يهرول الديبلوماسي الأوروبي جوزيب بوريل ومساعده انريكي مورا بين هاتف آمن وآخر، لتجميع ما أمكن من عناصر تسمح بنفض الغبار عن الطاولة، واستعادة زخم الحوار بين الأميركيين والإيرانيين للتوصل الى صيغة تتيح استئناف العمل بالاتفاق النووي. لكن لا نتيجة صلبة حتى الآن. حتى آخر لقاء في الدوحة، عبثا حاول الرجلان بمساعدة القطريين والعُمانيين وكل من استطاع حمل رسالة من هنا أو هناك. الحدود الدنيا والقصوى بين الطرفين تكاد تبدو متوازية لا تتقاطع. هذا في العلن، أما خلف الكواليس، فإن الأثمان المخصصة للتنازلات لم تصل بعد إلى المستوى الذي يجعلها تستحق التفكير، ولا سيما في ظل وضع عالمي مأزوم في الطاقة والغذاء وكل ما أنتجته الحرب في أوكرانيا. هدية لدول الشرق الأوسط، هكذا يمكن وصفها ربما. تدرك دول الاقليم أن الانفجار الذي كانت شراراته قد ازدادات خلال العامين الماضيين لم يعد ممكنا هنا، لأسباب عديدة، أهمها أن الغرب اليوم لا يحتمل نزاعا جديدا يهدد استقرار شرايين الطاقة العالمية، وأهمها مضيق هرمز الذي يخرج منه 20 بالمئة من نفط العالم. هنا تبتسم إيران بهدوء.
بحسب مصادر “جاده إيران” فإن “الوساطة العمانية لتسهيل إطلاق سراح مراد طهباز من إيران لا تزال جارية وربما تتكلل بالنجاح خلال الأيام القادمة”
في الأيام الأخيرة نشطت حركة تبادل الرسائل على نحو كبير لمحاولة التوصل إلى نص يرضي الجميع. مصدر دبلوماسي غربي منخرط في المفاوضات أكد لـ”جاده إيران” أن ما على الطاولة الآن هو نتاج لقاءات طهران بين وفد الاتحاد الأوروبي والإيرانيين، ومفاوضات الدوحة التي لم تخرج بنتيجة، وأن هناك نصًّا على تلك الطاولة وعلى الولايات المتحدة وإيران التوافق عليه. المصدر أكد أن “مساحة التفاوض أصبحت مستنزفة، وليس متوقعا أن نشهد جولة تفاوض جديدة قبل دراسة الطرفين للنص المقترح”.
ويضيف المصدر الذي طلب عدم الكشف عن هويته لحساسية موقعه “لا شك أن طهران تريد المزيد حول بعض القضايا، والولايات المتحدة لا تنوي التنازل، كما أن واشنطن تطلب المزيد في أمور أخرى وطهران تمانع، لذلك ها نحن الآن في مكان يجب فيه على جميع الأطراف دراسة ما لدينا، وإذا ما كانت لديهم أية ملاحظات عندها يمكن التفاوض حولها”. المصدر نفى إمكانية حصول جلسة تفاوض غير مباشرة جديدة بين الطرفين في القريب العاجل، مشددا على أن المؤشرات تعكس تعقيدات أكثر في طهران.
وزير خارجية الإتحاد الأوروبي جوزيب بوريل كان قد أعرب عن استعداده وفريق عمله لتسهيل وتسريع عملية التفاوض من خلال التواصل والتشاور مع جميع الأطراف، وأكد بوريل خلال اتصال مع وزير الخارجية الإيراني حسين اميرعبداللهيان الأربعاء 27 تموز/يوليو 2022، أن هناك إرادة إيجابية وأن الوقت قد حان للتوصل إلى إتفاق. بدوره اشترط عبداللهيان اتخاذ أميركا خطوة واقعية نحو إيجاد حل للمفاوضات ليكون هناك اتفاق جيد متاح للجميع.
سياسة إيران الخارجية وأولويتها الجديدة على مستوى الإقليم يمكن أن تصاب في مقتل في حال إعلان فشل المفاوضات أو امتدادها حتى حدود الانتخابات الرئاسية الأميركية القادمة، لأنها ستكون أمام خيارات صعبة
وشهدت الساعات الماضية جولة اتصالات متبادلة بين الوزير الإيراني ووزير خارجية عُمان بدر بن حمد البوسعيدي، الذي بدوره تحدث إلى ممثل الولايات المتحدة حول إيران روبرت مالي، وكانت لافتة للإنتباه إشارة عبد اللهيان في حديثه مع نظيره العماني إلى أن بلاده تولي أهمية كبيرة لأمن الطاقة والغذاء في العالم وأنها اتخذت مبادرات مختلفة في هذا الإطار. في المقابل، عندما أعلن مالي عن اتصاله مع البوسعيدي كان مضمون تغريدته تقديم الشكر للسلطنة على دورها في تأمين إفراج مؤقت في طهران عن مراد طهباز الذي يحمل ثلاث جنسيات إيرانية وبريطانية وأميركية. وبحسب مصادر “جاده إيران” فإن “الوساطة العمانية لتسهيل إطلاق سراح طهباز من إيران لا تزال جارية وربما تتكلل بالنجاح خلال الأيام القادمة”.
على الرغم من أن كل طرف من الأطراف الثلاثة ذهب في تصريحاته العلنية في اتجاه مختلف، إلا أن هذه الاتجاهات بدون شك تؤثر وتتأثر بما يدور في كواليس المفاوضات النووية. في هذا السياق، يقول مصدر دبلوماسي إيراني لـ “جاده إيران” إن طهران منفتحة على كل الأفكار الجديدة طالما أنها ستساهم في الاستفادة القصوى من الاتفاق وإلا فإن التوافق سيكون عديم الجدوى. المصدر أشار إلى أن الحكومة الإيرانية تدرك جيدا أن “أي اتفاق سيجري التوصل اليه اليوم هو اتفاق مؤقت لأن الولايات المتحدة غير قادرة على ضمان استمراره وهذا بحد ذاته مصدر قلق كبير، برغم أنه ليس أمرا يعوق التفاوض”.
المشكلة بالنسبة لجميع الأطراف حاليا أن الخيارات المتوفرة محدودة وهي تتراوح بين استمرار المسار التفاوضي بهذا الشكل البطيء لمجرد عدم رغبة الطرفين بإنهائه، لانعدام الخيارات الأخرى الواقعية، وبين القبول بصفقة لا تلبي الطموحات. فالولايات المتحدة تحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى لضبط البرنامج النووي الإيراني، وإعادته إلى مساحة تبعده فيها مجددا عن العتبة التي جعلته قادرا تقنيا على صناعة قنبلة نووية من دون وجود قرار سياسي بذلك حتى الآن. وهنا لا بد من الإشارة إلى تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس قبل أيام حيث أكد أن بلاده لن تقبل باتفاق سيء مع إيران “يمنح نظامها الشرعية ويفتح اقتصادها”، وأكد أن إسرائيل تستطيع استهداف برنامج إيران النووي ومنع تقدمه، وهذا تصريح يحمل ما قد يكون قبولًا باتفاق يبعد طهران عن نقطة الصفر النووية، وفي ذات الوقت يستفز واشنطن التي ترغب في هذه الفترة في تهدئة أسواق الطاقة العالمية، التي باتت شديدة الحساسية تجاه أي تهديد لسلاسل التوريد.
تبقى وضعية إيران على طاولة المفاوضات في ظل اشتعال الحرب في أوكرانيا وحاجة العالم للطاقة أفضل مما كانت عليه قبل أشهر قليلة
أما إيران، فحاجتها للاتفاق اقتصادية بحتة كما بات معلومًا، لكنها كلما تأخرت في التوصل إليه ستكون أمام تهديد بالمزيد من الضغط، وإن كانت العقوبات قد وصلت أقصى وأقسى ما يمكن أن تكون عليه. مع ذلك فسياسة إيران الخارجية وأولويتها الجديدة على مستوى الإقليم يمكن أن تصاب في مقتل في حال إعلان فشل المفاوضات أو امتدادها حتى حدود الانتخابات الرئاسية الأميركية القادمة، لأنها ستكون أمام خيارات صعبة. مع ذلك تبقى وضعية إيران على طاولة المفاوضات في ظل اشتعال الحرب في أوكرانيا وحاجة العالم للطاقة أفضل مما كانت عليه قبل أشهر قليلة.
قبل ثلاثة أعوام تقريبا كتب هنري فاريل وابراهام نيومان عن “تسليح الاعتماد المتبادل”، وهو مبدأ جديد في العلاقات الدولية يصنف قدرة الدول بحسب حجم سيطرتها وتحكمها بممرات الاقتصاد والاتصال. فاريل ونيومان عادا وعدلا التسمية إلى “العولمة المقيدة” في مقال لهما في مجلة “فورين افيرز” الأميركية. خلاصة المفهوم أنه في هذا الزمن الذي يفيد واقعا ليس عدد القنابل والرؤوس النووية والباليستية التي لدى أي طرف، إنما القدرة على تعطيل مصالح الآخرين، كالسيطرة على المضائق والقدرة على تعطيل مرور النفط، التحكم بإمدادات الغاز إلى أوروبا كما في حالة روسيا.
بقصد أو غير قصد تستفيد المنطقة من ثروتها وموقعها لتبعد عن قلبها حربا، كانت لسنوات مضت، احتمالًا يوميًا.
(*) بالتزامن مع “جاده إيران“