تعتبر فرنسا أول بلد يقوم بإنشاء هيئة إستشارية وطنية لأخلاقيات علوم الحياة والصحة. وهي تُعنى بدراسة التّحديات الأخلاقية أمام تقدّم تلك العلوم وتشجيع التّفكير المجتمعي حولها. وتتمتع الهيئة بإستقلالية إدارية، ومهمتها إبداء الرأي حول مسائل أخلاقيّة واجتماعية مستجدّة بسبب التطوّر العلمي في ميادين الصحّة وعلوم الأحياء. تأسّست هذه الهيئة سنة 1983 بمرسوم رئاسي في خضم النّقاش حول ولادة طفلة الأنابيب الأولى في فرنسا “أماندين” عام 1982.
تأتي تقارير الهيئة عادة كأجوبة رداً على إحالات وأسئلة من قبل هيئات رسميّة وخاصة وحتى مواطنين حول هذه المسألة أو تلك. كما تستطيع الهيئة أن تعطي آراءها بمبادرة ذاتيّة دون أن يطلب منها أحد ذلك. تقوم الهيئة كذلك بتنظيم نقاشات مواطنيّة حول القضايا الاجتماعيّة المتعلّقة بإختصاصها. ويستأنس المشّرعون بما ينبثق عن تلك الورش في سياق وضع القوانين الّتي تمسّ الجوانب الاجتماعيّة والصحية والعلميّة في فرنسا.
المعضلات الأخلاقيّة
واجه الجهاز الصحّي الفرنسي في زمن أزمة كوفيد 19 معضلات عديدة مثلما حدث في بلدان كثيرة، لعل أبرزها تلك المتصلة بتصنيف المرضى. وطُرح السؤال؛ من أولى بالعلاج؟
في ذروة الأزمة حصل نقص حادّ في الوسائل التقنية والإمكانات البشرية جعل تقديم الخدمات الصحية للجميع متعذّراً. برز حينها سؤال مقلق حول الاستخدام الأمثل للموارد الشحيحة مثل أجهزة التنفس وأسرَّة المستشفيات سواء بين مصابي الفيروس أو المرضى الآخرين الذين يعانون من أمراض مزمنة. كان السؤال الخطير؛ ما هو المعيار الذي يُحدّد الأولوية في الحصول على هذه الموارد، هل هو عمر المريض أم خطورة وضعه الصحي أم أهميته للمجتمع؟
الحاجة إلى فرز المرضى طرحت إشكالية أخلاقيّة عميقة تتعلق بالعدالة الّتي توجب إحترام مبادئ الكرامة الشخصية والإنصاف. وأصدرت الهيئة الاستشارية تقريراً في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2020 جواباً على إحالة من قبل وزارة التضامن والصحة الفرنسية، وذلك إستناداً إلى شهادات وورشات تفكير سابقة حول الإنفلونزا، تضمن ثماني توصيات:
- التأكد من وضع كل الإمكانيات الممكنة في المتناول والحرص على تأمينها بصفة متساوية وعادلة في كل المحافظات. تعزيز التعاون مع مختلف المتدخّلين في القطاع الصحّي من موسّسات صحيّة من القطاعين العامّ والخاصّ وكذلك المؤسسات الطبية الاجتماعية.
- وضع سلّم من المعايير لتحديد عتبة التنبيه لفرز المرضى المحتاجين للرعاية الصحية الروتينية (غير الكوفيد) مع الأخذ بالاعتبار مدى الحاجة إلى عناية سريعة.
- منح القرار بشأن المسائل المعقدة إلى هيئة متعددة الاختصاصات تقوم بمراجعة فكريّة أخلاقية لتحديد الأولويات بالتّوافق مع إرادة المريض ورغبته.
- مبدأ المفاضلة بين حيوات المرضى أو ترتيب أهمّيتها تبقى ممنوعة أخلاقياً مهما كانت الظروف. جعل العناية الصحية الطارئة (غير الكوفيد) ممكنة والعمل على تسهيلها.
- عملاً بمبدأ الديمقراطية الصحية يجب إشراك لجان المرضى في اتّخاذ القرارات المتعلقة بمسار العلاج.
- إضفاء الشّفافيّة على إلغاء المواعيد الطبية التي لا تتعلق بالكوفيد والحرص على إبلاغ المعنيين في الإبّان.
- تقديم دعم ومساعدة في الملفّات الّتي تطرح معضلات اجتماعية.
- التّقييم الدّوري لتداعيات الخيارات المتّخذة بشأن مرضى الكوفيد feedback return on experience (عودة على خبرة) وتنظيم ندوات فكرية حول توزيع الموارد بشكل عادل.
مما لا شك فيه أن وباء كوفيد 19 مثّل إختباراً قاسياً لثقتنا العالية بعلومنا وتقنياتنا ومناهجنا العلاجية. ولكنّ الامتحان الّذي شكّله لأخلاقياتنا ولقدرتنا على توفير الأطر المناسبة لمناقشتها ومساءلتها كان أعمق بأشواط
بين الحريّة الشّخصيّة والمسؤوليّة
لا شكّ أنّ الجدل حول الموازنة بين الحرية الشخصية وضرورة السيطرة على الوباء هو جدل تاريخي قديم. ولكنّه عاد بقوّة خلال الإغلاقات المتكرّرة وخصوصاً بسبب إستخدام أدوات التكنولوجيا الحديثة في مراقبة الناس والاطّلاع على خصوصياتهم.
وكان للقاحات نصيبٌ وفيرٌ من الجدل الأخلاقي الدائر. إنقسم النّاس إلى قسم مرحِّب بإجباريَّتِها وقسمٍ متمسكٍ بحقّ الأشخاص وحريتهم الكاملة في قبول أو رفض ما قد يحقن في أجسادهم.
في هذا السّياق، أكّدت الأمم المتّحدة أنّ مبدأ المحافظة على المصلحة العامة العليا يسبق مبدأ الحرية الفردية والاستقلالية، وتمنّت أن يُعترف باللّقاح كملكيّة عامّة للإنسانيّة “لأنّ حمايته لنا كمجموعة أنجع بكثير ممّا يمكن أن تقدّمه أيّ دولة على حدة لشعبها”. وإعتبرت أنّ تلقّي أيّ فرد للّقاح هو عمل متحضّر يدعوه إلى الفخر، خصوصا إذا كان وضعه الصحّى لا يحتّم عليه ذلك.
أمّا في فرنسا، فقد تطرقت الهيئة الاستشارية الوطنية للأخلاقيّات في مناسبتين الى مسألة التّلقيح ضدّ الكوفيد منذ بداية الأزمة. جاء النصّ الأوّل، والمنشور بتاريخ 18 كانون الاول/ ديسمبر 2020، إجابة عن إحالة من طرف وزير الصحّة. وهو يندرج في سياق عدم اليقين في ما يخصّ اللّقاحات (توفّرها، أخطارها، فاعليّتها في الحدّ من إنتشار الجائحة) وكذلك في مسألة تحديد الشّريحة المواطنيّة الأكثر عرضة لمخاطر الكوفيد. وضع ذلك النصّ القواعد لإطار أخلاقيّ من شأنه أن يفضي إلى استراتيجيّة تلقيح للمواطنين الرّاشدين، وأكّد كذلك على ضرورة رضاء المنتفعين وتمكينهم من المعلومة الكاملة والشفّافة. وهو بذلك يُلغي عمليّاً إجباريّة اللّقاح بالنّسبة لتلك الفئة العمريّة.
ركّز النصُّ الثّاني، الّذي أُعدّ بالتّعاون مع المؤتمر الوطني للفضاءات الجهويّة للتّفكير الأخلاقي ونُشر بتاريخ 29 آذار/ مارس2021، على مسألة تلقيح العاملين في الميدان الصحّي. ذكّر النصّ بأنّ تلقيح المهنيّين في الميدان الصحّي، والطبّي-الإجتماعي، يمثّل مسألة أساسيّة من مسائل الأخلاقيّات والواجبات المهنيّة، وعبّر عن تمنّيه بأن تستمرّ الدّيناميكيّة الإيجابيّة لعملّية التّلقيح وتتسارع (يستند ذلك الفعل على الأخلاقّيات المهنيّة والمسؤوليّة والتّضامن، وكذلك على مبدأ عدم الإضرار بالغير).
مما لا شك فيه أن وباء كوفيد 19 مثّل إختباراً قاسياً لثقتنا العالية بعلومنا وتقنياتنا ومناهجنا العلاجية. ولكنّ الامتحان الّذي شكّله لأخلاقياتنا ولقدرتنا على توفير الأطر المناسبة لمناقشتها ومساءلتها كان أعمق بأشواط.
هناك أسئلة كثيرة ما تزال بحاجة إلى نقاش أعمق في الشّهور والسّنوات المقبلة ومنها:
أولاً؛ كيف يقرّر مسؤولو المستشفيات والأطباء من هو جدير بالبقاء على قيد الحياة ومن يجب تركه؟ وهل تُعدّ التّضحية بالأشخاص المسنين لمصلحة الأصغر سنّاً فعلاً أخلاقيّا؟
ثانياً؛ ما حدودُ المسؤولية الأخلاقية في إخضاع البشر لتجارب اللّقاحات المقترحة في مرحلة حرجة والتي دفعت إليها الدول بغيةَ السيطرة على الوباء؟
ثالثاً؛ كيف يمكن الموازنة بين حرية الافراد، والقيود المفروضة من قبل الحكومات عبر قرارات الحجر الصحي منعاً لانتشار الوباء وضرورة اللقاح؟
رابعاً؛ إلى أي حدّ رُوعِيَ البعدُ الأخلاقي بشأن الأسر الفقيرة التي تضررت من إجراءات العزل سواء من حيث الطعام أو التعليم أو علاج الأمراض الأخرى؟
خامساً؛ ما مدى التزام الأطباء والمسؤولين ووسائل الإعلام بالشفافية والوضوح في مخاطبة الرأي العام؟
سادساً؛ هل وفّرت الدولة والمؤسسات الطبية وسائل الحماية من العدوى لمن تقتضي الظروف تواجدهم في أماكن العمل خلال فترة الأزمة لا سيما الأطباء وأعضاء هيئة التمريض الذين أقسموا اليمين على مواصلة العمل حتى وإن تعرضوا للمخاطر؟
سابعاً؛ ما المسؤولية الأخلاقية تجاه نزلاء السجون المزدحمة ممن كانوا رهن الاعتقال أو المحاكمة؟
كيف يقرّر مسؤولو المستشفيات والأطباء من هو جدير بالبقاء على قيد الحياة ومن يجب تركه؟ وهل تُعدّ التّضحية بالأشخاص المسنين لمصلحة الأصغر سنّاً فعلاً أخلاقيّا؟
في هذا السياق، سأسرد حكاية تبتعد عن فلسفة الأخلاقيات التي قد تحولنا الى أسرى قابعين في سجن الاولويات. فقد حُكيَ أنه في عصر الآلهة خرج بعض الساعين إلى المعرفة في رحلة بحث عن أحد كبار الحكماء لينهلوا من حكمته. لكن بعد أن وجدوا أنفسهم أمام أبواب مدينته هالهم أنها بحراسة كائن أسطوري ضخم، أخبرهم أنه سيتركهم يعبرون فقط إذا إستطاعوا الإجابة على سؤال يتضمن معضِلة مضمونها الآتي؛ ماذا ستفعل إذا تعرض إبنك وإبنتك لخطر ما في الوقت نفسه، أيهما ستنقذ وأيهما ستترك؟
منحهم هذا الكائن خمس ثوان للإجابة، وبعد أن إنتهى من العد، كان أحدهم قد ألقى بإجابته على الفور، فسمح له الكائن الأسطوري بالعبور من أحد الأبواب؛ أما الإثنان الباقيان فلم يُحركا ساكناً. أحدهما كان متردداً محبطاً والآخر واثقاً مبتسماً. إنهار المحبَط، لكن صديقَه الواثق أخبره بألا يفسِدَ إجابتَهما الصحيحة، فلم يفهمْ المتردد، فشرح له الواثق أن بعض الأسئلة تُطرح ليس من أجل الإجابة وإنما إيقاظًا للتأمل وغرس بذرة الحكمة وإعدادًا للفهم والوصول إلى الوعي جرّاء التفكر، فأحيانًا يكون الصمت هو الإجابة المناسبة حتى تستطيع أن تدرك الغاية من السؤال؛ ولحظتها فقط أشار لهما الكائن الأسطوري إلى الباب الصحيح وأعلمَهما أنه أرشد صديقهما إلى الباب الخطأ، لأن ما زال أمامَه الكثير حتى يتعلم.
(*) راجع للكاتبة: الأخلاقيات الطبية.. وتحدي كوورنا