باهتمام شديد، إلتفت الطبيب إلينا، شقيقتايْ وأنا، وسألنا: “مَن الذي وصف لها هذا الدواء؟ جرّاح عظام؟”. “كلا”، أجبتُه بخجل. وأردفتُ مبتسمة: “إنّه أحد أقاربها و.. يعمل سمساراً في العقارات”. لا داعي لاستحضار الكلام الذي صدر عن طبيبنا المصعوق. صار المسكين يهذي تحت وقع الصدمة. وما زلت أذكر بعضاً من كلماته. شيئاً يشبه السُباب للّبنانيّين “يللي بيفهموا بكلّ شي إلاّ بشغلهم”. نعم. فهذه إحدى خصال اللبنانيّين. لنقلْ معظمهم. هم يعتقدون “إنّو الله مكمّلْها معهم”. لماذا؟
لأنّه أغدق عليهم المعرفة الشاملة (باعتقادهم). في كلّ تفصيلٍ في الحياة. وأكثر. لقد زوّدهم بموهبة حُسن التدبّر. في جميع أمور حياتهم. وحياة غيرهم. من هنا، كان فائض الثقة بالنفس لديهم. والإيمان بقدرتهم على الإحاطة علماً، بكلّ شيء. على فكرة، في الغرب تُقال عبارة “الرجل الذي يعرف كلّ شيء” بهدف السخرية والمذمّة. وجعلها الكاتب الإنكليزي william somerset Maugham عنواناً لأشهر رواياته. نعود إلى اللبنانيّين الذين كبّدنا شعورهم المزيّف بالعظمة وتوهّم الكمال، الويلات.
لماذا الحديث عن ادّعاء اللبنانيّين المفرط “بمعرفة كلّ شيء”؟
“بعدما أبلى اللبنانيّون بلاءً حسناً في علوم الأرض واليابسة وحقّقوا فيها النجاحات الباهرة، تحوّلوا، جميعاً، إلى خبراء في علوم البحار”! يكتب الزميل منير يونس، ساخراً من تدفّق “التحليلات” اللبنانيّة في شرح وتفسير “الملابسات” التي تكتنف عمليّة ترسيم حدودنا البحريّة مع إسرائيل. ردحٌ مجّاني عبر وسائل الإعلام والتواصل، عن معاني وخفايا هذا الترسيم. وعمّا يُخطّط لنا من ورائه. والخلفيّات التي تكمن وراء موقف رئيس البلاد وسائر العباد منه. وما يقبله ويرفضه العدوّ. وما “يجب” و”يمكن” أن يفعله أو لا يفعله حزب الله. كلام. هذيان. تذاكي. تهويل. تخوين. و.. تُكمل حروب المصطلحات.
مصيبة قضائنا، أنّه تنازل عن أدواره. واتّخذ أدواراً بديلة مناقضة لكلّ ما تعلّمه القضاة في الأكاديميا. وعلى أقواس المحاكم. لا مكان في قاموس هذه الأدوار الجديدة، لمعاني القَسَم الذي تعهّدوا بصوْنه بريف العين. أضحى شعار قضائنا “اللّاعدل أساس المُلك”. فهكذا يُستدام الخراب. وهكذا تُحفَظ كرامة الحُكّام
سبب آخر دفعني للكتابة عن الموضوع. هو ما حصل في أوّل جلسة للبرلمان اللبناني (بعد انتخابات 15 أيّار/مايو). كانت لَعَمْري جلسة، ولا كلّ الجلسات. الرئيس الأزلي والأبدي للسلطة التشريعيّة، يجهل كيف يُنتخَب أمينا السرّ في هيئة مكتب مجلس النواب! يا لطيف إلطف..! ساد الهرج والمرج بين نوّاب الأمّة. القدامى منهم والجُدد. الكلّ يحاول فكّ طلاسم الدستور. ليفسّروا الماء بعد الجهد بالماء. طبعاً، لم تفاجئنا ضحالتهم. لكنّ ما شاهدناه “بالعِيان”، في ذاك الثلاثاء، فاق كلّ التوقّعات. أيُعقَل، ألاّ يعرف ممثّلو الشعب اللبناني، “كوع” القوانين من “بوع” الدستور! نعم، يُعقَل.
وما يسري على مجلس النوّاب، يسري على معظم اللبنانيّين، كما يبدو. اللبنانيّين إيّاهم الذين “يعرفون في كلّ شيء”. فلنستعرض سويّاً، البطالة التي تعيشها شرائح أساسيّة من الشعب اللبناني. مناصب ورُتَب (ورواتب من وحيها)، تذهب أدراج الرياح. لا أحد يقوم بالوظيفة (الوظائف) المنوطة به “شرعاً”. اجترحوا وظائف بديلة عنها. وظائف تعود لغيرهم. ماذا في التفاصيل (كما نقول في نشرة الأخبار)؟
نبدأ من رأس الهرم. فرئيس الجمهوريّة هو رئيس الدولة اللبنانيّة. ورمز وحدة الوطن. والقائد الأعلى للقوّات المسلّحة. أقسم بشرفه على احترام الدستور. والمحافظة على استقلال البلاد ووحدتها وسلامة أراضيها. لكنّه عاد ونحا منحى آخر. عن معرفة أو عدم معرفة. الله أعلم! فاجتهد منذ بدء ولايته، لتقليص مهامّه. حنّ إلى ما كانت عليه حاله، قبل ولوج قصر بعبدا. فسرعان ما عاد، طائعاً راضياً، كرئيس ظلٍّ للحزب السياسي الذي أسّسه. ومذّاك، بات شغله الشاغل حماية حصّة حزبه ورئيسه الفعلي، من “قرص جبنة” الحُكم.
صحيحٌ أنّ رئيس المجلس النيابي هو أعلى منصب في البرلمان اللبناني. لكنّ عمله يُختَصر في إدارة الجلسات، التي يعقدها النوّاب، والدعوة إليها. فمطبخ العمل التشريعي، هو في اللجان النيابيّة التي “يدوزن” عملها نائب رئيس المجلس. لكنّ رئيس برلماننا، وبحنكته السياسيّة المُعتّقة، مسخ مسار الجلسات. جعلها هيكلاً فارغاً من كلّ تشريع. وابتدع نموذجاً فريداً. إنّه نموذج الأواني المستطرقة. يمرّر ما يريد من قوانين من قعرٍ إلى قعر. ويقطع بدابر أخرى. “لا مين شاف.. ولا مين دِرِي”. لا يُرى إصبعٌ ارتفع. ولا يُسمع صوتٌ اعترض.
أمّا رئيس الحكومة، واضع السياسة العامّة للدولة، في جميع المجالات. ومشاريع القوانين والمراسيم. وصاحب القرارات اللازمة لتطبيقها. والمشرف على أعمال كلّ أجهزة الدولة، من إدارات ومؤسّسات مدنيّة وعسكريّة وأمنيّة. فلم يفعل شيئاً من كلّ ذلك. إذْ أمضى وقته، وهو يدوّر الزوايا. هنا وهناك وهنالك. ويتربّص بأيّ قضيّة تهمّ اللبنانيّين، ليُسقِطها من جدول أعمال الجلسات. ويُخفي أيّ ملفّ يمكن أن يخلق المتاعب. له أو لحلفائه. في السلطة والقضاء وجمعيّة المصارف.
نأتي إلى السادة النوّاب. اختصاصهم هو التشريع، ونقطة على السطر. بمعنى، ينحصر دورهم في صوغ القوانين وإقرارها. إضافةً إلى مراقبة عمل الحكومة. في لبنان، تحوّل النائب من مشرّعٍ إلى معقّبٍ للمعاملات، لا أكثر. بلى. هو يقوم بواجبات التعزية والتهنئة. ويحضر الاحتفالات. ويلبّي الدعوات، على أنواعها. والأهمّ، أنّه يحرص على “ركوب” المشاريع التنمويّة التي تنفّذها المنظّمات الدوليّة، تحديداً، وكلّما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
أمّا دور الوزراء، فيُختصَر بالإلمام بالأمور الفنيّة المتعلّقة بالقطاع الذي تُعنى به وزارة معيّنة. وبالقدرة على إتقان الوزير وظيفته، على المستوييْن الإداري والتنظيمي. والتخطيط ووضع الرؤية والقيادة. لا داعي للاستفاضة في ما يفعله وزراؤنا. لأنّهم، غالباً ما يكونون “وزراء الغفلة”. يُركّبون تركيباً في مواقعهم. أَتَناسب ذلك مع “كفاءاتهم”، أم لا. فهذا لا يهمّ. المهمّ، هو التمكّن من تحقيق الأغراض التي “اختيروا” لتحقيقها. أبرز هذه الأغراض، أن يعرفوا كيف يراقبون. ويناكفون. ويخبطون على الطاولة. ويعطّلون الجلسات. ويستقيلون إذا لزم الأمر.
أمّا بالنسبة للأحزاب السياسيّة عندنا، فهي لا تعمل، كما في الأنظمة الديموقراطيّة، كوسيطٍ بين أفراد الشعب ونظام الحُكم. ولا ترفع توصيات باحتياجات المواطنين ومشاكلهم إلى الجهات الحكوميّة المختصّة. ولا تطرح حلولاً، بالطبع. ففي لبنان، تقزّمت هامة الأحزاب السياسيّة وتشوّهت عقائدها. وصار الشغل الشاغل “للحزبيّين”، هو طرح القضايا التي تخلق المشاكل. وتفتعل الأزمات. أمّا أسمى أدوار قادة هذه الأحزاب، فيتمثّل في جعل الكائنات اللبنانيّة أزلاماً وأتباعاً لهم. يعيشون مثل أغنام السيّد Panurge. تلك الشخصيّة التي خلقها الكاتب الفرنسي François Rabelais.
ولا بدّ من التطرّق إلى دور الجيش الذي هو نفسه في كلّ دول العالم، تقريباً. أي، حماية الدولة من الاعتداء الخارجي. والمحافظة على الحدود البريّة والمياه الإقليميّة والمجال الجوّي للبلاد. لكنّه يتدخّل، أحياناً، إذا فشلت أجهزة الأمن في السيطرة على الأوضاع الأمنيّة داخل الوطن. وهذا “التدخّل الطارئ”، بات مهمّة الجيش الأساسيّة في لبنان. صار جيشنا شرطة. ولا مجال للغوص في أسباب هذا التحوّل.
تكفي جملة واحدة لاختصار وظيفة المصارف في لبنان. “غَوْغِلوا” (من google)، يا أصدقاء، كلمة مافيا. أو عصابة، لما لا؟ فستجدون مبتغاكم.
تقع على إعلاميّينا مسؤوليّة جسيمة، أيضاً. مسؤوليّة تحتّم عليهم أن يُنذروا. وينبّهوا. ويصحّوا الضمائر. ويكشفوا المستور، من دون تردّد. ويفضحوا كلّ المواضيع والقضايا والملفّات التي يودّ “البعض” إبقاءها في العتمة والظلّ
نأتي إلى القضاء، الذي بات باستطاعة صغار قومنا أن يحاضروا في أدواره. مصيبة قضائنا، أنّه تنازل عن أدواره. واتّخذ أدواراً بديلة مناقضة لكلّ ما تعلّمه القضاة في الأكاديميا. وعلى أقواس المحاكم. لا مكان في قاموس هذه الأدوار الجديدة، لمعاني القَسَم الذي تعهّدوا بصوْنه بريف العين. أضحى شعار قضائنا “اللّاعدل أساس المُلك”. فهكذا يُستدام الخراب. وهكذا تُحفَظ كرامة الحُكّام.
ماذا عن رجال الدين؟ هنا الطامة الكبرى. فهؤلاء الذين تنحصر وظيفتهم “بقراءة لاهوتيّة للحياة”، بحسب تعبير عالم الاجتماع والمستشرق الفرنسي جاك بيرك، استحالوا في لبنان إلى منظّرين. يحلّلون ويحرّمون في السياسة والاقتصاد والأمن والعسكر و.. كلّ مجال. وأسوأ. لقد تخلّى معظمهم عن الله، كُرمى لعيون أرباب السلطة. هل ما يُقال بعد؟
ونأتي، في الختام، إلى أحوال الإعلام. فعدا دوره المركزي في الإخبار ونقل الأحداث للناس. ورواية الوقائع ذات الأهميّة والمعنى والمنفعة بالنسبة إليهم. تقع على إعلاميّينا مسؤوليّة جسيمة، أيضاً. مسؤوليّة تحتّم عليهم أن يُنذروا. وينبّهوا. ويصحّوا الضمائر. ويكشفوا المستور، من دون تردّد. ويفضحوا كلّ المواضيع والقضايا والملفّات التي يودّ “البعض” إبقاءها في العتمة والظلّ. قبل أيّام، استوقفني تعليقٌ للمفكر اللبناني فواز طرابلسي. فلقد وصف إعلامنا اللبناني “بالإعلام المعادي للناس”! كيف لا، ومعظم هذا الإعلام قد تموضع على خارطة الانقسامات السياسيّة والطائفيّة في بلادنا المنكوبة؟ صار الإعلام طرفاً. له أدوار ووظائف هجينة. يلعب، مرّةً، دور القاضي. ومرّةً، دور الراعي. ومرّة دور الأستاذ. أو وليّ النعمة. ودور الحاكم بأمره، مرّات.
كلمة أخيرة. يعرف اللبنانيّون في كلّ شيء، كما يتوهّمون. لكنّ الأكيد، أنّهم لا يعرفون إدارة غضبهم. فهُم يتجبّرون. ويتكبّرون. وينتفخون. حيث يجب أن يكونوا متواضعين ومتسامحين ومحبّين. والأنكى، أنّهم يخضعون ذليلين، حيث يجب أن يتمرّدوا ويثوروا. إقتضى التذكير.