أولاً؛ آجلاً أم عاجلاً، ستضع الحرب أوزارها في أوكرانيا. لكن لا أحد يعلم متی؟ وكيف؟ من المحتمل ان يتمرد الجيش الروسي علی قائده الأعلى فلاديمير بوتين ويتراجع إلى الوراء بذريعة انه لا يعلم لماذا يقاتل خارج حدوده وتنتهي الحرب بانتصار أوكرانيا، وهذه فرضية مستبعدة. من المحتمل ايضاً استقالة الرئيس بوتين بسبب الضغوط الداخلية والخارجية علی خلفية العقوبات والعزلة الدولية وأن تنتهي الحرب أيضاً لمصلحة أوكرانيا، وهذا الاحتمال مستبعد أيضاً. ومن المحتمل انهيار الجيش الأوكراني ومجيء قيادة عسكرية جديدة تنظر للتطورات بشيء من العقلانية والواقعية بعد الدمار الذي لحق بالبنية العسكرية الاقتصادية والخدمية في البلاد، وهذا احتمال غير مستبعد. كما يوجد احتمال آخر وهو اللجوء للحوار والمفاوضات الجدية التي تزيل القلق الروسي الذي من أجله إندلعت الحرب وصولاً لإبرام اتفاقية تحدد العلاقة الثنائية بين البلدين، وهذا احتمال ممكن جداً. أما احتمال قيام حرب بين روسيا وحلف شمال الاطلسي فهو احتمال مستبعد جداً لأسباب تعود للدول الأوروبية التي ستستقبل مدنها الصواريخ والقذائف والحمم من هنا وهناك ولا تستطيع تحملها.
ثانياً؛ أي نتيجة للحرب في أوكرانيا ستنعكس علی الواقع الدولي؛ ومرحلة ما بعد أوكرانيا لن تكون كما قبلها لأنها ترتبط بقوتين عالميتين هما روسيا وأمريكا بشراكتها مع اطر دولية كالاتحاد الأوروبي وحلف الناتو إضافة إلی أن عديد دول العالم معنية بهذه الحرب إن في انعكاس آثارها الإقتصادية أو الأمنية أو في إصطفافها السياسي علی خلفية العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة وأوروبا. هذه الحرب لم يُخطّط لها أن تنتهي إلى لا رابح ولا خاسر. إنها تسير علی قاعدة “صراع الإرادات”.
إنها حرب الالفية الثالثة. لم يعد ينقصها سوی الأسلحة النووية التي يُهدّد بها هذا الطرف ويتخوف منها الآخر. هل ستفضي إلى تعديل قواعد اللعبة والاشتباك في العالم؟ نعم أيضاً فمؤشراتها تدل علی ذلك
ثالثاً؛ منذ أكثر من ثلاثة عقود من الزمن والولايات المتحدة تفتح عينيها علی المياه الروسية الدافئة وتحديداً جمهوريات اسيا الوسطی التي تُشكّل المجال الحيوي لروسيا. كانت روسيا تعمل كرجل اطفاء حرائق. لكن أوكرانيا عام 2022 تختلف عن أوكرانيا 2004. ولذلك أعطت روسيا العين الحمراء لإبعاد مجالها الحيوي في اسيا الوسطی عن صواريخ الناتو ومحاولة تغيير قواعد اللعبة. إنها لعبة مكلفة لكن لم يكن لدى روسيا خيار آخر.
رابعاً؛ يخطىء من يعتقد أن الحرب الأوكرانية تشبه إلی حد بعيد الحرب في أفغانستان أو العراق أو لها مقاربة شبيهة بالحادي عشر من سبتمبر/أيلول أو بالحرب العراقية ـ الايرانية. هذه الحرب جاءت بعد “جائحة كورونا” التي ضربت المجتمع الدولي وأثّرت علی اقتصادياته ومن أراد لها أن تشتعل يتحمل عواقب أمورها. ثمة عقوبات غربية مشددة جداً قد فُرضت علی دولة ثقيلة وهي روسيا؛ ولا يُراد لها ان تنهض لتبقی محصورة فقط ضمن حدودها وأن تستمر بلا طعم ولا لون ولا رائحة بعد فرض عقوبات لا أحد يستطيع التنبؤ مسبقاً بآلية رفعها مستقبلاً.
خامساً؛ تعمل الولايات المتحدة لأجل تثبيت صمود الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي وإبقائه واقفاً حتی وان كان بالعقاقير المنشطة ضد اي اتفاق محتمل مع روسيا. الولايات المتحدة ليست دولة بسيطة وعادة ما تحاول استغلال مثل هذه التطورات لتوظيفها باتجاهات عدة لتحقيق اهداف داخلية وخارجية عديدة. ومن الطبيعي ان تستغل أمريكا هذه اللحظة الدولية من أجل الضغط علی روسيا لتقديم المزيد من التنازلات علی صعيد “النظام العالمي الجديد”؛ ومن الطبيعي جداً استغلالها كورقة في الانتخابات الامريكية النصفية المنعقدة في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل خصوصاً أن مؤشرات شعبية الرئيس جو بايدن آخذة بالإنخفاض المستمر وهي غير مشجعة.
سادساً؛ قال الرئيس بوتين إن الحرب الأوكرانية قضت علی “الأحادية القطبية” التي تتمتع بها الولايات المتحدة، وهي تشير إلی إعادة خلق “ثنائية قطبية”. هناك منظمات وقوی دولية وإقليمية صاعدة كـ”البريكس” واتحاد جنوب شرق اسيا ومنظمة شنغهاي؛ وهذه اقطاب نامية وواعدة في النظام العالمي الجديد وهي في اقل تقدير لا مصلحة لها في نظام عالمي “أحادي القطبية”.
سابعاً؛ هناك تساؤل هل نحن في “حرب عالمية ثالثة”؟. قبل الاجابة عن السؤال يجب ان نُعّرف الحرب العالمية. هل تعني إنخراط المجتمع الدولي بأسره فيها؟ أقول نعم. لأن الإقتصاد العالمي علی المحك في الوقت الراهن؛ والكل قلق بشأن الأمن الغذائي وأسعار الطاقة ومعدلات التضخم وارتفاع الأسعار. هل أن الحرب العالمية تعني موجات كبيرة من اللاجئين والمهاجرين والنازحين والمتضررين؟ أقول نعم علی ضوء وصول اللاجئين الأوكرانيين إلی أكثر من 5 ملايين شخص توزعوا على دول تتأثر بهؤلاء اللاجئين وتحسب لهم حساباً بالقيراط. ثم أسال هل تُستخدم في هذه الحرب أسلحة متنوعة؟ أقول نعم. إنها حرب الالفية الثالثة. لم يعد ينقصها سوی الأسلحة النووية التي يُهدّد بها هذا الطرف ويتخوف منها الآخر. هل ستفضي إلى تعديل قواعد اللعبة والاشتباك في العالم؟ نعم أيضاً فمؤشراتها تدل علی ذلك. طلب طرد روسيا من مجلس الأمن الدولي، وهو إطار أُنشیء أصلاً للنظر في النزاعات وحماية الامن والسلم العالميين. ومن يعلم ربما نحن علی أعتاب “نظام عالمي جديد” بلون وطعم ورائحة مختلفين عن السابق.
أوكرانيا عام 2022 تختلف عن أوكرانيا 2004. ولذلك أعطت روسيا العين الحمراء لإبعاد مجالها الحيوي في اسيا الوسطی عن صواريخ الناتو ومحاولة تغيير قواعد اللعبة. إنها لعبة مكلفة لكن لم يكن لدى روسيا خيار آخر
ثامناً؛ الاتحاد الأوروبي والناتو هما إطاران مزعجان للولايات المتحدة. الأول منذ تأسيسه والثاني بعد انهيار الإتحاد السوفييتي. الأول، تدفع بريطانيا لانهياره بعد انسحابها منه؛ والثاني، طالب الرئيس الامريكي السابق دونالد ترامب الاوروبيين بتحمل أكلاف إستمراره بالكامل. ما لم يتمكن الرئيس ترامب من تحقيقه سيكمله الرئيس بايدن.
تاسعاً؛ هيمن الدولار الأمريكي علی الاقتصاد العالمي خلال العقود السبعة الماضية حتی أن اليورو الذي قام علی أمجاد المارك الألماني والفرنك الفرنسي لم يفلح في الصمود امامه. الآن فتحت روسيا باب “تصدع” هذه الهيمنة. لا أتوقع انهيار الدولار بهذه البساطة لكنها فكرة يسيل لها لعاب العديد من الدول المتضررة من هيمنة الدولار.
عاشراً وأخيراً؛ هل نحن أمام متغير عالمي جديد؟ أنا اعتقد نعم؛ لكنه يعتمد علی مآلات التطورات. عالمنا السياسي ليس مستقراً وأمامه العديد من الخيارات والقواعد والمصالح التي قد تشتبك مع بعضها البعض وقد تتلاقح وفي احيان اخری تتصالح. المهم أنه سيكون هناك مولود جديد.