كسر الإرادات بين روسيا وأوكرانيا.. وصناعة معادلة دولية جديدة (2)

منذ شهرين، وتحديداً في الرابع والعشرين من شباط/فبراير 2022، بدأت الحرب الروسية الأوكرانية، لتبدأ معها أيضاً مرحلة سياسية وإقتصادية فاصلة ستفضي، تبعاً لنهاياتها، إلى رسم معالم نظام دولي.. جديد.

لقد اتجه كثيرٌ من المحللين، بصورة لا تخلو من الرغبوية والشعبوية، التي لا تنصرف في حسابات السياسة والاقتصاد الإستراتيجية، لتفسير متغيرات السلوك العسكري الروسي في أوكرانيا، وعملية إعادة الانتشار للقوة العسكرية الروسية، والتكتيك الجديد الذي اعتمدته القيادة الروسية، بأنها بالمجمل متغيرات طبيعية وعملية، تندرج في إطار التكتيك الإستراتيجي، والتوجه نحو مدخل روسي مختلف، لإدارة المعركة في أوكرانيا، بصورةِ يمكن أن تساعد في تحقيق حسمٍ سريع للعملية العسكرية، بتكلفة أقل، وبالتالي تساعد في تحقيق الأهداف، التي دخلت روسيا لأجلها الحرب، والتي لا يمكن لها أن تتراجع عنها بأي حال ومهما كلف الثمن، والتي (أي الأهداف) تبدأ من هدف ردع أوكرانيا، ومنعها من الانضمام لحلف الناتو، أو على الأقل حياد أوكرانيا دولياً، وانتهاءً بهدف وقف تمدد حلف الناتو شرقاً، وإمكانية التأسيس لبناء نظام عالمي جديد، متعدد مراكز القوة والأقطاب. ويبقى السؤال بكل الأحوال ما الذي حققته روسيا حتى هذه اللحظة؟

أولاً؛ من الدفاع إلى الاستيعاب والهجوم

يساعد التدقيق في طبيعة المواقف والنتائج، التي أفرزتها الحرب الروسية الأوكرانية، حتى اللحظة الراهنة، في استخلاص مجموعة كبيرة من النتائج، يندرج في مقدمتها أن مساعي المفاوضات والوساطات لم تنجح لأن المشروع الأمريكي المخطط، لا يسمح لها أن تنجح. وعليه لم يُلحظ أي تبدل يذكر في الموقف الأوكراني، فلا تزال التصريحات الأوكرانية ضد الروس على أشدها، ولم يتراجع الأوكرانيون عن طلبهم ورغبتهم في الانضمام إلى نادي الإتحاد الأوربي وحلف الناتو، بل عادوا وأكدوا وأصروا على ذلك، حتى أن الرئيس الأوكراني، ردد العبارة مراراً قائلاً: “لو أن أوكرانيا داخل حلف الناتو، لما كان قد حصل ما حصل، ولما كان قد تجرأ الروس على شن الحرب على أوكرانيا”. واللافت للإنتباه في هذا الإطار هو أن الجانب الأوكراني، وبدعم وتوجيه غربي (أمريكي بريطاني)، كان قد صاغ موقفه، بدايةً بتبني إستراتيجية دفاعية، قوامها مزيدٍ من التحصين والصبر، والتكيف وترويض الأوكرانيين لاستيعاب الحرب والتكيف معها لأجل طويل، وذلك كسيناريو لاستنزاف القوات الروسية عسكرياً وأخلاقياً في معركةٍ، يبقى الفصل فيها والحسم لعامل الزمن. إلا أن الموقف الأوكراني شهد تغيراً مع بدء تنفيذ روسيا لمقاربتها الجديدة، التي كنا قد أشرنا إليها في ما تقدم. وقد برزت ملامح التوجه العسكري الأوكراني الجديد، من خلال مجموعة من المؤشرات، يندرج في مقدمتها الهجوم الأوكراني، على أهداف إستراتيجية روسية نوعية، كالهجوم الذي أسفر عن تدمير السفينة الحربية الروسية (موسكوفا)، والتي تعد هدفاً استراتيجياً نوعياً، بحسبانها تشكل العمود الفقري للأسطول البحري الروسي الكبير، المتمركز في حوض البحر الأسود. ويبقى الأبرز في الموقف الأوكراني الجديد هو نجاح القيادة الأوكرانية في استيعاب الصدمة/الحرب، وترويض الشعب الأوكراني للتكيف معها، كحالة قد تمتد لبعض الوقت، وهذا يبدو واضحاً عن طريق مظاهر العودة للحياة شبه الطبيعية في العاصمة الأوكرانية كييف ومحيطها، وبعض المدن الأخرى، وأكثر من ذلك رغبة الأوكرانيين المهجرين داخل أوكرانيا وخارجها في العودة إلى منازلهم، ومحاولة استئناف دورة النشاط التجاري والاقتصادي.

السيناريو الاحتوائي الذي يستهدف بصورة مزدوجة إضعاف الدولة الروسية (اللا مهزومة واللا منتصرة) والهيمنة على أوروبا، هو السيناريو المطلوب والمرغوب لدى دوائر صنع القرار الأمريكية، وهو الأقرب للواقع

ثانياً؛ رهانات أبعد مدى وأكثر وضوحاً

تبين الوقائع والمعطيات أيضاً، أن نتائج الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، حتى اللحظة الراهنة، قد صبّت بالمنظور الإستراتيجي في خانة المصالح الإستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية. التي أصبح من السهل عليها أن توظف وتستثمر أكثر وبقوة، في نقاط الضعف البنيوية الروسية، والمشكلات المركبة، التي واجهت الروس في هذه الحرب، والتي ظهرت وانكشفت على وقع الحرب بصورةٍ واضحة، من خلال مؤشرات عديدة، يمكن الإشارة إليها عن طريق الآتي:

1ــ التوجه الروسي بعد ما يقارب شهرين من الحرب، نحو مقاربة عسكرية مختلفة وإعطاء الفرصة للحوار وللدبلوماسية، وتصويره على أنه جاء كنتيجة لليأس والعجز وللضعف والخسائر الكبيرة، التي مُني بها الروس في أوكرانيا، وليس كنتيجة للقوة وللقدرة على تحقيق الحسم والانتصار، وهذا بخلاف ما كان يُعتقد عن روسيا ويُشاع عليها قبل بدء الحرب في أوكرانيا وفي أماكن أخرى.

2ــ ضعف المنظومة العسكرية الروسية وتخلفها، بالمقارنة مع المنظومة العسكرية الأمريكية. فقد كانت أوكرانيا ساحة اختبار حقيقي للاستخبارات الروسية، وللقوات العسكرية البرية، وللتقنية العسكرية الروسية، التي لم تتفوق على ما بدا على منظومات وتقنيات التسلح الأمريكية والأوروبية، وهذا ما سيفتح الباب لصفقات بيع تقنيات ومنتجات بريطانية وأمريكية عسكرية ضخمة على مستوى العالم.

3ـــ عجز النموذج السياسي والدبلوماسي الروسي في بعض جوانبه، وارتباكه في عملية تشكيل استقطاب سياسي دولي، وتعبئة الرأي العام العالمي، لتبرير شرعية الحرب الروسية ومسوغاتها على أوكرانيا. مع الأخذ بالحسبان أن روسيا، كانت قد استثمرت بقوة وما تزال، سواء كان من داخل مجلس الأمن الدولي أم من خارجه، أي عبر الإعلام بكشف الحقائق وعرض الوثائق، التي تثبت التورط الأمريكي حتى العمق، والضلوع الكبير في عملية الاستثمار المكثف، في مختبرات البحث البيولوجية والجرثومية على أراضي الدولة الأوكرانية التي أُستُخدِمَت كمنصة لنشر الأوبئة والأمراض (حتى أنها أظهرت وثائق تدين ابن جو بايدن بالذات بالتورط) عن طريق استخدام وسائل وأدوات وسلوكيات محرمة وممنوعة دولياً.

4ـــ استخدام الولايات المتحدة الأمريكية للحالة الروسية، لتوجيه رسالة للدول التي لديها شهية امتلاك السلاح النووي، بأن هذا السلاح غالباً لا ينفع، ولا يمكن الرهان عليه، إلا في حالات معينة حدود الانتحار. وبذلك تكون الولايات المتحدة الأمريكية، قد حولته (أي السلاح النووي) من عامل قوة ورعب، إلى عبء معنوي وأخلاقي واقتصادي، وبالتالي إلى عامل ضعف.

من الواضح تماماً أن الولايات المتحدة الأمريكية، تعمل بقوة في الوقت الراهن، وعلى الصعد والمستويات كافة، لاستنفار جميع القوى، وتجميع عناصر القوة والنفوذ، وكل ما تمتلك من منظومات القوة والعلاقات والإغراءات، لتقليم أظافر الدولة الروسية، التي تمادت (بحسب صناع القرار الأمريكان)، وأصبحت تهدد بقوة المصالح الإستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية.

إقرأ على موقع 180   إنفجرت بين السعودية والامارات.. تنابذ نفوذ هنا وهناك

ثالثاً؛ الإنخراط الأوروبي.. أمريكياً!

لا جديد يُذكر على مستوى التوجهات الإستراتيجية للموقف الأوروبي. وما يُستخلَص في هذا الإطار هو الانخراط الأوربي الكامل والالتزام اللا محدود بالمسار الأمريكي، والتظلل بالعباءة الأمريكية. ويبدو ذلك واضحاً من خلال مجموعة من المعطيات، يندرج في مقدمتها، مظاهر الاحتضان الأوروبي الكامل للقيادة السياسية والعسكرية الأوكرانية، فقد اتجهت أوروبا وعلى امتداد شهرين، نحو إرسال المزيد من الرسائل السياسية الموجهة لروسيا، وذلك عن طريق المزيد من الزيارات الميدانية لأوكرانيا، التي قام بها قادة الإتحاد الأوروبي (رئيس المفوضية الأوروبية ومدير العلاقات الخارجية)، وبعض القادة الأوروبيين (رئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون وغيره)، والتي شهدت إطلاق المزيد من إعلانات التأييد والدعم، لـلرئيس الأوكراني (فولوديمير زيلنسكي) وللقيادة الأوكرانية، وبيانات الشجب والاستنكار ضد القادة الروس والرئيس(فلاديمير بوتين) من العاصمة (كييف)، وبصحبة الرئيس (زيلنسكي)، من كل ما تقدم إلى حملات الدعم المادي المفتوحة على مدار الساعات، المتجه من جميع الدول الأوروبية نحو كييف دون توقف.

رابعاً؛ رسائل عاجلة وأخرى في الطريق

لم يشهد الموقف الصيني تحولاً نوعياً يذكر، وبقي الموقف كسابق عهده، يركز على مسألة الدعوة للحل السلمي، ودعم الجهود الدبلوماسية، وإدانة العقوبات، وعدم التوجه نحو تبني خيارات إستراتيجية انقلابية على الإطلاق، مع الأخذ بالحسبان أن الصين تدرك بقوة، بأن الاستهداف الأمريكي القادم بعد روسيا سيكون للصين. لكن الصين تدرك بالمقابل أيضاً، بأن انخراط الولايات المتحدة الأمريكية بالملف الأوكراني، وانشغالها به، سيستغرق وقتاً طويلاً، وأن الخروج منه لن يكون بالبساطة، التي يعتقد بها، أو يظنها الأمريكيون. ولذا فقد عكفت على تطوير بدائلها الإستراتيجية على المستوى الداخلي والخارجي، تحديداً لجهة ما يتعلق بإمدادات حوامل الطاقة (النفط والغاز)، وذلك بالتركيز على توثيق علاقاتها الاقتصادية مع طهران. وتشير البيانات والمصادر ذات الصلة، إلى أن صادرات النفط الإيراني المتجهة إلى الصين تتم بعلم الولايات المتحدة الأمريكية، وبكميات كبيرة بلغت مئات الملايين من براميل النفط، وبقيمة تتجاوز (20) مليار دولار. ولا يجوز أن ننسى الرسالة التي وجهتها الولايات المتحدة الأمريكية، لكلٍّ من الصين والهند عن طريق الباكستان (الجارة العدو التاريخي للصين والهند)، حيث أطاحت بـ (عمران خان) عن طريق البرلمان، كما لا يجوز أن ننسى الرسالة السابقة لروسيا والهند والصين وإيران من أفغانستان، وثمة رسائل أخرى في الطريق من غير مكان.

إن الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا هي معركة كسر إرادات، وإعادة تعريف للمصالح الإستراتيجية للدول الكبرى، وتشكيل للهويات وللتحالفات السياسية والاقتصادية والعسكرية، لن تنتهي بالأمد المنظور

خامساً؛ بين الانتصار ونصف الانتصار

إن الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا هي معركة كسر إرادات، وإعادة تعريف للمصالح الإستراتيجية للدول الكبرى، وتشكيل للهويات وللتحالفات السياسية والاقتصادية والعسكرية، لن تنتهي بالأمد المنظور. ما يعني أن أوكرانيا ستبقى ساحة مفتوحة، لمعركة عسكرية طويلة المدى (باردة – ساخنة)، قد تنتهي بتقسيم أوكرانيا إلى شرقية وغربية. وعندها سيتم توزيع نتائج الحرب وعوائدها، بنصف انتصار للرئيس (فلاديمير بوتين) بأوكرانيا شرقية، يمكن أن يستثمره ويصرفه في أي مواجهة محتملة في الساحة الداخلية، وتحفظ ماء وجه روسيا في الساحة الدولية. ونصف انتصار للرئيس (زيلينسكي) بأوكرانيا غربية، يمكن أن يستثمر به مع أتباعه، ويصرفه في الساحة الداخلية الأوكرانية، مع إمكانية منحه (شرف) الانضمام لنادي دول الإتحاد الأوربي، وتحقيق حلم الأوكرانيين بذلك. وبين هذا وذاك يبقى الانتصار الكامل للولايات المتحدة الأمريكية، والذي يتمثل ببقاء الرئيس (بوتين) كحاجة إستراتيجية للغرب، على رأس الدولة الروسية (المقلمة الأظافر والمستوعبة للدرس، الذي لقنتها إياها الولايات المتحدة الأمريكية)، والتي ستبقى (أي روسيا) محاصرة ومعزولة لأجلٍ طويل، عن طريق آليات المقاطعة والحظر، كما ستبقى محتواة بقوة، بواسطة العقوبات الاقتصادية الدولية (التي لن تُرفَع عنها)، ويبقى الوجه الآخر للانتصار الأمريكي، المتمثل في الحفاظ على أوروبا (قلقة وخائفة)، من الجار الروسي المضغوط والمتشنج، الذي ينتظر اللحظة التاريخية، ويتحيَّن الفرصة اللازمة، لتصحيح المعادلة السياسية والاقتصادية الظالمة والمجحفة بحق الدولة الروسية، التي ساهمت أوروبا بقوة في عملية صياغتها واستخراجها.

ومن المهم التوضيح والإشارة في هذا الإطار، إلى أن هذا السيناريو الاحتوائي الذي يستهدف بصورة مزدوجة إضعاف الدولة الروسية (اللا مهزومة واللا منتصرة) والهيمنة على أوروبا، هو السيناريو المطلوب والمرغوب لدى دوائر صنع القرار الأمريكية، وهو الأقرب للواقع. لكن في الوقت ذاته يمكن أن يُستبدل في حال حدثت تحولات سياسية وعسكرية وأمنية دراماتيكية مفاجئة داخل روسيا مخالفة لتوجه القيادة الروسية الحالية (وهو سيناريو وارد ومحتمل وغير مُستبعد في الحسابات الإستراتيجية الأمريكية). عندئذٍ وعليه ستتجه الولايات المتحدة الأمريكية إن حصل، نحو إعادة خلط أوراق اللعب الاستراتيجي من جديد، لاستخراج معادلة سياسية دولية جديدة، تسعى الولايات المتحدة الأمريكية، لاستخدامها وتجييرها، لإخضاع روسيا لقيود نوعية وشروط، كتلك التي خضعت لها ألمانيا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ما يمنح الولايات المتحدة الأمريكية، بعداً إمبريالياً دولياً جديداً، بمضمون ومحتوى أعمق، وأدوات هيمنة أشد. ولا نعتقد بأن القيادة الروسية تغفل ذلك، وأن الصين، وبعض القوى الصاعدة، يمكن أن تسهل. ما يعني أن سيناريو استمرار نموذج (روسيا – بوتين)، سيبقى السيناريو الأرجح، الذي سيتعاطى معه الأمريكيون. ويبقى السؤال الأبرز والأهم في هذا الإطار هو: هل سينجح نموذج (روسيا ـ بوتين) في تحويل التهديدات والعقوبات التي ستستمر إلى أجل غير محدود إلى فرص وإمكانيات؟

(*) راجع الجزء الأول: الحرب الروسية الأوكرانية.. من الهجوم إلى الإحتواء والتكيف 

Print Friendly, PDF & Email
مدين علي

كاتب وباحث في العلاقات الدولية، سوريا

Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  "معركة أوكرانيا".. هلَّ زمن التطرف!