتى لو لم تكن تؤيد الآراء السياسية لهذا المرشح او ذاك، لربما كانت بعض الاسماء البارزة ستغيب من القائمة الرسمية للمرشحين لرئاسة الجمهورية. وقد تمكنت ابرز الوجوه المرشحة من اجتياز هذا الحاجز، والشخصية البارزة الوحيدة التي فشلت في ذلك هي وزيرة العدل السابقة القريبة من اوساط اليسار كريستيان توبيرا التي أعلنت انسحابها من السباق الرئاسي من دون الكشف عن وجهة تصويتها في الاستحقاق الرئاسي المقبل. وقد وصل عدد المرشحين الذين اكتمل ملف ترشحهم الى 11 في انتظار اعلان المجلس الدستوري اسماء اللائحة النهائية والرسمية للمرشحين بداية الاسبوع المقبل.
ماذا عن مسار الحملة الانتخابية؟
في تاريخ الحملات الانتخابية الرئاسية في الجمهورية الخامسة لم تكن مواضيع السياسة الخارجية تلعب دوراً مفصلياً في خيارات الناخبين، حتى انها كانت غائبة تماماً إلا ما يتصل بعلاقة فرنسا بالاتحاد الاوروبي، وذلك لمصلحة المواضيع الاقتصادية والاجتماعية. الا ان الحملة الانتخابية هذه المرة، تقدم فيها العنوان السياسي الخارجي مع الحرب الدائرة بين روسيا واوكرانيا، حيث فرضت “الروزنامة الخارجية” نفسها على “الروزنامة الداخلية”. وقد تصدر الحدث الخارجي اهتمام وسائل الاعلام وترك أثراً بالغاً لدى الرأي العام الفرنسي الذي باتت أنظاره متوجهة الى خارج الحدود مع القلق من خطر تمدد الأعمال الحربية واثرها على استقرار أوروبا وأمنها. وبالتالي غاب النقاش في المواضيع السياسية الداخلية. واللافت للإنتباه ان هذه التطورات سرعان ما بدأت تظهر مفاعيلها على خيار الناخب الفرنسي من خلال استطلاعات الرأي في الايام الاخيرة.
منذ بدء الهجوم الروسي العسكري على اوكرانيا، تحسّن التأييد الشعبي لماكرون في استطلاعات الرأي ليصل إلى ما يتراوح بين 29 إلى 30 بالمئة، أي بتقدم 10 نقاط تقريبًا عن منافسته من اليمين المتطرف مارين لوبن
ماذا عن وضعية المرشحين؟
1-مرشحو اليسار:
فشل مرشحو اليسار المعتدل في استقطاب معارضي سياسة ماكرون والحصول على تأييد الناخب الفرنسي المتململ من توجهات السياسة المتبعة منذ خمس سنوات في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والامنية الداخلية. والسبب الرئيسي لهذا الفشل هو الانقسام الحاد وعدم قدرة هذه الاحزاب في توحيد صفوفها والاتفاق على مرشح وحيد ومشترك يحمل رايتها ويدافع عن خياراتها. واول الخاسرين وابلغهم هي رئيسة بلدية باريس ومرشحة “الحزب الاشتراكي” آن هيدالغو التي لا تتجاوز نسبة التأييد لها 2 بالمئة وفي احسن الاحوال 3 بالمئة مع أن هذا الحزب تمكن في الماضي من ايصال مرشحين اثنين الى قصر الاليزيه هما فرنسوا ميتران وفرنسوا هولاند. حتى ان مرشح “الحزب الشيوعي” فابيان روسيل يتقدم عليها بنسبة تأييد تفوق الـ4 بالمئة. اما مرشح حزب “الخضر” يانيك جادو، فلم يتمكن من اجتذاب الناخب الفرنسي (5 الى 7 بالمئة فقط في استطلاعات الرأي) بالرغم من ان الاهتمام بمشاكل البيئة يتزايد بشكل ملحوظ وخصوصاً وسط الفئات الشابة. مرشح حزب “فرنسا الأبية” جان- لوك ميلونشون اليساري المتشدد هو الوحيد الذي استطاع الحصول على نسبة تأييد مقبولة تتجاوز الـ11 بالمئة ولكن تبقى اقل من النسبة التي حصل عليها في الانتخابات الرئاسية الماضية، كما ان مواقفه المجاملة لسيد الكرملين لم تساعده في المدة الأخيرة.
2-مرشحو اليمين:
لم يتمكن مرشحو اليمين أكان التقليدي المعتدل او المتطرف في حصاد نقمة المعارضين لسياسة الرئيس ماكرون الداخلية، بل على العكس ساهمت التطورات المستجدة على صعيد السياسة الخارجية في تراجع التأييد لهم. لا بل انهمك ممثلا اليمين المتطرف مرشحة حزب “التجمع الوطني” مارين لوبن ومرشح حزب “استعادة” (فرنسا) اريك زمور في تعديل مواقفهما تجاه روسيا بعد شن هجومها العسكري على اوكرانيا. وقد بدا واضحاً الارباك في تراجعها عن سياستهما المتعاطفة مع توجهات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورفض الوقوف خلف الولايات المتحدة والخروج السريع من قيادة حلف شمال الأطلسي.
فقد تغيرت نبرة خطاب مارين لوبن بشكل كامل تجاه روسيا، وهي التي كانت “معجبة” بشخصية بوتين، اذ اضطرت الى القول بأنه “لا يوجد أي سبب يبرر إطلاق روسيا عملية عسكرية ضد أوكرانيا في خطوة تقطع توازن السلام في أوروبا. ويجب التنديد بهذه الخطوة بدون أي غموض”، وهي دعت إلى “سحب القوات الروسية من أوكرانيا”. والجدير بالذكر أن حزب لوبن يدين بالكثير لروسيا. ففي سنة 2014، اقترضت “الجبهة الوطنية” سابقاً و”التجمع الوطني” حالياً مبلغ 9.4 مليون يورو من بنك روسي خاص بعد رفض عدة مصارف فرنسية إقراضها. وفي حوار صحافي حول علاقاتها بروسيا وخصوصاً القرض الروسي، نفت لوبان بشكل قاطع أنها تمثل امتداداً لنفوذ بوتين في فرنسا، حيث قالت “كنت من بين المسؤولين السياسيين القلائل الذين حاولوا البقاء على نفس المسافة من الولايات المتحدة وروسيا.. مجرد البقاء على نفس المسافة بين البلدين يؤدي إلى مثل هذا الاتهام” قبل أن تؤكد وجود مسؤولين سياسيين “تابعين بقوة للموقف الأميركي”.
واريك زمور انقلب موقفه هو الآخر من بوتين، ففي وقت كان قد اعلن بأن “روسيا لن تغزو أوكرانيا” ومندداً بـ”الدعاية” الأميركية، اضطر الى التراجع عن موقفه بالقول “أندد بدون تحفظ بالتدخل العسكري الروسي في أوكرانيا”.
ويمكن تفسير توقعات زمور الخاطئة بالإعجاب الذي يكنه للرئيس الروسي. فقد صرح المرشح اليميني المتطرف في حوار صحافي عام 2018 أنه “يحلم ببوتين فرنسي”!. كما سبق له وقال “أنا مع التحالف الروسي، أعتقد أنه الحلف الأكثر ثقة.. وفلاديمير بوتين وطني روسي ومن حقه الدفاع عن مصالح روسيا”.
وقد أحدثت كل هذه المواقف تراجعاً في نسبة تأييد زمور الذي حل في المركز الرابع بعد ماكرون ولوبن وبيكريس وتراوحت النسبة بين 12 و13 بالمئة. أما لوبن فحافظت على موقعها الثاني في الدورة الاولى مع نسبة تتراوح بين 15 و17 بالمئة.
مرشحة حزب “الجمهوريون” فاليري بيكريس، الحزب اليميني التقليدي المعتدل، لم تتمكن من الاستفادة من تراجع مرشحي اليمين المتطرف، كما لم تستطع تحقيق الخرق المتوقع في شعبية ماكرون ولم تتعدَّ نسبة التأييد لها الـ 13 بالمئة مما قد لا يسمح لها بالانتقال الى الدورة الثانية والنهائية.
3-مرشح اليمين الوسط:
مرشح حزب “الجمهورية الى الأمام” ايمانويل ماكرون يواجه معضلة مزاوجة اعتمار قبعتين في الوقت نفسه: “قبعة الرئيس” و”قبعة المرشح”.
حاول ماكرون البقاء قدر الإمكان وحتى آخر وقت ممكن خارج المعمعة الانتخابية والسجالات بين المرشحين طالما أن الاستطلاعات تعطيه أفضلية، وهو كان يدرك أن مجرد إعلان ترشحه لولاية ثانية يعني نزوله إلى ساحة النقاش حول حصيلة ولايته الرئاسية الاولى لتصبح العنوان الأساسي للحملة وسيكون عندها مضطرا للدفاع عنها. فآثر في مرحلة اولى ترك الآخرين يتنافسون في ما بينهم ويكشفون أوراقهم كلها في وقت أن كل الاستعدادات كانت جاهزة لإطلاق حملته الانتخابية وهو جهد الى توظيف الوقت لنزع الالغام المتعددة أمامها.
وكان الرئيس الفرنسي ينتظر تراجع حدة موجة تفشي فيروس كورونا لتخفيف الضغط عليه بشأن الأزمة الصحية، وفي الوقت نفسه ليتمكن من اتخاذ قرارات مثل وضع نهاية لجواز التلقيح الذي يثير امتعاض الكثيرين. وبالتالي جعل قرارات الحكومة تخفيف القيود تصب في صالح ازالة الانتقادات امامه كمرشح في ما يتعلق بإدارة الأزمة الصحية.
كما ان ماكرون أراد حسم موضوع وجود القوات الفرنسية في مالي واتخاذ قرار انسحابها من هذا البلد الافريقي نظراً لحساسية هذه المشكلة وعلاقتها بملفي الارهاب والهجرة وتداعياتها الداخلية.
تظهر استطلاعات الرأي الأخيرة فوز إيمانويل ماكرون في الدورة الثانية أيضا أياً كان الخصم الذي سيواجهه حتى أفضلهم حظاً مارين لوبن
اضافة الى ذلك، اغتنم ماكرون فرصة تسلم بلاده رئاسة الاتحاد الاوروبي لمدة ستة أشهر وبالتالي السعي لتعزيز دور فرنسا القيادي خصوصاً بعد خروج انغيلا ميركل من الحكم في المانيا. وجاء بروز قضية التوتر في العلاقات الروسية – الاوكرانية مناسبة لتسليط الضوء على التحرك الديبلوماسي الناشط في محاولة لايجاد مخارج لها. حاول ماكرون من خلال كل هذه الحركة اعطاء صورة رجل الدولة ذات الحجم الاوروبي والدولي المسؤول والقول أيضا ان الرئيس لديه اهتمام أكبر بكثير من مسألة انتخابات وحسابات داخلية.
لأجل كل ذلك انتظر ماكرون حتى اللحظة الاخيرة للاعلان رسمياً عن ترشحه لولاية ثانية عبر توجيه “رسالة إلى الفرنسيين” تعهد فيها بالعمل على تعزيز فرنسا وأوروبا في وجه “تراكم الأزمات” واستحداث ما أسماها “استجابة فرنسية وأوروبية فريدة” في مواجهة التحديات.
وبعد ولاية من خمس سنوات طغت عليها قبل الجائحة، أزمات اجتماعية داخلية وتحركات “السترات الصفراء” المطلبية، وعد الرئيس الفرنسي باعتماد طريقة تعامل مختلفة، معترفاً بانه لم ينجح في كل شيء، وقال: “بطبيعة الحال لن أتمكن من تنظيم حملة كما كنت أتمنى بسبب الظروف” في إشارة إلى الحرب في أوكرانيا. ومع أن الرئيس أكد سابقا أن الحملة ستسمح “بنقاش ديموقراطي واسع”، يعرب منافسوه الذين كانوا يستعدون للمواجهة، عن مخاوف متزايدة من أن الحكم على أداء ماكرون وهموم الفرنسيين الرئيسية من قدرة شرائية وصحة وأمن، لن تحظى بأولوية النقاش.
وفي هذا الاطار، تعالت أصوات سياسية كثيرة محذرة من اختصار الحملة الانتخابية والاختباء وراء دخان المعارك في اوكرانيا لحجب المساءلة السياسية الداخلية. وقد حذر رئيس مجلس الشيوخ اليميني جيرار لارشيه من أنه “اذا لم يكن هناك مناقشات، اذا لم يتم تقديم محصلة (للولاية الأولى لماكرون) واذا لم يكن هناك مشروع فلنتخيل اعادة انتخاب رئيس الجمهورية: سيعني ذلك شكلاً من أشكال حجب الحوار الديمقراطي” مع خطر يحيق بـ”شرعية الولاية” الثانية..
وسبق لفاليري بيكريس التي تراجعت في استطلاعات الرأي أن صرحت “ليس لدينا مرشح أمامنا. لا يمكننا انتقاد أداءه. لا نستطيع اقتراح مشروع مضاد. ليس لدينا خصم اليوم. هذا أمر غير مسبوق في ظل الجمهورية الخامسة”.
أما مارين لوبن التي ألحق بها ماكرون هزيمة كبيرة في انتخابات 2017، فقالت “على ماكرون أن يعتمر قبعة المرشح الرئاسي لأنه ينبغي أن يضع حصيلة ما أنجزه أمام الفرنسيين”.
والملاحظ انه منذ بدء الهجوم الروسي العسكري على اوكرانيا، تحسّن التأييد الشعبي لماكرون في استطلاعات الرأي ليصل إلى ما يتراوح بين 29 إلى 30 بالمئة، أي بتقدم 10 نقاط تقريبًا عن منافسته من اليمين المتطرف مارين لوبن زعيمة “التجمع الوطني” التي وسّعت الفرق مع مرشحة اليمين المعتدل فاليري بيكريس وإريك زمور اليميني المتطرف الآخر المثير للجدل. كما تظهر استطلاعات الرأي الأخيرة فوز إيمانويل ماكرون في الدورة الثانية أيضا أياً كان الخصم الذي سيواجهه حتى أفضلهم حظاً مارين لوبن.
صحيح ان ماكرون يحاول ان يقدم نفسه داخلياً كـ”حامي الأمة”، وان التأييد الفرنسي له يزداد شعبياً (وصولاً الى 30 بالمئة في الدورة الأولى) ويتراكم سياسياً (رئيسا الوزراء السابقين اليميني جان – بيار رافارين والاشتراكي مانويل فالس)، وان الوضع الاوروبي المتأزم بفعل الحرب الروسية – الاوكرانية يلعب لمصلحته.
صحيح أيضاً ان كل هذه العوامل من شأنها مضاعفة فرص تجديد ولاية الرئيس الحالي، الا ان الحذر يبقى سيد الموقف حتى موعد فتح صناديق الاقتراع مساء الرابع والعشرين من نيسان/ ابريل المقبل. حتى ان مقربين من حزب ماكرون لا يستبعدوا ان تكون “النتيجة في الدورة الثانية متقاربة اكثر مما يظن البعض”.
فلننتظر.. ويخلق ما لا تعلمون!