يجمع المراقبون المختصون بالسياسة الداخلية الفرنسية على أن فرنسا لم تعرف في تاريخ انتخاباتها الرئاسية أجواء مماثلة للتي تشهدها اليوم. فالظروف الخارجية الإستثنائية التي تمر بها البلاد. فالحرب الروسية – الأوكرانية، وتداعيات هذه الحرب على أمن القارة الأوروبية واستقرارها، تلقي بثقلها على فرنسا، على حساب المشاكل الداخلية؛ في أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والصحية والتربوية والبيئية؛ واضعة هذه المشاكل في الصف الثاني من الاهتمام بعدما كانت تجذب كل الأضواء.
كل الحملات والمناظرات والخطابات الخاصة بالإنتخابات تبدأ وتنتهي بـ”القضية الأوكرانية”. حتى أن مواقف هذا المرشح أو ذاك تجاه هذا الموضوع المُستجد أو المتزامن بدأت تترك انعكاسات واضحة على شعبيته وموقعه في استطلاعات الرأي.
لوبن تتقدم الى الدورة الثانية!
بحسب آخر نتائج استطلاعات الرأي، ما يزال الرئيس الحالي ايمانويل ماكرون مرشح حزب “الجمهورية إلى الأمام” (اليمين الوسط)، يتصدر لائحة المرشحين ويحتل المركز الأول في الدورة الأولى (28 بالمائة)، برغم بعض الانتقادات لكيفية تصرفاته حيال الأزمتين الصحية (جائحة كورونا) والسياسية-العسكرية-الديبلومسية (أوكرانيا). وتأتي في المركز الثاني مرشحة “التجمع الوطني” اليميني المتطرف مارين لوبن (20 بالمائة) بشكل يؤهلها للعبور إلى الدورة الثانية ومواجهة ماكرون في المعركة النهائية للوصول إلى قصر الإليزيه. ويبدو أن حظوظ ماكرون في الفوز في الدورة الثانية بولاية ثانية لا تزال كبيرة مع نسبة 53 بالمائة مقابل 46 بالمائة لماري لوبن، مع أن الفارق بين المرشحين بدأ يضيق.
اليساري المتشدد ميلونشون، مرشح حزب “فرنسا الأبية”، هو الأقرب إلى مزاج الناخب الفرنسي من أصل عربي ومسلم
من جانبه، جان- لوك ميلونشون، مرشح حزب “فرنسا الأبية” اليساري المُتشدد، يجهد من أجل اللحاق بلوبن ومنافستها على المركز الثاني. وبرغم التقدم الملحوظ الذي سجله في الاستطلاعات الأخيرة التي جرت في الأسابيع المنصرمة (14 بالمائة) لا يزال الفارق غير قليل بينهما.
أما مرشح اليمين المتطرف الآخر، مرشح الحزب الجديد “استعادة” (فرنسا)، إريك زمور، والمرشحة عن حزب “الجمهوريون” اليميني المعتدل فاليري بيكريس فلا يزالان يتراجعان: زمور إلى المركز الخامس (11 بالمائة)، وبيكريس إلى المركز الرابع (11 ونصف بالمائة).
الناخب من أصل عربي ليس واحداً
هناك كتلتان ناخبتان من أصل عربي: مغاربية، وهي الأكثرعدداً (عدة ملايين)، ومشرقية وهي الأقلية (حوالي 150 ألف) ومعظمها من أصل لبناني.
وهاتان الكتلتان لم تتمكنا على مر السنين من تشكيل “لوبي ضاغط” إسوة بالكتلتين من أصل يهودي وأرمني، وذلك لعدة أسباب، أبرزها: عدم التماسك والتضامن فيما بينها، واختلاف الخيارات، إضافة إلى غياب التنظيم في صفوفهما. وهناك مثل مُعبرعن ذلك. فقد فرضت المنظمات والجمعيات الفرنسية من أصل يهودي وأرمني نفسها على الوسط السياسي بحيث يتسابق ويتزاحم كل سنة السياسيون الفرنسيون يميناً ويساراً، بدءاً من رئيس الجمهورية إلى المشاركة في العشاء السنوي الذي تنظمه كل منهما، بينما يُسجل غياب فاضح للجمعيات الفرنسية-العربية على هذا المستوى. كذلك لم تنجح بعض المحاولات لتنظيم الصفوف وتوحيد المواقف والتحرك المشترك في هذا الإطار.
بين ميلونشون والمقاطعة!
تقليدياً، كان الناخب الفرنسي من أصل عربي ومسلم أقرب إلى التصويت لصالح مرشحي الأحزاب اليسارية لقربها من مطالبهم الاجتماعية ولتعاطفها مع القضايا العربية. هذا المزاج اشتد مع تنامي حركة اليمين المتطرف. وقد اضطر الناخب الفرنسي من أصل عربي للتصويت في الدورة الثانية مع المرشح الرئاسي اليميني، ليس عن قناعة أو إلتزام، بل من أجل المساهمة في قطع الطريق أمام وصول مرشح اليمين المتطرف إلى قصر الإليزيه. وهذا ما حدث في المعركة الرئاسية الماضية، عام 2017، عندما تواجه ماكرون ولوبن في الدورة الثانية. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن فئة من الناخبين الفرنسيين من أصل عربي ومسلم صوتوا لماكرون من الدورة الأولى لسببين: الأول، على اعتبار أنه “طاقة جديدة شابة، وينبغي إعطائه فرصة”. والسبب الثاني، اتخاذ ماكرون مواقف متقدمة حيال المشاكل التاريخية العالقة والمتشنجة في العلاقات بين فرنسا والجزائر.
ماكرون سلك درب “الشعبوية” للمزايدة على اليمين المتطرف.. فوقع في فخ الخلط بين الإسلام والإرهاب والإنفصال
وتشير أوساط مقربة من الجاليات العربية والمسلمة إلى أنه “بعد أن غازل ماكرون الناخبين المسلمين الجزائريين في انتخابات 2017، بقوله إن ’الاستعمار جريمة ضد الإنسانية’، كشف الأخيرعن وجهه الحقيقي المُعادي للإسلام، بتأييده نشر الصور المسيئة للرسول وإعتماد تشريعات مُتشددة حيالهم قبل أشهر من موعد الانتخابات الرئاسية”.
لذلك، يبدو أن هذه السنة هناك أكثر من تحفظ، لا بل معارضة للمرشح ماكرون، نظراً لمواقفه المُتشددة من خلال تبني حكومته مشروع قانون “مكافحة الإسلام الإنفصالي” المعروف بقانون “مبادئ تعزيز إحترام قيم الجمهورية” المثير للجدل، والموجه مباشرة ضد سلوكيات بعض المسلمين والمهاجرين العرب وأنشطتهم، ويتضمن تدابير أُتخذت بهدف الحد من تحركاتهم. وترى بعض الأوساط أن ماكرون “سلك درب المزايدة الشعبوية من أجل عدم ترك هذه المواضيع التي يتحسس لها المواطن في يد اليمين المتطرف وحده، ووقع في فخ الخلط بين الإسلام والإرهاب والإنفصال”.
لذلك، في الإنتخابات المقبلة، يبدو أن جان– لوك ميلونشون، مرشح حزب “فرنسا الأبية” اليساري المتشدد، هو الأقرب إلى مزاج الناخب الفرنسي من أصل عربي ومسلم، وخصوصاً المغاربي، مع تسجيله القلق المتزايد من تنامي اليمين المتطرف (لوبن وزمور).
ولكن تلك الأوساط تتخوف من أن تدفع ما تصفه بـ”حملات الكراهية ومواقف التطرف” التي أتت بها الحملات الانتخابية إلى مقاطعة الناخبين من أصول عربية ومسلمة الانتخابات والامتناع عن الاقتراع.
الناخب الفرنسي من أصل لبناني يتأرجح بين مرشحي اليمين اعتدالاً (بيكريس) ووسطاً (ماكرون) وتطرفاً (لوبن)
من هنا جاءت دعوة عميد مسجد باريس الكبير، شمس الدين حفيز، جميع الفرنسيين إلى التسجيل في اللوائح الانتخابية والإدلاء بأصواتهم في صندوق الإقتراع “لأن بطاقة الإقتراع وحدها هي التي يمكن أن توقف دوامة الكراهية”، على حد قوله.
وقال حفيز:”سوف يوبخنا أطفالنا على أنانيتنا إذا واصلنا تجاهل كل العلامات المقلقة التي تأتي إلينا من المشهد السياسي. سيطلبون منَّا توضيحات حول سلبيتنا”.
وأضاف حفيز : “أدعو الله أن يستمر إخواننا المواطنون في العقيدة الإسلامية في العيش بسلام. ومن دون إهانة لبعض المتحدثين الذين ليس لديهم أي مهارة أخرى غير العبارات الجدلية والكراهية. هؤلاء يريدون الإستقرار في أذهاننا باسم أمننا أو هويتنا المتخيلة”، مشيراً غلى أن “المواطنة تتجسد في الواجب المدني. يتحول الغضب إلى واجب مدني. يجب أن نظهر أنه يمكننا معاقبة المرشحين الذين ينتقدون مواطنينا لكونهم مسلمين”.
الناخب من أصل لبناني متأرجح
تقليدياً، كانت الجالية اللبنانية أقرب إلى اليمين منها إلى اليسار، بالرغم من وجود أقلية متعاطفة مع الإشتراكيين. ويبدو أن تصويت الناخب الفرنسي من أصل لبناني يتأرجح اليوم بين مرشحي اليمين اعتدالاً (بيكريس) ووسطاً (ماكرون) وتطرفاً (لوبن). وهناك ملتزمون فاعلون من أصل لبناني في الأوساط القريبة من كل من المرشحين الثلاثة، إضافة إلى كوادر ناشطة في الحملات الانتخابية. وهؤلاء المرشحون الثلاثة يتعاطفون مع لبنان، وزاروه أكثر من مرة وفي مناسبات متعددة.
أما بالنسبة الى المرشح اليميني الأكثر تشدداً وتطرفاً، اريك زمور، فانه يأتي على ذكر لبنان في كل مرة تسنح له الفرصة، لا للتعبير عن موقف داعم له بل لتسليط الضوء على ما يعتبره “المصير البائس للتجربة اللبنانية”. ويؤكد على أنه يتحرك وينشط من أجل “أن لا تتحول فرنسا إلى لبنان مُكبر”! وقد اضطرت الصحافية ليَّا سلامة، (الفرنسية من أصل لبناني، ابنة الوزير السابق غسان سلامة)، والتي كانت تحاور زمور قبل أيام على القناة الثانية في التلفزيون الفرنسي، إلى الرد عليه مباشرة بالقول: “دع لبنان وشأنه…لديه ما يكفيه من مشاكل”. فعلق زمور مشدداً: “هناك الكثير من اللبنانيين في فرنسا يقولون أنني على حق”!
خبير فرنسي مختص بالسياسة الداخلية يلخص تقويمه لمسار حملة الإنتخابات الرئاسية الفرنسية الحالية في دورتها الأولى، بالتالي: “لا شيء محسوم نهائياً بعد.. نتائج الدورة الأولى ستكون ذات دلالة بالنسبة لمجرى الدورة الثانية، وسترسم صورة أوضح للمسار الرئاسي المستقبلي.. لذا، ينبغي مراقبة نسبة المقاطعة والامتناع عن التصويت في الدورة الأولى، لان نسبة المشاركة ستؤثر على الدورة الثانية، وتجعل المفاجأت واردة”.