تمكنت دولة جنوب إفريقيا من إعداد ملف موثق بحجم 86 صفحة تعرض فيه لارتكابات الجيش الإسرائيلي من قصف للمباني السكنية والمستشفيات والمدارس والجامعات والمقابر والمراكز الدينية ومؤسسات الإغاثة الدولية ومراكز الأمم المتحدة وغيرها، كما أرفقته بالتهديدات التي أطلقها مسؤولون إسرائيليون بقطع الغذاء والدواء والمياه والكهرباء عن غزة، ووصف أحدهم، وهو وزير الأمن يوآف غالانت، شعب غزة بـ”الحيوانات”. بهذا المعنى، استطاعت جنوب إفريقيا جر إسرائيل إلى قفص الإتهام في مقر محكمة العدل الدولية في لاهاي والاستماع إلى مضبطة الإتهامات التي نُقلت عبر وسائل الإعلام في شتى أنحاء العالم.
عملياً، أدت هذه الخطوة إلى تهشيم صورة إسرائيل التي لطالما روّجت لنفسها ـ ولا سيما أمام الغرب ـ بوصفها دولة غربية ديموقراطية تلتزم بمبادئ القانون الدولي، فإذا بها تنكشف على حقيقتها دولة مارقة ترتكب جرائم وحشية وتخالف القانون الدولي الإنساني.
جنوب إفريقيا والصهيونية
انطلقت جنوب إفريقيا في خطوتها من موقعها كدولة غير منحازة ودولة مؤسسة في تجمع دول بريكس (BRICS) والأهم أنها كانت الرمز الأكبر للتمييز العنصري في القرن العشرين. ففي مطلع القرن الماضي، كان الجنرال سماتس (Jan Christian Smuts) مؤسّس جنوب إفريقيا صديقاً لتيودور هرتزل مؤسس الصهيونية العالمية، وكانت فكرة إسرائيل وفكرة جنوب إفريقيا تتشابهان لناحية التمييز العنصري بين البيض والسود في جنوب إفريقيا (الأبارتايد) وبين اليهود والعرب في إسرائيل. تشاركت الدولتان في جريمة مصادرة الأراضي وطرد السكان الأصليين وإحلال مستوطنين مكانهم.
وفي ستينيات القرن الماضي، وفّر نظام الأبارتايد في جنوب إفريقيا مساحة كافية لإسرائيل لإجراء تجربة نووية كانت نتيجتها حيازة إسرائيل على سلاح نووي يُقدّر اليوم بنحو أربعمائة رأس نووي.
وعلى مر السنين، استمرت العلاقات الوثيقة بين نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا وإسرائيل حتى تسعينيات القرن الماضي حين سقط نظام الأبارتايد في جنوب إفريقيا.
نالت جنوب إفريقيا حريتها وتسلمت الأكثرية السوداء السلطة بانتخابات تشريعية ديموقراطية أفضت إلى فوز “الإتحاد الوطني الإفريقي” بقيادة نلسون مانديلا عام 1994، وصارت الأقلية البيضاء تخضع كغيرها من مكونات شعب جنوب إفريقيا لسلطة القانون.
ومنذ ثلاثين عاماً، بات الإنطباع السائد أن جنوب إفريقيا دولة أخلاقية توفر العدل والمساواة بين مواطنيها وتنتهج سياسة خارجية وفقاً لمبادئ حقوق الإنسان وتُدرك تماماً في ذاكرتها السياسية السلوك العنصري لإسرائيل وليس غريباً أنها تتابع بشكل دقيق الممارسات الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني.
في 28 تشرين الثاني/نوفمبر 2023، أي بعد نحو شهر ونصف من بداية الحرب على غزة، صوّت البرلمان في جنوب إفريقيا على قرار قطع العلاقات الديبلوماسية مع إسرائيل لحين التوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزة.
محكمة العدل الدولية
ما هي محكمة العدل الدولية وما هي آفاق الشكوى ونتائجها المرتقبة؟
محكمة العدل الدولية هي هيئة من الهيئات الست التي تتألف منها الأمم المتحدة وهي الأمانة العامة والجمعية العامة ومجلس الأمن ومجلس الوصاية (انتهى العمل به بعد استقلال المستعمرات التي كانت تحت الوصاية) والمجلس الإقتصادي والإجتماعي ومحكمة العدل الدولية وهي الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتحدة. تتولى محكمة العدل الفصل في النزاعات القانونية التي تنشأ بين الدول، طبقاً لأحكام القانون الدولي، وتقديم آراء استشارية بشأن المسائل القانونية التي قد تحيلها إليها أجهزة الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة.
في العام 2003، تقدمت الجمعية العامة للأمم المتحدة بطلب رأي استشاري من محكمة العدل الدولية حول قانونية الجدار الفاصل الذي بنته إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة وقرّرت المحكمة بأغلبية 14 صوتاً مقابل صوت واحد لأحد القضاة الأميركيين اعتبار تشييد الجدار في الأراضي الفلسطينية المحتلة بما فيها القدس الشرقية وحولها والنظام المرتبط به متعارضاً مع القانون الدولي.
وتتألف محكمة العدل من 15 قاضياً (بينهم ثلاثة من دول عربية هي المغرب ولبنان والصومال). يتم اختيارهم بالإنتخاب من مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة. هؤلاء الأعضاء ينتخبون رئيساً للمحكمة وهي الآن قاضية أميركية.
اتفاقية منع الإبادة الجماعية
في العام 1948، تم توقيع اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية ومعاقبة مرتكبيها ووضعت موضع التنفيذ في العام 1950. نصت المادة الأولى على اعتبار الإبادة الجماعية جريمة بمقتضى القانون الدولي. وحدّدت المادة الثانية أن الإبادة الجماعية تعني أياً من الأفعال المرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه:
(أ) قتل أعضاء من الجماعة.
(ب) إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة.
(ج) إخضاع الجماعة، عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً.
(د) فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة.
(هـ) نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى.
اعتُبرت الإتفاقية سارية المفعول عندما صدّقتها 20 دولة، ويبلغ عدد الدول الموقعة عليها اليوم 153 دولة.
وقّعت بعض الدول على الاتفاقية بلا أية تحفظات وبينها جنوب إفريقيا وإسرائيل. وهناك دول أخرى وقّعت لكن مع تحفظات مثل بعض الدول العربية التي تحفظت على قضية الحرية الدينية.
نصت الاتفاقية على أنه يُعهد لمحكمة العدل الدولية تنفيذ أحكامها في ما يتعلق بجريمة الإبادة.
ومن المفيد لفت الانتباه إلى أن محكمة العدل الدولية تختلف عن المحكمة الجنائية الدولية التي هي اتفاقية خارج الإطار العضوي للأمم المتحدة تأسست في روما في العام 2002 وبلغ عدد الدول الموقعة عليها 123 دولة حتى يومنا هذا.
وبما أن جنوب إفريقيا وإسرائيل هما دولتان موقعتان على هذه الاتفاقية ويفترض أنهما تلتزمان بأحكامها، فقد قدّمت جنوب إفريقيا شكوى ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية في حرب غزة الراهنة.
سير إجراءات المحاكمة
تستمع المحكمة إلى الطرف المُدّعي ثم إلى الطرف المُدعى عليه ثم تعتكف وتُصدر ما تسمى “التدابير الاحترازية” وقراراً عاجلاً خلال شهر تقريباً وفي حالة هذه الشكوى، يُرتقب صدور قرار بوقف إطلاق النار، وهذا لا يعني اثبات التهمة إنما وجود شبهات ودلائل وإلى أن هناك أساساً للقضية المرفوعة أمام المحكمة. أما اتهام إسرائيل بالإبادة الجماعية أو تبرئتها، فإنه يستغرق وقتاً طويلاً يصل إلى سنوات.
ومنذ إنشائها عام 1948، ظلّت إسرائيل دولة فوق القانون وكانت لديها جرأة رفض مطالب دولية مثل لجان تقصي الحقائق في بعض الإرتكابات، لذلك يُمكن القول إن يومي 11 و12 كانون الثاني/يناير 2024 هما يومان تاريخيان أرغما إسرائيل على الخضوع لإجراء أممي والمثول أمام محكمة العدل الدولية والاستماع إلى اتهام الفريق القانوني في جنوب إفريقيا حول الجرائم التي ارتكبتها في غزة.
تجدر الإشارة إلى أن قرار المحكمة ملزمٌ من الناحية القانونية لكن لا توجد صيغة أو أداة تنفيذية له. وفي هذه الحالة، يكون مجلس الأمن والجمعية العامة هما الأداة التنفيذية.. وبهذا يخضع التنفيذ لآليات مجلس الأمن، أي صدور قرار دولي بالغالبية اللازمة وبموافقة الأعضاء الخمسة الدائمين في المجلس.
واللافت للإنتباه أن الوفد الإسرائيلي افتقد في رده على الدعوى للتماسك القانوني والصلابة اللازمة في مواجهة مطالعة وفد جنوب إفريقيا المدعمة بالوثائق والإثباتات بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية.
إذا صدر القرار العاجل بطلب وقف إطلاق النار، من غير المؤكد أن يكون القرار النهائي يقضي بادانة إسرائيل، ولكن يُمكن القول إن الشكوى والمحاكمة ألحقتا ضرراً كبيرا بإسرائيل وصورتها وسمعتها في العالم.
وبكل الأحوال أيقظت شكوى جنوب إفريقيا ضد الجرائم الإسرائيلية الضمير الإنساني خصوصاً أنها جاءت من دولة لم تكن يوماً طرفاً في النزاع القائم وكانت دائماً تسعى إلى حماية حقوق الإنسان وتحقيق العدل والمساواة بين البشر.