لبنان عشية عفو عام عن أبشع جريمة مالية في التاريخ

تحاول حكومة نجيب ميقاتي تجاوز عناوين المحاسبة والمساءلة في خطتها للتعافي الاقتصادي والتصحيح المالي والاصلاح المصرفي. خطة توافقت بشأنها مع صندوق النقد الدولي، على أمل الحصول على تمويل من الصندوق أولاً، ومؤسسات التمويل والدول المانحة تالياً. أما كلفة الانهيار فسيستمر اللبنانيون بدفعها لسنوات طويلة قادمة سواء من ودائعهم المتبخرة أو رواتبهم الهزيلة.

في 15 أيار/مايو المقبل، تُجدد منظومة الأحزاب في لبنان “شرعيتها” عبر الانتخابات النيابية، وتفتح صفحة جديدة أشبه بتلك التي فتحت بعد الحرب الأهلية. ففي بداية تسعينيات القرن الماضي أقر قانون عفو عام عن جرائم الحرب، سمح للميليشيات بدخول السلطة والتمتع بمكاسبها من أوسع الأبواب الشرعية منها وغير الشرعية. أما بعد الانتخابات المقبلة، فجملة قوانين مالية ومصرفية بعناوين إصلاحية ستقر تباعاً خالية من أي محاسبة فعلية. وتؤدي في محصلتها الى عفو عام عن جرائم مالية أودت بنحو 100 مليار دولار من الودائع، على أن يبقى الالتزام برد ربعها رهن سنوات من التقسيط المريح على هدى خطة التعافي وفق المرسوم لها.

صحيح أن الخطة تحدثت عن تدقيق في حسابات مصرف لبنان والمصارف وكهرباء لبنان وتنقية جملة قطاعات اخرى.. لكنها اسقطت الشق الجنائي من التدقيق، لتكتفي بالوقوف عن كثب على حجم الخسائر بشكل دقيق لزوم الرسملة والهيكلة، من دون الغوض بعيداً في المسؤوليات ولا البحث عن المتسببين بتلك الخسائر التي فاق حجمها 300% من الناتج المحلي، وهي نسبة فريدة من نوعها في العالم قياساً بحجم اقتصاد صغير يفتقد الموارد التشغيلية الانتاجية الحقيقية.

***

تلخصت الأزمة الإقتصادية والمالية بالنسبة للحكومة اللبنانية بجملة أسباب أبرزها كلفة تثبيت سعر صرف الليرة وتمويل عجز الموازنة، فضلاً عن اختلالات مالية واقتصادية هيكلية. فلا مسؤول مباشراً عن أسبابها ولا عن تغذية استمرارها وتداعياتها الكارثية.

غاب عن الخطة، على سبيل المثال لا الحصر، تناول مصير الأموال المنهوبة أو تلك المهربة. ولا أثر يذكر لأي ملف من ملفات الفساد والهدر، وآخرها ما نشر الأسبوع الماضي نقلاً عن تقرير لديوان المحاسبة أكد تبديد 6 مليارات دولار في قطاع الاتصالات وحده. تقرير مرّ مرور الكرام في بلد يعيش 80% من سكانه عند حافة الفقر بدرجات متفاوتة وصولاً حتى المدقع.

لبنان مقبل على عفو عام عن أبشع الجرائم المالية المرتكبة في التاريخ الحديث. فمدخرات جيل كامل تبخرت. وليس أكيداً تعويضها في جيل أو جيلين، وربما ثلاثة اذا بقي النظام الطائفي المقيت كما هو

تريد الحكومة القول، ولو بشكل غير مباشر، إن الخسائر ناتجة عن خيارات صوّت عليها الناس في الانتخابات المتتالية منذ التسعينيات الماضية وانتجت برلمانات وحكومات تصرفت بتفويضات. وبالتالي فالمواطنون شركاء في المسؤولية، والافضل في هذه الحالة شرعنة “عفا الله عما مضى”!

وما أضعف الإيمان إلا ضمان رد ودائع حتى 100 ألف دولار، أما الباقي فعرضة للشطب والليلرة الرخيصة والتحويل الى مساهمات وهمية في مصارف مفلسة.

والى جانب الودائع، ستُدفع الأثمان أيضاً من جيوب المواطنين عموماً، أفراداً وشركات، بضرائب ورسوم وزيادة تعرفات الكهرباء والاتصالات وغيرها من القطاعات العامة. على ان تمضي البلاد قدماً نحو توحيد اسعار الصرف قرب المستويات الحالية لسعر “منصة”، مُوّدِعةً سعر الـ 1500 ليرة للدولار الواحد إلى غير رجعة. أما الدفاع عن السعر الجديد، ففي علم الغيب إلا إذا تقرر الاستمرار بالصرف مما تبقى من احتياطات في مصرف لبنان، وهذا هو الارجح. فاعتماد خطة ميقاتي قائم أساساً على تحميل الخسائر لمودعين بأساليب مختلفة ليس أقلها الاقتطاع القسري (هيركات) وللمصارف عبر شطب رساميلها، فيحلو لمصرف لبنان التصرف بجزء من الاحتياطي الباقي للدفاع عن سعر الصرف الجديد الضامن للجم الغضب وكبت اللوعة.

يبدو أن المصارف تتجه للقبول بالأمر الواقع برغم محاولاتها المتكررة لتقديم خيار استخدام أصول الدولة في اطفاء الخسائر وادعاء رد الودائع. وستحصل على جائزة ترضية عبارة عن قانون كابيتال كونترول يحميها من دعاوى المودعين مقابل سيرها في شروط صندوق النقد مع وعد ضمني بتكييف ممكن لا يضرب مصالحها ولا يفك ترابط عرى التحالف التاريخي بين “الساسجية” و”البنكرجية”. ولا عزاء للمودعين، الحلقة الأضعف برغم تزخيم تحركاتهم غير القادرة حتى الآن على اجبار السياسيين والمصرفيين ومصرف لبنان على الاعتراف بمسؤولياتهم التاريخية.

***

لا تُعدم المنظومة وسائل بث الأماني المعسولة، من الذهب الموجود في البر إلى الغاز المخزون في البحر مروراً بتقييمات خيالية لأصول الدولة الأخرى . ثروات يُخيل معها للبناني أنها طوع بنانه شرط الصبر والالتزام بما يخطط له الزعيم المنقذ.. والمفدى

في الأثناء، يجدر طرح سؤال البحث عن أسباب الافلات من العقاب. وقد تشمل بعض الأجوبة ما يلي:

أولاً؛ ستُثبت الانتخابات المقبلة ان عودة احزاب المنظومة ليس صدفة، بل هو نتاج انتماءات متجذرة مغذاة بالتعصب والدم والهواجس والمخاوف من الآخر. انتماءات غريزية راسخة تعلو فوق أي خسارة مادية مهما كانت مليارية. كيف لا والحرب الاهلية أظهرت ان الأرواح رخيصة على مذبح الهوية الطائفية في لبنان. فالهويات القاتلة ترخص أمامها الأرواح قبل الأموال.

إقرأ على موقع 180  ملاحظات على الورقة الفرنسية: 25 عاماً إلى الوراء

ثانياً؛ الصيغة الطائفية التي تحكم لبنان تجعل الحكم قائماً على توازنات رعب يمكن لأي محاسبة جدية مخلة بالتوازن ان تتسبب بأحداث أمنية دامية يفضل اللبنانيون تجنبها ما أمكن. فاحداث الطيونة بتاريخ 21 تشرين الاول/اكتوبر الماضي، التي سقط فيها قتلى وجرحى، كادت ان تؤدي الى “بروفا” حرب أهلية جديدة برغم ان القضية المطروحة قضائية وعادلة وخاصة بمجريات التحقيق في جريمة انفجار مرفأ بيروت.

ثالثاً؛ الاصطفافات المتقابلة حد التناحر، على كل شي وأي شيء في لبنان، تحول دائماً دون انبثاق تيار واحد عابر للطوائف يجمع تحت لوائه اصحاب الحقوق كفئة واحدة مؤثرة، وما فشل انتفاضة 17 تشرين 2019 إلا ابلغ دليل تاريخي أذهل العالم بتجليه المريع.

رابعاً؛ درجت العادة منذ ما بعد 2005 على تشكيل حكومات سميت زوراً حكومات “وحدة وطنية” تشارك فيها معظم الأحزاب والتيارات في التحاصص والزبائنية وتناتش المكاسب، فأصبح لكل فريق ماركة فساد مسجلة باسمه قطاعياً. فمن سيحاسب من؟ على قاعدة “دافنين الشيخ زنكي سوا”!

خامساً؛ ترتبط النخب السياسية والطائفية بالنخب المالية والمصرفية عضوياً ومصلحياً. فما تحول الى كابوس للمودعين ليس كذلك للمصارف والمصرفيين والنافذين السياسيين ممن حصدوا أرباحاً مجزية من نتاج المخطط الاحتيالي الذي نفذ بهندسات حاكم مصرف لبنان رياض سلامة تحت غطاء تثبيت سعر الصرف وتمويل عجز الموازنة وتمويل التجارة والصفقات.. عناوين لا تفسح المجال لاي محاسبة.

سادساً؛ تسري سردية ان شرائح واسعة من الشعب اللبناني استفادت من تثبيت سعر صرف الليرة والحشو الوظيفي والفوائد العالية وتغطيات المخالفات والتجاوزات المالية والتهرب الضريبي والجمركي. ليخلص المروجون بخبث شديد إلى “أننا كلنا في الهوا سوا”!

سابعاً؛ يسود انطباع ان لبنان ليس متروكاً لمصيره بتعويل دائم على عواصم عربية ودولية راعية لهذا الفريق أو ذاك على اهبة الاستعداد للانقاذ عند الضرورة القصوى والمنعطفات الحادة. تعويل يخدر ألم الاحساس بالخسارة بانتظار المن العربي والسلوى الدولية.

ثامناً؛ لا تعدم المنظومة وسائل بث الأماني المعسولة، من الذهب الموجود في البر إلى الغاز المخزون في البحر مروراً بتقييمات خيالية لأصول الدولة الأخرى . ثروات يُخيل معها للبناني أنها طوع بنانه شرط الصبر والالتزام بما يخطط له الزعيم المنقذ.. والمفدى!

ما سبق لا ينفي أن لبنان مقبل على عفو عام عن أبشع الجرائم المالية المرتكبة في التاريخ الحديث. فمدخرات جيل كامل تبخرت. وليس أكيداً تعويضها في جيل أو جيلين، وربما ثلاثة اذا بقي النظام الطائفي المقيت كما هو.

Print Friendly, PDF & Email
منير يونس

صحافي وكاتب لبناني

Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  "إقتصادنا" لمحمد باقر الصدر.. ثورة معرفية-منهجية (2)