ناصيف حتي11/04/2022
كانت منطقة الشرق الأوسط تعتبر قلب الصراع الدولى بسبب أهميتها الكبرى فى الجغرافيا السياسية وكذلك فى الجغرافيا الاقتصادية. وبدأت منطقة المحيطين (الهندى الهادئ) «بسرقة» الأولوية أو مركز الصدارة من الشرق الأوسط فى السنوات القليلة الأخيرة.
حصل ذلك بسبب تصاعد حدة التنافس والمواجهة الأمريكية الصينية فى ذلك «المسرح الاستراتيجى» الذى يحوى ستين بالمائة من الثروة العالمية وثلاثة أخماس سكان العالم. لكن انفجار الحرب فى أوكرانيا والموقع الاستراتيجى المهم لهذه الدولة على حدود روسيا الاتحادية، والاصطفافات التى أدت إليها هذه الحرب، أو تحديدا المواجهة الغربية الروسية، أعادت الأولوية إلى «المسرح الاستراتيجى» الأوروبى فى الصراع الدولى.
وللتذكير فإن الحرب العالمية الأولى وكذلك الحرب العالمية الثانية انطلقتا فى ذلك المسرح الاستراتيجى. ونسارع إلى القول إن المقارنة التاريخية تهدف إلى التذكير بأهمية هذا المسرح الاستراتيجى بقواه الكبرى والمتصارعة دون أن يعنى ذلك بتاتا احتمال حصول حرب مشابهة للحربين المذكورتين لتغير الظروف والمعطيات الموضوعية كليا.
لن تحصل حرب عسكرية على الصعيد العالمى، ولكن الحرب الدائرة فى «المسرح الأوكرانى»، وهى فى بعدها الأساسى حرب غربية روسية بالوكالة، ستكون لها كما نشهد، تداعيات عالمية على جميع الأصعدة من الاقتصادى، إلى السياسى، إلى المالى والصحى. فأسعار الغاز الطبيعى استمرت فى الارتفاع فى أوروبا مع استمرار المخاوف من المخاطر على استمرار إمدادات الغاز إلى أوروبا باعتبار أن الأراضى الأوكرانية هى أحد الممرات الرئيسية للغاز الروسى. ولا تكفى طمأنة المفوض الأعلى للشئون الخارجية والسياسة الأمنية للاتحاد الأوروبى بأن أوروبا ستستغنى عن الغاز الروسى خلال عامين لتخفيض تداعيات الأزمة فى هذا المجال على الاقتصاد الأوروبى وعلى المواطن فى أوروبا. فيما حذرت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو) من الارتفاع الهائل فى أسعار المواد الغذائية بسبب الانخفاض الكبير فى حجم التصدير من «مسرح الصراع» إلى الدول المستوردة.
يمكن تقليص مساحة النزاع وتخفيضه مع الوقت وتحويله إلى هدنة عبر الاعتراف غير الرسمى بالطبع، والمؤقت دون تحديد إطار زمنى، بالنفوذ الروسى فى الدونباس. المنطقة التى ستصبح حدود الأمر الواقع بين روسيا من جهةٍ وأوكرانيا وحلفائها الغربيين من جهة أخرى، إلى أن يحين موعد التسوية التى تستدعى توافقا غربيا روسيا أشمل من أوكرانيا
كما يعترف رئيس الوزراء الروسى بأن بلاده تواجه أوضاعا صعبة لم تواجهها منذ عقود ثلاثة. ولكن هذا «الاعتراف» من المسئول الروسى لا يعنى أن روسيا ستتراجع عن أهدافها الاستراتيجية فى هذه الحرب لأهميتها الحيوية للأمن القومى الروسى. ويبدو إلى جانب الحرب العسكرية وفى ظل عدم التقدم الفعلى حتى الآن فى المفاوضات، فإن الاستراتيجية الروسية تتجه إلى إعادة التموضع العسكرى فى المنطقة الجغرافية الحيوية لروسيا، منطقة الدونباس. المنطقة التى تضم جمهوريتى لوجانسك ودونتسك، القريبتين أساسا فى الانتماء لروسيا والتى اعترفت الأخيرة باستقلالهما دون أن يكون لهذا الاستقلال أى نتيجة على وضعهما على الصعيد الدولى أو على صعيد الأمم المتحدة. قد يخفض ذلك من مستوى التكلفة الروسية لاستمرار الحرب على جميع الأصعدة، وقد يوجه رسالة إلى الأطراف العدوة بأن روسيا تمسك بهذه الورقة الأساسية فى الصراع. كما تؤكد على أهميتها بالنسبة لموسكو فى أى مشروع تسوية سلمية للحرب الدائرة. الاعتراف الدولى مستقبلا باستقلال هاتين الجمهوريتين شبه مستحيل لأنه يؤسس لسابقة خلق فوضى دولية فى شأن عدم الحفاظ على الوحدة الترابية للدول القائمة. ولكن الأطراف الغربية المعنية بهذا النزاع قد ترضى بصيغة أقل من الاستقلال. صيغة تعزز الوضعية الخاصة، وبالتالى ولو بشكل غير معلن، لموقع روسيا ونفوذها فى هاتين الجمهوريتين فى التسوية الأساسية عند التوصل إليها. فعدم التوصل إلى حل حسب الشروط الروسية لهذا الملف سيعنى بقاء روسيا كضامنة بالقوة لاستقلال فعلى ولو غير قانونى لهاتين الجمهوريتين، كما هى حال جمهورية شمال قبرص التركية. وبالطبع تود روسيا الحصول على هذه الضمانة إلى جانب عدم انضمام أوكرانيا إلى منظمة حلف شمال الأطلسى. كذلك تود روسيا من الغرب القبول بالضم القانونى لشبه جزيرة القرم إليها وهى التى تسيطر عليها أو إيجاد صيغة تسوية لهذا الموضوع.
الطريق ليس قصيرا بعد للتوصل إلى التسوية النهائية حسب حرب الشروط المتبادلة. ويمكن تقليص مساحة النزاع وتخفيضه مع الوقت وتحويله إلى هدنة عبر الاعتراف غير الرسمى بالطبع، والمؤقت دون تحديد إطار زمنى، بالنفوذ الروسى فى الدونباس. المنطقة التى ستصبح حدود الأمر الواقع بين روسيا من جهةٍ وأوكرانيا وحلفائها الغربيين من جهة أخرى، إلى أن يحين موعد التسوية التى تستدعى توافقا غربيا روسيا أشمل من أوكرانيا. والنزاع ما زال مفتوحا فى الزمان ولو كان من الممكن تقييده فى المكان.
أخيرا، مفارقة لا بد من الإشارة إليها وقوامها أن روسيا تريد من أوكرانيا أن تعتمد النموذج الفنلندى أو السويدى، فيما الحرب القائمة تدفع بالدولتين الأخيرتين إلى التفكير بالتخلى عن الحياد والتوجه نحو الانضمام إلى الحلف الأطلسى مسقطين بالتالى حيادهم التاريخى.
أخيرا، مفارقة لا بد من الإشارة إليها وقوامها أن روسيا تريد من أوكرانيا أن تعتمد النموذج الفنلندى أو السويدى، فيما الحرب القائمة تدفع بالدولتين الأخيرتين إلى التفكير بالتخلى عن الحياد والتوجه نحو الانضمام إلى الحلف الأطلسى مسقطين بالتالى حيادهم التاريخى.
(*) بالتزامن مع “الشروق“