كي لا تحاصر المقاومة نفسها

الأحداث التي تجري في العالم، القريب منه كما البعيد، تعيدنا بالضّرورة إلى خلفيتنا الفكريّة، لا لنقيس على أساسها مواقفنا وآرائنا وحسب، بل لنبش المفاهيم الأساسيّة التي ننطلق منها.

بالإمكان تسليط الضّوء على غير مفهوم، كمفهوم السّياسة بحدّ ذاته، الرّأسماليّة، النيوليبرالية، الامبرياليّة، المقاومة، إلخ.. كلّ واحد من تلك وغيرها بات بحاجة إلى إعادة تأصيل وتعريف، وأن يغدو هذا الـ refresh شغلاً شاغلاً ليس للباحثين والأكاديميّين في دوائر ومجالات اختصاصهم وحسب، بل للعاملين في الحقل العام والمؤثّرين في المشهد السّياسيّ، لا سيّما أولئك الّذين يربطون كلّ أفعالهم وخطاباتهم السّياسيّة بعناوين ومبادئ ومفاهيم عريضة، بينما نراهم في الواقع يُلبِسونها لبوسهم الخاصّ، وينحون بها مناحٍ ذاتيّة.

الدّوافع إلى الكلام أعلاه كثيرة، والمشاهدات والملاحظات في هذا الإطار تتّسع لصفحات، لكن لا بأس من حصرها في هذه المقالة تحديداً في جانب أوحد، طالما أنّ هذا الأخير يدخل مباشرةً في صوغ الدّاخل والمنطقة بشكلٍ عام، وطالما أنّ الحرص هو المحرّك الأساس لأي سياقٍ نقديّ.

يدخل مفهوم المقاومة في صلب تكوين منظومة فكرية وسياسية ونّفسية لدى معظم شعوب المنطقة العربيّة التي تعرّضت مباشرةً للاستعمار، ولما تزل تعاني من تداعيات الاحتلال الاسرائيلي حتى يومنا هذا. غير أنّ ما حدث في ما يعرف بالتّطبيع، والذي هو بالمناسبة يختلف عن مفهوم السلام واتفاقيات السلام، أدخل المنطقة في ما هو نقيض لمفهوم المقاومة، كونه جاء ليس ببديل سياسي فحسب، بل ببديل فكري ونظري قبل أن يكون هدفه “حلّ” قضية الصراع مع العدو الإسرائيلي بشكل مستدام. شئنا أم أبينا، أفرزت موجات التّطبيع إلى العلن اتجاهاً جديداً وفاعلاً يحاول تقويض فكرة المقاومة، ويجهد في إظهار تناقضاتها وعدم جدواها، كما يدّعي ويروّج البعض، بل ويضعها في خانة الفعل المهدِّد بذاتها، سواء من زاوية تبيان أنها فعلٌ يؤدّي إلى إزهاق الكثير من الأرواح دون أن تُستثمر هذه الدّماء في نصرٍ أو ردع أو تغيير يذكر في إطار الصّراع مع العدوّ تحديداً، أو لناحية أن فكرة المقاومة كانت ولمّا تزل حجّة الدّيكتاتوريّات لقمع شعوبها وتمكين سلطتها وتحقيق اللّحمة حولها (على الرغم من ديكتاتورية الحكومات العربية المطبعة)، أو لأسباب سياسية وأيديولوجيّة أخرى.

فعل المقاومة هو فعلٌ حرّ. فعلٌ يولد من الرّفض، وليس أجمل ولا أنجع من الرّفض حين يكون ولّادة. ولّادة مقاومة وأفكار. أما أن تغدو حركات المقاومة أسيرةً لحركةٍ هي في الظاهر رفضيّة، لكن في العمق “ولائيّة”، فتلك معضلةٌ شائكة، برغم الاعتراف بأنها أدت إلى نتائج ميدانيّة ولمّا تزل

صحيحٌ أنّ تيّاراً كهذا ليس بالجديد، فالقائل برمي النّفس في التّهلكة مثلاً هو قول عمره من عمر الصراع، لكنّ الجديد أنّه بات تيّاراً رسمياً، ويأتي بعد مسار فكري يشبه المسار السّياسي لما عرف بالاتفاقيات الابراهيمية. فكرة الترويج للتسامح بين الأديان على سبيل المثال لا الحصر تمّ توظيفها بشكل مباشر فكرياً في الترويج لمسألة التّطبيع. هذا الأخير لم يكن شعاراً بل تياراً أكاديمياً سياسياً وبحثياً قبل أن يغدو فعلاً سياسياً.

ما يهم من هذا الكلام هي زاوية بعينها كما سيأتي تباعاً. ولأنّ “الضدّ يظهر حسنه الضّدّ” كما يقال، سيصبح السّؤال هنا مشروعاً: كيف يمكن أن يساهم التطبيع، عملياً ونظرياً، في إعادة تأصيل مفهوم المقاومة ورسم خطوطه العريضة، وكيف يمكن استثمار مجهر النقد – وإن الحاقد – لمفهوم المقاومة في إطار ما يشبه المراجعة الشّاملة.

ويغدو السؤال مشروعاً أكثر عندما تنحصر الكثير من الرّدود على “الهجمات” والآراء النقدية أو الضّدّية للمقاومة في إطار الغضب والهزء، دون أن تذهب بعيداً في مقارعة الحجج ومناقشتها، لما كان يستأهل منها النّقاش طبعاً.

المقصد إذاً من كل ما سبق وقيل هو حراكٌ نقديٌّ شامل لا يهدف إلى ضرب فكرة المقاومة بقدر ما يتطلّع إلى تأصيلها وفقاً لأسسٍ قويمة، تصبّ في مصلحة الفعل المقاوم وتحول دون الوقوع في أفخاخ من يحاولون محاصرة المقاومة من داخلها، مستغلين نقاط الضعف والجهل وغياب الحسّ النقديّ كما الفكري في مقابل شبه الاكتفاء بجانب التّمكين والتّهديد والرّدع العسكريّ. وفي هذه النّقطة الأخيرة بالذّات، يجب الاعتراف بالخلل الكبير الذي أصاب ولمّا يزل حركات المقاومة، حتى باتت قوتها في ضعفها، وضعفها في قوّتها! وفي تلك الجدليّة ما يمكن أن يكون فتاكاً!

ليست المقاومة غاية في حدّ ذاتها، كما يتعاطى معها كثيرون. هي وسيلة لتحقيق غاية. وهذه فكرةٌ تأسيسية، قد يقرأها أحدهم كبديهية، لكنّه لا يتعاطى معها كذلك. صحيحٌ أنّ بداياتها عفويّة، بمعنى رفض الظّلم ومواجهة المعتدي ثمّ الذهاب للأخذ بأسباب القوة الماديّة حيث يتوفر لأجل تحقيق غاية صدّ العدوان.. غير أنّ إدراك قبليّات وبعديّات أي فعل عدائي سيجبر كل حركة عفويّة، على الأخذ بأسباب القوة الفكريّة إن جاز التعبير، قبل الأخذ بأسباب القوة العملانية، أو ما يقتصر على التجهيز العسكري. وأقول “قبل” لأنّ الإنجازات العسكرية على أهمّيتها، في ظلّ عالمٍ تتعدّد أدوات القتل فيه وتتخطّى المعطى الميداني، قد لا تكفي البتّة؛ بل إنّ بعض المعارك العسكرية قد تكون هدفاً يبتغيه المعتدي ليبقي المقاومة في حالات الإلهاء، وفي خانة ردود الفعل، وهو بفعل إدراكه لحصريّة المنطلقات التي تفكر فيها بعض المقاومات، أو بفعل إدراكه لقصورها على أرض الواقع وإن لم يكن تقصيراً، سيعرف كيف يضرب لك أي إنجازٍ حقّقتَه بعد معركةٍ أُنهكت بها من خلال المسارات السّياسية او الاقتصادية أو غيرها، والتي لم تكن عندك أيّها الطّرف المقاوم في دائرة المفكّر فيه.. أمريكا مثلاً، الرّاعية الأساس للامبرياليّة، ولأداتها العسكرية المتمثلة بإسرائيل هنا، تقف متفرّجةً على رفع المقاومات لشّعارات القوة والنصر، ولا مانع عندها من أن تحقّق هذه الشّعارات بعض النّتائج الملموسة ما دامت محدودة على أرض الواقع، وذلك من حيث رغبتها في إبقاء هذه المقاومات ضمن أطرها التقليدية ذاتها وفي موقعها الأوحد، ما دامت تعلم تمام المعرفة أنّ عدوّها سيصطدم بألف جدارٍ لاحقاً لم ينتبه له ولم يفكّر في وجوده، وأنّ هذه الجدران إمّا ستعيق حركته وتؤخّر إنجازاته وتصادر انتصاراته، وإمّا ستظهر تناقضاتٍ بين خطاباته وأفعاله؟

إقرأ على موقع 180  لبنان أسير "هدنة العدوين".. زمن الخيارات مؤجل!

دائرة اللّامفكّر فيه عند حركات المقاومة هي دائرة واسعة، وقد لا تدخلها هذه الحركات إلاّ عندما تقع في دوّاماتها وتعاينها من باب ردّ المشاكل، لا من باب التّفكير المسبق. وهي بالمناسبة دائرة متعدّدة الجوانب، فمنها ما هو اقتصاديّ، ومنها ما هو فكريّ ـ ثقافيّ، ومنها ما هو سياسي إلخ.. ولكلّ بابٍ من هذه الأبواب مئات الأمثلة التي يمكن ذكرها وسردها، وتفاصيل كثيرة، يطيب لحركات المقاومة أن تدرجها في خانة “المؤامرة” فقط عندما تريد أن تتنصّل من آثارها، لكن يبدو أنّه من الأجدى الاعتراف بأنّه وجب إدراجها في خانة أو تحت عنوان اللّامفكر فيه، فمواجهة المؤامرة لا تعني الاستقالة عن الغوص في ملفّات عديدة لإدارتها إدارة سليمة تقوّض المؤامرات، ولا تعني استغلال فكرة المؤامرة للمضيّ قُدماً في الإعلاء من شأن الخطابات والشّعارات، وهي لا تعني أيضاً حشر زوايا النّظر في تبني عقلية المظلوميّة الدّائمة التي تحصر أطر التّفكير، وتستجلبُ ردود أفعالٍ لاواعيةٍ، تذهب تلقائياً إلى استحضار كل الأدبيات التي تحقق اللُّحمة، وتستبعد أي فكرةٍ أو فعلٍ ترى في لاوعيها أنّه يهدّدها. إلى جانب الوعي بأهمية المقاومة وضرورتها، ثمة لاوعي جماعي يحكم أحياناً حركات المقاومة، ويدفعها إلى اللجوء والاحتماء أكثر وأكثر في جوانب الأمان التي تمتلكها، سواء في أيديولوجيتها أو إمكانياتها.. ويأتي في نتيجة ذلك إما إدارة ذات طابع “حمائي” للملفات، وإما سلوكيات حمائية تنفر من كل ما هو نقديّ وتصنفه بشكل أو بآخر في دائرة التهديد.. ومشكلة المشاكل، أنّ هذه الحمائيّة قد تأخذ طابعاً غير سويّ حتى لا نقول مرضياً في بعض الأحيان، وهو بالتمام ما تسعى إلى جرّهم إليه أفعى الامبريالية، حتى يكون التآكل ذاتيّاً لا خارجيّاً. قد يرى البعض أنّه من المبالغ فيه أو من الإجحاف توصيف بعض الظّواهر بالمرضيّة، لكن وإن كان كذلك فلا بأس منه ما دام بغرض التّنبيه اللازم، فقد آن أوان المراجعة مهما كانت قاسية، إذ ليس من المقبول أن يرتفع منسوب الخطابات المهدِّدة فيما تكون الأفعال مغايرة علناً أو تحت الطّاولة، وليس من المقبول أن تظهر ازدواجيّة المعايير إلى العلن دون أن يرى المعنيون حاجةً إلى إجراء المراجعات، ثم يجري ترقيعها بخطابٍ هنا وآخر هناك بفعل التأثير الكاريزميّ والأحاديّ لقيادة المقاومة، وليس من المقبول عدم رفع الصوت على الكثير من الخطط الامبريالية الواضحة منذ سنوات إلا حين تصل الأمور إلى معطى مفضوح يربك قوى المقاومة في حال عدم اتخاذ الإجراءات اللاّزمة.. ويطول التّعداد هنا، دون أن يكون هدفه لا المزايدة ولا الجلد، ولا تحميل المقاومات ما لا طاقة لها على تحمله، لكنّ الكثير من مآلات الواقع ومآلات المقاومات وأدائها بات مؤلماً، وهو ألمٌ مضاعف، منها وعليها.

المقاومة غير محصورة بالميدان، فما وراء الميدان أدهى، وإن قوّض لك عدوك بنيانك الرمزي في الوقت الذي قوّى فيه بنيانه بشتى الأساليب، فهذا يعني أنك نصبت الأفخاخ لنفسك، مذ سيّجت مفهومك عن المقاومة، وحصرته وحاصرته في آن، لا بل تريد محاصرة كل من يكون نقدياً.. ولو أن نقده يأتي من الموقع نفسه أو ربما يكون قد سبقك إليه!

النّقد أولى أن يكون للمطبّعين أو للخصوم مثلاً.. قد يقول قائلٌ هذا، غير أن مساحة نقد هؤلاء تتسع لها المقالات، بينما قلّما نجد محاولات في النقد الذاتيّ، أو أننا نجدها خجولة، ويعود ذلك إلى أسباب لعلّ أولها انعدام البيئة التي تتقبل اختلافاً أو نقداً في مقابل تعزيز فعل الشّيطنة. وليس آخر هذه الأسباب الحجّة القائلة بأنّ الخصوم والأعداء سيستغلّون أيّ نقدٍ ليصوّروا المشهد كأنه انفضاضٌ عن مبدأ المقاومة أو عن حركيّتها، وليصوّبوا أكثر على نقاط الضّعف. وهذه الأسباب وغيرها إن لم يلتفت المعنيّون لأجل اعتبارها من أشد مفاعيل الركود في حركات المقاومة، وإن لم يغيّروا وجهة نظرهم وطريقة تعاطيهم حيال الأمر، فإنّ نقاط الضّعف ستتفاقم، لأن غياب الحراك النقدي يُعمي عن الالتفات إلى الكثير من الجوانب التي يجب التفكير فيها، كما أنّه يكرّس مناخاً من الديكتاتورية المبطّنة، تحت أي مسمّى كانت، وانطلاقاً من أي قيمٍ أو مبادئ ألصقت ديكتاتوريتها بها، ولن تستجلب الديكتاتوريات لنفسها سوى مصائب ستدفع ثمنها عاجلاً ام آجلاً في ظلّ عالم يتغيّر بسرعة.

فعل المقاومة هو فعلٌ حرّ. فعلٌ يولد من الرّفض، وليس أجمل ولا أنجع من الرّفض حين يكون ولّادة. ولّادة مقاومة وأفكار. أما أن تغدو حركات المقاومة أسيرةً لحركةٍ هي في الظاهر رفضيّة، لكن في العمق “ولائيّة”، فتلك معضلةٌ شائكة، برغم الاعتراف بأنها أدت إلى نتائج ميدانيّة ولمّا تزل. لكن المقاومة غير محصورة بالميدان، فما وراء الميدان أدهى، وإن قوّض لك عدوك بنيانك الرمزي في الوقت الذي قوّى فيه بنيانه بشتى الأساليب، فهذا يعني أنك نصبت الأفخاخ لنفسك، مذ سيّجت مفهومك عن المقاومة، وحصرته وحاصرته في آن، لا بل تريد محاصرة كل من يكون نقدياً.. ولو أن نقده يأتي من الموقع نفسه أو ربما يكون قد سبقك إليه!

Print Friendly, PDF & Email
ملاك عبدالله

صحافية لبنانية

Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  أوهام الفيدراليين والمتقوقعين.. والفرصة الأخيرة