في أوكرانيا.. بداية الامبراطوريات أو نهايتها!

تتعرض الولايات المتحدة إلى ما يُشبه عملية القضم المتدرج لنفوذها في النظام العالمي، لكن ذلك لا يُبدل حقيقة أنها ما زالت القطب الأول منذ قررت النزول إلى بر أفغانستان في العام ٢٠٠١ ثم بر العراق في العام ٢٠٠٣، فكان أن تسيّدت دولياً وإنطوت حقبة الحرب الباردة.. ولو إلى حين!

مع إنقضاء الشهر الثاني على حرب روسيا الأوكرانية، يرتسم أمامنا مشهد يحتاج إلى تقييم. في الجيوبوليتيك، هذه حرب متوقعة. والأهم أنها حرب مفروضة بقوة توالي الأحداث والوقائع وليست حرب ضرورة وإرادة وتخطيط مدروس بكل حرف من حروفها. الرئيس فلاديمير بوتين اختار توقيت الرصاصة الأولى لكنه بكل تأكيد لا يملك وحده قرار الرصاصة الأخيرة. هذه معركة لن ترسم موقع روسيا في عالم الغد، بل نحن أمام حرب سترسم بنتائجها مستقبل النظام الدولي، تبعاً للأطراف المتصارعة: روسيا من جهة والولايات المتحدة والناتو من جهة ثانية.

ثمة فرق بين النفوذ والقوة. أنتَ تملك نفوذاً، أي قدرة على التأثير في صانعي السياسات والقرارات والأحداث. دولة تملك نفوذاً أي أنها تقرر في سياسات وشخصيات هذا البلد أو ذاك. اما القوة فهي القدرة على فرض التأثير والإرادة على الآخرين. الأولى تتسم بطيف ناعم كالعطر والثانية بوجود يبلغ حد الوقاحة والصلابة. لا تزال واشنطن صاحبة نفوذ بما تملك من قدرات هائلة في المجالات الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية والإعلامية.. والأهم تلك المطبعة التي تكلفها وزارة الخزانة والإحتياطي الفدرالي بطباعة العملة الخضراء والمقدرة حالياً بنحو عشرين تريليون دولار وهي كتلة كفيلة بقلب العالم صعوداً ونزولاً.

تتعدى المسألة ماذا تملك من سلاح وصواريخ وطائرات وتقنيات.. لم يعد الأمر عقدنا إتفاقا أم لا. المسألة أكبر من ذلك بكثير. العلاقة بين القوة الأمريكية والنظام الدولي ليست مباشرة. بينهما علاقة مركبة وطردية. نتيجة هذه تؤثر على تلك. فائض القوة الأمريكية جعل أمريكا تحتل المرتبة الأولى في النظام العالمي منذ ثلاثة عقود من الزمن، غير أن ذلك ليس كافياً للمحافظة على زعامة نظام وقيادته. كلما كان يفيض منسوب التأثير الصيني والروسي كانت تتآكل قوة التأثير الأمريكي.. إلى أن وصلنا إلى لحظة أوكرانيا. من ينظر إلى الخريطة لا يستطيع إلا أن يتفهم فلاديمير بوتين. المصالح الجيوسياسية تحكم نظرته ويسري ذلك على الأمريكيين.

هناك الآن معركة لن يتردد الخصمان في إستخدام أي سلاح يمتلكانه فيها، بما في ذلك النووي (برغم صعوبة تصور ذلك) لأن التراجع لا يعني هزيمة شخص هنا أو هناك. رئيس دولة أو حزب أو دولة عميقة. الهزيمة هي لنظام عالمي. من سيمتلك القوة الصلبة الكفيلة بحفظ النفوذ والتأثير.

لا يستطيع الغرب تغليف حرب أوكرانيا ايديولوجياً. بوتين ليس شيوعياً. حالياً هو إبن المنظومة الرأسمالية. لا يمكن إستخدام “بعبع الإلحاد” لتحريض المؤمنين عليه في العالم الكاثوليكي أو الأرثوذكسي أو الإسلامي. ولذلك، ثمة سؤال بديهي هل تستطيع أمريكا المحافظة على هيمنتها من دون مشروع فكري جديد؟ القوة ليست ترسانة عسكرية وحسب. تحتاج الى مشروع فكري جديد او قديم. صراع بين نظرتين وليس بين أبناء نظرة واحدة. كانت الحرب الباردة رافداً اساسياً في تغذية فكرة التفوق الغربي. في الوقت ذاته، صاغت القوة الأمريكية كثيراً من الأفكار والأيدولوجيات في سياق الصراع (صراع الحضارات ونهاية التاريخ إلخ..). لكن مع انهيار الصراع بين اليسار واليمين.. ربح الغرب معركة النقاش لكنه خسر الحرب.

لا يستطيع الغرب تغليف حرب أوكرانيا ايديولوجياً. بوتين ليس شيوعياً. حالياً هو إبن المنظومة الرأسمالية. لا يمكن إستخدام “بعبع الإلحاد” لتحريض المؤمنين عليه في العالم الكاثوليكي أو الأرثوذكسي أو الإسلامي. ولذلك، ثمة سؤال بديهي هل تستطيع أمريكا المحافظة على هيمنتها من دون مشروع فكري جديد؟

هناك أربعة مفاهيم تحتاج إلى المراجعة والتفكير. الهيمنة الأمريكية؛ العولمة؛ النموذج الأمريكي؛ وحركة التاريخ.. هي في الواقع نظريات صاغها مؤرخون ومحللون على مدار العشرين سنة الماضية متكئين على النصر الذي حققه العالم الغربي غداة سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1991. هي في العمق سياق يمكن تتبعه منذ التوسع الكولونيالي مروراً بالحروب المتعددة له وصولا الى الاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان. حكاية دوّنها التاريخ ثم قرر أصحاب هذا التاريخ أن يقفلوا بابه لأنه ببساطة قد انتهى!

سردية ذكية وممتعة وقت نشوة الانتصار. غير أنها بحساب النتائج عبارة عن فوضى كبيرة على الناس ومصالح الأمم. سرعان ما تبددت هذه النشوة لتتحول الى طاقة غير بناءة في إدارة العالم. الأكيد أن فرانسيس فوكوياما أخطأ حين قرر أن التاريخ قد انتهى.

أربع مفردات مرتبطة بخيط رفيع. ظن البعض أن هذا الربط متماسك فكريا وسياسياً. لكن ما هكذا هي حكاية الإمبراطوريات. قصص البداية والنهاية بينها فصول كثيرة. لربما نعيش اليوم الفصل الأخير من هذه الحكاية. فصل قد يكون بحجم القصة بأكملها. ذلك أن الوقت عند الأمم لا يقاس بعدده بل بزخمه وكثافة أحداثه ونتائجه.

سيسكت المدفع يوماً ما. لا توجد حرب حتى آخر رجل. وليس هناك نتيجة تُحقق بأي ثمن. مصير النظام الدولي بات أكثر ارتباطاً بهوية القوة الأمريكية وليس باصطفاف حلفائها. مباركة ولادة النظام العالمي الجديد بهذه السرعة غير مفيد. هناك أشواط إضافية. الاكيد ان النظام الدولي الجديد سيكون متعدد الاقطاب. والاكيد أيضاً أن لروسيا مقعداً فيه. لربما هذا اقصى ما كان يطمح اليه بوتين. المشاركة في صياغة مصير اوكرانيا تُثبت موقع موسكو شريكاً اصيلاً.

إقرأ على موقع 180  إيران التي ذهبت شرقًا.. لماذا تفاوض غربًا؟

سؤال اليوم التالي لنهاية تلك الحرب هو سؤال ما قبلها. المواجهة بين أمريكا والصين أيضاً حتمية. التوقيت من سيختاره وأي شكل ستتخذه الحرب بين “الجبارين”. هي معركة أيضاً بين الحروب التي ستفضي إلى تبلور صورة النظام الدولي الجديد.

يقلقني أمرٌ لا أجد جواباً عليه. عندما ولد نظام ما بعد إنهيار الإتحاد السوفييتي أين كان العرب ولمن صفقوا؟ الآن، وعلى عتبة نظام دولي جديد، أين تقف دولنا وشعوبنا؟ ما هي المصالح المفروضة علينا وما هي المصالح التي لنا هامش في التحرك حولها؟ هل لنا أن نحجز مقعداً في هذا النظام أم نبقى مجرد متلقفين؟

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
طارق زيدان

كاتب سعودي

Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
online free course
إقرأ على موقع 180  غيورا أيلند: أميركا ضيّعت "الفرصة الروسية"!