بالمقابل، فإن الإمام الخمينى الذى كان قد ترك إيران إلى منفاه فى مدينة النجف بالعراق قبل نحو ١٥ عاما، كانت لديه قدرة كبيرة على تحريك مشاعر الإسلاميين فى إيران ضد الشاه، وخصوصا بعد كتاباته الشهيرة عن «ولاية الفقيه»؛ وهى الفكرة التى تحتم قيام الفقهاء بحماية المجتمع والدولة الإسلامية من مؤامرات الغرب وعملائهم من خلال الحفاظ على الشريعة الإسلامية، ومن ثم ضرورة تبوء هؤلاء العلماء المناصب السياسية العليا! كتابات الخمينى وخطبه كانت يتم تهريبها من العراق إلى إيران فى شرائط كاسيت أصبحت بعد ذلك هى السلاح الأقوى فى يد المعارضة الإسلامية الإيرانية!
***
برغم أن باقى قوى المعارضة للشاه وتحديدا القوى الليبرالية الديموقراطية، فضلا عن القوى اليسارية، لم تقبل أبدا بفكرة ولاية الفقيه ولا بالدولة الدينية، ولكنها ظلت على اتصالات وتنسيق مع الإسلاميين فى مواضيع العدالة الاجتماعية وإصلاح النظام الاقتصادى وحفظ سيادة إيران ضد التدخلات الغربية!
فى نفس هذا العام ١٩٧٧ وقعت حادثتان توفى فيهما منظر الثورة على شريعتى فى لندن وأخرى توفى فيها مصطفى الخمينى (ابن الإمام الخمينى) فى النجف، وفى كلتا الحادثتين تم اتهام جهاز “السافاك” بالوقوف خلف هذه الحوادث وتصفية المعارضين للشاه!
مع حلول عام ١٩٧٨ كانت إيران على موعد مع واحد من أكثر الأعوام دموية فى تاريخها وربما تاريخ منطقة الخليج وغرب آسيا بأثرها، ففى هذا العام اندلعت عشرات المظاهرات بين المعارضين لنظام الشاه سواء من طلاب العلم الشيعة وعلمائهم أو من قبل باقى الحركات السياسية، وانتشرت هذه المظاهرات فى كل أرجاء البلاد وطالت أكبر المدن (طهران، مشهد، تبريز، قم.. إلخ) ومع محاولات البوليس قمع هذه التظاهرات وقعت عشرات الوفيات ومئات الإصابات فما زادت البلاد إلا غليانا، لكن الأسوأ على الإطلاق كانت الحادثة الإرهابية التى استهدفت سينما «ريكس» بمدينة أبادان أقصى غرب البلاد فى أغسطس/آب من عام ١٩٧٨ حينما قامت مجموعة من الإرهابين بإغلاق أبواب السينما وإضرام النار بها عمدا، ما أدى إلى مقتل كل من فيها حرقا، وقدر عدد الوفيات فى هذه المحرقة بنحو ٤٢٠ شخصا، مما جعلها واحدة من أسوأ الأحداث الإرهابية إن لم تكن الأسوأ على الإطلاق فى التاريخ منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى انتهاء القرن العشرين!
تبادلت حكومة الشاه والمعارضون الاتهامات حول من خطط لهذه الحادثة المفجعة، فاتهم الإسلاميون “السافاك” ونظام الشاه بتدبيرها، وبدوره اتهم الشاه الإسلاميين بتدبيرها، بينما ادعى آخرون أن بعض الأفراد المستقلين قاموا بها دون توجيه من أى جهة من أجل تأجيج مشاعر الغضب ضد الشاه، وأيا كانت الحقيقة فلا خلاف أن هذه الحادثة كانت بداية النهاية لنظام الشاه!
***
أدرك الشاه أن انهيار نظام حكمه قادم لا محالة، وبرغم أن قيادات الجيش الإيرانى كانت ما زالت على ولائها له، لكنه وبعد أن تأكد من تواصل الأمريكان مع المعارضة أدرك أن المغادرة هى الحل الأسلم فغادر إلى المنفى متنقلا بين الكثير من البلاد التى لفظته تباعا حتى استقر به الحال فى القاهرة التى مات ودفن بها، تماما كما كان مصير أبيه قبل نحو أربعين عاما
فى بداية سبتمبر/أيلول من العام ذاته استغل الإسلاميون فى إيران صلاة عيد الفطر فى الساحات المفتوحة فى الميادين الكبيرة بالمدن الرئيسية لتحويلها إلى مظاهرات ضد نظام الشاه، ما أدى إلى تجدد المواجهات المسلحة مرة أخرى لتقع مذبحة جديدة فى رابع أيام عيد الفطر وهذه المرة فى ميدان «جاله» بطهران، حيث وقع نحو ١٠٠ قتيل بين متظاهرين وشرطيين؛ بالإضافة إلى إصابة مئات آخرين، فلم يجد الشاه بدًا من فرض الأحكام العرفية، ثم بعدها بفترة قام بتعيين حكومة عسكرية فى البلاد وبالتوازى قام بالضغط على العراق من أجل طرد الخمينى من النجف، وفعلا توجه الأخير إلى ضواحى باريس، وبينما كان هدف الشاه من الإبعاد هو تقليل تأثير الخمينى على الشعب الإيرانى، إلا أن انتقال الأخير إلى أوروبا جعله محل أنظار الإعلام الغربى فتم تدويل الأزمة السياسية فى إيران على عكس رغبة الشاه فأصبحت بالفعل أيامه معدودة فى السلطة!
استمرت المظاهرات فى البلاد حتى نهاية العام وسط أنباء عن بعض عمليات تمرد بين صغار جنود الجيش تسببت فى إعدامات جماعية لبعضهم حتى سقطت مدينة مشهد فى يد المتظاهرين، وتواليا بدأت باقى المدن الإيرانية فى السقوط فى يد المتظاهرين، وحينها وبعد أن تأكدت إدارة الرئيس الأمريكى جيمى كارتر من أن أيام الشاه معدودة، قامت بتكليف السفير الأمريكى فى طهران بمحاولة فتح قنوات تواصل مباشرة مع المتظاهرين وتحديدا مع المقربين من الخمينى وهو ما تم بالفعل، وكان التقدير الأولى للإدارة الأمريكية والذى ساهم فى صناعته السفير الأمريكى هو أن الخمينى عازم بالفعل على إنشاء نظام ديموقراطى فى إيران يسع جميع الأطياف السياسية فى البلاد بينما يتخذ هو دورا رمزيا أو روحيا، وقطعا ثبت خطأ هذا التقدير تماما بعد ذلك بقليل ليس فقط لأن الخمينى لم ينشىء إلا نظاما دينيا شديد التسلط والاستبداد فى البلاد ولكن لأنه اعتبر أن أمريكا هى العدو الأول للإسلام والثورة الإسلامية!
فور أن أدرك الشاه أن انهيار نظام حكمه قادم لا محالة، وبرغم أن قيادات الجيش الإيرانى كانت ما زالت على ولائها له، لكنه وبعد أن تأكد من تواصل الأمريكان مع المعارضة أدرك أن المغادرة هى الحل الأسلم فغادر إلى المنفى متنقلا بين الكثير من البلاد التى لفظته تباعا حتى استقر به الحال فى القاهرة التى مات ودفن بها، تماما كما كان مصير أبيه قبل نحو أربعين عاما!
***
عاد الإمام الخمينى من باريس إلى طهران فى الأول من فبراير/شباط ١٩٧٩ وسط استقبال شعبى جنونى له أكد للجميع أن الإمام هو الشخص الذى لا يمكن هزيمته فى إيران، وبرغم أن الحكومة المؤقتة التى كان قد عينها الشاه قبل مغادرته طهران قد عرضت على الإمام التعاون وتحويل مدينة قم إلى فاتيكان إسلامية، إلا أن الإمام وأتباعه قطعا لم يرضوا بذلك، فقاموا بالإطاحة بالحكومة المعينة بواسطة الشاه وعينوا حكومة ثورة فى البداية مثلت بعض تيارات المعارضة غير الإسلامية، ولكن سرعان ما انقلب الخمينى على شركاء الثورة وأصبح حاكما منفردا للبلاد بعد اعتماد دستور يؤسس دولة ذات حكم دينى على رأسها الإمام الخمينى كتطبيق حرفى لمبدأ ولاية الفقيه، وبينما كانت عمليات قتل أتباع الشاه تتم بانتظام من قبل القوات التابعة للإمام من ناحية، كان الطلاب التابعون للخمينى من ناحية أخرى يقومون باقتحام السفارة الأمريكية واحتجاز عشرات الدبلوماسيين الأمريكان كرد على استقبال الولايات المتحدة للشاه، وبرغم أن أمريكا قد أوضحت أن استقبال الشاه هو لأغراض العلاج فقط، إلا أن الخمينى طالب بتسليم الشاه لمحاكمته وهو ما رفضه الجانب الأمريكى ولم يتم الإفراج عن أسرى السفارة الأمريكية سوى بعد ١٥ شهرا بوساطة جزائرية وهو ما كان بمثابة إعلان رسمى عن عداء كامل بين إيران ومعظم القوى الغربية وفى مقدمتهم الولايات المتحدة، وهو العداء الذى لم ينته حتى اللحظة!
كانت الثورة الإيرانية هى أحد أهم المحفزات للشباب المتأثر بالخطاب الإسلامى فى العالمين العربى والإسلامى لرفع سقف أحلامه عن الصحوة الإسلامية وإنشاء الدولة الإسلامية القادرة على هزيمة الأعداء وإعادة هيبة الإسلام مرة أخرى، وهو الحلم الذى لم يتحقق لهؤلاء حتى الآن برغم كثرة المحاولات وكثرة الدماء التى سالت من أجله، ولكنهم على أى حال لا يتعلمون وما زالوا يحاولون!
(*) اعتمد هذا المقال ومقال الأسبوع الماضى على هذين المصدرين:
ــ كتاب «الثورة التى لم يمكن تصورها فى إيران» والصادر عن دار نشر جامعة هارفارد عام ٢٠٠٤ للباحث تشارلز كرزمان.
ــ ورقة بحثية نشرت فى فبراير/شباط ٢٠١٩ بعنوان «الأيديولوجية والثورة الإيرانية: كيف غيّرت ١٩٧٩ العالم» للباحثين على أنصارى وكسرى عربى، والصادرة عن مؤسسة تونى بلير للتغير العالمى.
(**) بالتزامن مع “الشروق“