في قراءة أولية لنتائج الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية الفرنسية والتي أسفرت عن تأهل كل من الرئيس ايمانويل ماكرون مرشح حزب “الجمهورية الى الأمام” (يمين الوسط) ومارين لوبن مرشحة حزب “التجمع الوطني” (يمين متشدد) الى الدورة الثانية لا بد من التوقف عند تداعياتها وما آلت اليه أوضاع بقية المرشحين العشرة الذين لم يحالفهم الحظ.
ايمانويل ماكرون: الضائع بين قبعتين
صحيح أن الرئيس ايمانويل ماكرون تمكن من إحراز المركز الأول وتصدر طليعة المرشحين بحصوله على أكثر من 27 بالمئة من أصوات المقترعين (27.6) كما أنه استطاع تجاوز صعوبات وأخطاء كثيرة تراكمت في الأسابيع الأخيرة وأبرزها الآتي:
1-حملة انتخابية فاترة شكلاً ومضموناً: من حيث التوقيت، تأخر ماكرون كثيراً في خوض الحملة الانتخابية الرئاسية، مُعللاً ذلك بأنه يعتمر قبعتين في الوقت نفسه، قبعة الرئيس المنهمك بمتابعة تسيير أمور الدولة وخصوصاً مع التطورات المستجدة في أوكرانيا اضافة إلى رئاسته الاتحاد الاوروبي، وقبعة المرشح الساعي إلى تجديد ولايته الرئاسية. أما بالنسبة الى البرنامج الانتخابي فهو لم يلقَ استحساناً شعبياً اضافة إلى أن ماكرون لم يُحسن تقديمه، فضلاً عن إقتصار حملته على تجمع شعبي ومهرجان انتخابي واحد.
2-قضية شركة الاستشارات “ماكنزي”: واجه ماكرون، الذي لطالما اتهم بأنه “رئيس الأغنياء”، جدلاً كبيراً ناجماً عن استعانة السلطات العامة (مؤسسات وإدارات عامة ووزارات) وبشكل مكثف بخدمات شركات استشارية لا سيما شركة “ماكنزي”. وقد فتح القضاء الفرنسي في نهاية آذار/مارس الماضي تحقيقاً اولياً في قضية تهرب ضرائبي بعد تقرير لمجلس الشيوخ عن تأثير الشركات الاستشارية الخاصة على السياسات العامة، خصوصاً وانه في هذا التقرير، أكدت لجنة التحقيق في مجلس الشيوخ أن العقود التي أبرمتها الدولة مع شركات استشارية مثل “ماكنزي”.. “ازدادت بأكثر من الضعفين” بين 2018 و2021 لتحقق رقماً قياسياً بلغ أكثر من مليار يورو في 2021 . وقد اتهم التقرير بشكل خاص المجموعات الفرنسية التابعة لشركة “ماكنزي” بـ”خفض العبء الضريبي” بحيث أنها لم تكن ستدفع أي ضرائب على الشركات بين عامي 2011 و2020. ومنذ ذلك الحين، طالبت المعارضة السياسية بشكل متكرر بفتح تحقيق في ما تعتبره محاباة عمدت إليها الأغلبية الرئاسية لصالح هذه الشركة الاستشارية.
كيف سيتفاعل الناخبون مع دعوة ماكرون إلى “سياسة اليد الممدودة” من أجل مواجهة اليمين المتطرف والتصدي له من جهة ومع نداء مارين لوبن من أجل تشكيل “تجمع وطني وشعبي” من أجل التغيير من جهة أخرى؟
3-طريقة التعامل الشخصي لماكرون في مواكبة الحملة الانتخابية: تصرف ماكرون كأن النتيجة “مضمونة سلفاً”، اضافة إلى الانتقادات التي وُجهت إليه من جميع منافسيه لطغيان نزعته إلى “الاستعلاء عليهم والاستخفاف بهم” ورفضه الدخول في نقاش أو مناظرة مع أي منهم.
ويبدو أن الناخبين، وبعدما استشعروا من خلال الإستطلاعات الأخيرة أن وضعية “المرشح” ماكرون تجتاز مرحلة صعبة مع تزعزع الثقة به، عادوا في اللحظة الأخيرة وصوّتوا له في اطار ما يسمى “التصويت المفيد” من خلال التخلي عن مرشحي الاعتدال لدى الأحزاب التقليدية المعتدلة يميناً ويساراً من أجل الاقتراع للرئيس الحالي.
مارين لوبن: الفائز الأكبر
عدة عوامل شخصية وسياسية ساهمت في إحراز هذا التقدم اللافت للإنتباه لمارين لوبن على منافسيها بحصولها على أكثر من 23 بالمئة من الاصوات (23.4) وابرزها الآتي:
1-نجاح لوبن في اعطاء صورة جديدة عنها “اكثر نضوجاً وعقلانية”، كما ان بروز مرشح يميني آخر أكثر تطرفاً وتشدداً هو اريك زمور عن حزب “استرداد” (فرنسا)، خدم لوبن التي بدت أمام الرأي العام “أكثر اتزاناً وهدوءاً”.
2-مبادرة لوبن في وضع القضايا الاجتماعية في صدارة حملتها الانتخابية وخصوصا القوة الشرائية للمواطن، الشغل الشاغل له، دون التخلي عن الهموم الصحية والأمنية والمشاكل المرتبطة بـ”المهاجرين والإسلام المتشدد”، وإذا كان صحيحاً أنها خفّفت لهجتها بشأن بعض الاقتراحات إلا أنها لم تُغيّر جوهر مشروعها حول الهجرة.
3-قامت لوبن بجهود كبيرة من اجل اظهار نفسها امام الرأي العام كشخصية جديدة “توحي بالثقة” واستعدادها للانتقال من المعارضة الى الحكم من خلال برنامج متكامل بشكل يوحي بـ”جدية” اقتراحاتها وتوجهاتها لتغيير منهج الحكم الحالي، وبالتالي سقطت مع الوقت المحاولات السياسية والاعلامية من اجل “شيطنتها” والتي عانت منها كثيراً في الحملات السابقة.
كان من شأن كل هذه العوامل مع غيرها من العوامل إعطاء “زخم ودينامية” لحملة لوبن التي سجلت في الايام الاخيرة التي سبقت الاقتراع صعوداً كبيراً في شعبيتها في مختلف استطلاعات الرأي.
اليمين الديغولي: خسارة تاريخية
فشلت فاليري بيكريس ومعها حزبها “الجمهوريون”، الوريث السياسي للخط الديغولي التقليدي، في اجتياز الدورة الأولى. واكثر من ذلك حصلت بيكريس على أدنى نسبة من الأصوات (حوالي خمسة بالمئة فقط) لمرشح رئاسي ينتمي لهذه العائلة السياسية في تاريخ الجمهورية الخامسة التي أسّسها الجنرال شارل ديغول. هذه الخسارة التي وصفت بـ”الكبرى والتاريخية والمخيبة للآمال” تطرح أكثر من علامة استفهام بالنسبة لمستقبل هذا الخط اليميني المعتدل الذي بدأ بالتفتت والانقسام منذ وصول ماكرون الى قصر الاليزيه وانضمام عدد من اركان هذا الخط الى الرئيس الجديد والإنخراط في فريقه الحكومي. وابرز مثال على التفكك داخل هذه العائلة السياسية امتناع الرئيس السابق نيكولا ساركوزي عن إعلان تأييده بشكل صريح وعلني لبيكريس التي تنتمي الى العائلة السياسية نفسها بالرغم من محاولات كثيرة بذلتها للحصول منه على هذا الدعم السياسي والمعنوي.
من هنا يبرز السؤال حول مصير هذا الخط وحزب “الجمهوريون” الذي يمثله وسط تشتت صفوفه وانضمام قسم من اركانه الى يمين الوسط الذي يمثله ماكرون او الانتقال الى صفوف اليمين المتطرف. فهل سيتمكن من النهوض مجدداً من حالة الانهيار هذه ومن سيتولى هذه المهمة؟
هل يعود الممتنعون عن التصويت في الدورة الاولى، والذين بلغت نسبتهم رقماً قياسياً (حوالي 26 بالمئة)، عن قرار مقاطعة الانتخابات والتوجه إلى صناديق الاقتراع في الدورة الثانية ولمصلحة من ستكون هذه المشاركة الاضافية؟
اليمين المتطرف: اثبات وجود
صحيح ان اليمين المتطرف المتمثل برئيس الحزب الجديد “استرداد” اريك زمور لم يتمكن من تحقيق الخرق المأمول، الا انه استطاع اثبات وجوده داخل المشهد السياسي الداخلي الفرنسي (بحصوله على اكثر من سبعة بالمئة) خصوصاً أنها إطلالته الاولى على الفرنسيين ومرشحه ليس من اهل السياسة بل يأتي من عالم الصحافة والكتابة.
اسبوعان طويلان من الانتظار امام اريك زمور قبل معرفة نتيجة الدورة الثانية من الاقتراع بعد أسبوعين. فهو يراهن ضمناً على فشل مارين لوبن (بالرغم من الدعوة العلنية الى التصويت لصالحها في الدورة الثانية) في مواجهتها امام ماكرون من اجل أن ينقض على حزبها “التجمع الوطني” وبسط انتشار حزبه الجديد بهدف ان يصبح القوة اليمينية الابرز في المشهد السياسي الفرنسي. اذ انه يراهن ايضاً على أن ينضم اليه ليس فقط أنصار اليمين المتشدد بل ايضاً أنصار اليمين التقليدي المعتدل بعد الخيبة التي أصيب بها.
اليسار الاشتراكي: هزيمة قاتلة
اصيب الحزب الاشتراكي، الذي اوصل في ما مضى رئيسين للجمهورية فرنسوا ميتران وفرنسوا هولوند، بهزيمة لم يعرفها في تاريخه ووصفت بـ”القاتلة” و”المروعة” اذ لم تتجاوز نسبة الاصوات التي نالتها مرشحته أن هيدالغو 2 بالمئة. هذه النتيجة قد تهدد مصير الحزب الاشتراكي بتركيبته الحالية المعتدلة وتنذر بزواله لمصلحة اليسار المتطرف. وقد ألمح هولوند خلال الحملة الانتخابية الرئاسية وامام مؤشرات تراجع شعبية الحزب الاشتراكي الى ضرورة اعادة هيكلة الحزب ورسم توجهات جديدة له بغية المساهمة في عملية انقاذه وتأمين استمرارية وجوده على الساحة السياسية الفرنسية.
اليسار المتطرف: خسارة مشرفة.. وواعدة
تمكن مرشح أبرز احزاب اليسار المتطرف زعيم حزب “فرنسا الأبية” جان- لوك ميلونشون من تحقيق حوالي 22 بالمئة (21.95) وهي نسبة عالية و”مشرفة” من الأصوات. اذا أضيفت هذه النسبة إلى ما ناله كل من مرشح الحزب الشيوعي فابيان روسيل ومرشح حزب “النضال العمالي” ناتالي ارتو ومرشح “الحزب الجديد ضد الرأسمالية” فيليب بوتو، تجعل من مجموع الاصوات التي نالتها هذه الاحزاب اليسارية الاربعة “قوة سياسية واعدة” لا يستهان بثقلها. وسيكون لهذه القوة السياسية كلمتها، ليس فقط في الانتخابات النيابية المقبلة، بل أيضاً في التحرك الشعبي والعمالي في الشارع وذلك بعد الانتهاء من استحقاقي الانتخابات الرئاسية والنيابية.
حزب الخضر: الفرصة الضائعة
لم يُحسن حزب “الخضر” الاستفادة من تحسس الشارع إزاء القضايا البيئية والمناخية التي طرحت نفسها بقوة داخل المجتمعات الغربية عموماً والاوروبية خصوصاً ولم يتمكن مرشح الحزب يانيك جانو من الحصول الا على نسبة متواضعة من الاصوات لم تتجاوز الـ 5 بالمئة. ويعزو المراقبون هذا الفشل لعدة اسباب منها: عدم تمكن مرشح الحزب في المعركة الرئاسية من فرض شخصيته في المعترك الانتخابي، بالاضافة الى الانقسام الداخلي في صفوف الحزب بين أنصار الخط “الايديولوجي” المتشدد وأنصار الخط “البراغماتي” المنفتح. ومن هنا تبرز معضلة كيفية التموضع السياسي المستقبلي للخضر.
هل سيعطي اليمين الديغولي والمعتدل اصواته إلى ماكرون اسوة بمرشحة حزب “الجمهوريون” فاليري بيكريس؟ هل سيلتحق ناخبو مرشح اليمين المتطرف أريك زمور بمارين لوبن غير البعيدة عن توجهاتهم؟ هل يستجيب ناخبو اليسار في كل مكوناته (الاشتراكي والشيوعي والخضر والمتطرف) لنداءات مرشحيه في التصدي لوصول اليمين المتطرف الى قصر الاليزيه
الدورة الثانية: الاحتمالات مفتوحة
أمام فرنسا أسبوعان لا سابق لهما لأنهما يحملان في طياتهما بوادر المرحلة السياسية الحاسمة التي تنتظر الفرنسيين عشية يوم الأحد في الرابع والعشرين من نيسان/أبريل الحالي.
أسئلة كثيرة يلفها الغموض وفي ضوء الاجوبة عليها تتحدد ملامح المواجهة الحاسمة بين ماكرون ولوبن وبالتالي نتيجة اقتراع الدورة الثانية.
السؤال الأول: كيف سيتصرف ناخبو المرشحين العشرة الذين لم يتمكنوا من النجاح في الدورة الأولى والتأهل للدورة الثانية؟ ومنه تتفرع اسئلة اخرى منها: هل سيعطي اليمين الديغولي والمعتدل اصواته إلى ماكرون اسوة بمرشحة حزب “الجمهوريون” فاليري بيكريس؟ هل سيلتحق ناخبو مرشح اليمين المتطرف أريك زمور بمارين لوبن غير البعيدة عن توجهاتهم؟ هل يستجيب ناخبو اليسار في كل مكوناته (الاشتراكي والشيوعي والخضر والمتطرف) لنداءات مرشحيه في التصدي لوصول اليمين المتطرف الى قصر الاليزيه؟
السؤال الثاني: هل يعود الممتنعون عن التصويت في الدورة الاولى، والذين بلغت نسبتهم رقماً قياسياً (حوالي 26 بالمئة)، عن قرار مقاطعة الانتخابات والتوجه إلى صناديق الاقتراع في الدورة الثانية ولمصلحة من ستكون هذه المشاركة الاضافية؟
السؤال الثالث: كيف ستتم المناظرة التلفزيونية المتوقعة بين المنافسين النهائيين ماكرون ولوبن؟ علماً أن المناظرة السابقة التي جرت بينهما قبل خمس سنوات جاءت لمصلحة ماكرون حيث فشلت لوبن (وهي اعترفت بذلك في ما بعد) في الدفاع عن برنامجها ومجادلة ماكرون في توجهاته.
السؤال الرابع: كيف سيتفاعل الناخبون مع دعوة ماكرون إلى “سياسة اليد الممدودة” من أجل مواجهة اليمين المتطرف والتصدي له من جهة ومع نداء مارين لوبن من أجل تشكيل “تجمع وطني وشعبي” من أجل التغيير من جهة أخرى؟
السؤال الخامس: هل يمكن أن يطرأ حدث داخلي أو خارجي من شأنه أن يترك أثراً على مجريات المعركة الانتخابية؟
اسئلة مع غيرها تتحكم الاجوبة عليها في الاتجاه الذي ستأتي به صناديق الاقتراع، مما يجعل هذه المواجهة “مفتوحة على كل الاحتمالات”. فهل سيقبل الفرنسيون بالتجديد لولاية ثانية لايمانويل ماكرون والتصويت لاستمرارية النهج السياسي الحالي الداعي إلى الانفتاح أم انهم سيخوضوا “مغامرة التغيير المزدوجة”: من جهة، تأمين دخول، وللمرة الأولى في تاريخ الجمهورية الخامسة، إمرأة الى قصر الاليزيه ومن جهة ثانية ايصال شخصية يمينية متطرفة الى سدة الرئاسة الأولى؟
بداية الجواب جاءت في استطلاعات الرأي التي تمت بُعيد اعلان نتائج الدورة الاولى وهي أجمعت على فوز ماكرون في الدورة الثانية، الا ان الفارق بينه وبين لوبن يختلف بين مؤسسة استطلاع واخرى. لكن جميعها تقر بأن المواجهة “ستكون حامية ولا شيء محسوماً فيها سلفاً”.
من كل ما سبق، يبدو أن الحياة السياسية الفرنسية قادمة في الفترة المقبلة على مرحلة مضطربة من “الحراك الناشط” ليس فقط داخل المكونات السياسية والحزبية بل أيضاً على صعيد التحركات الشعبية في الشارع والتي قد تتفاعل مع نتائج الدورة الثانية للانتخابات الرئاسية.