في 4 آب.. نجا مَن مات ومات مَن نجا!

هناك اعتقاد سائد لدى الهنود الحمر بأنّه عندما تموت نجمة في السماء، يبقى إشعاعها ولا ينطفئ.. بل إنّه يستمرّ مسافراً في الفضاء، لمئات السنين. أُهدي مقالتي اليوم، لنجومنا المُشعَّة المسافرة في فضائنا منذ 4 آب/أغسطس 2020.

ليس هناك أصعب من الكتابة وسط الحرقة والوجع! فالموضوعيّة التي تحتّمها الكتابة الصحافيّة، غرقت في بحر الدم والدمار. حيث غرقت بيروت، بالضبط، قبل أربعةٍ وعشرين شهراً ويوميْن. لم تجد منقِذاً يرمي لها خشبة النجاة. أمّا نحن، الذين تشظّينا في الانفجار، فلم نمُت. وهذا لسوء حظّنا. إذْ كُتِب علينا، مذّاك، أن نصبح أسرى السجن الكبير. أن نستحيل إلى جماعاتٍ من المذعورين. جماعات مُنهَكة ومستباحة. لا تعرف سوى الإصغاء لأغلالها. فكلّ لبناني، يا أصدقاء، بات مقيَّداً بسلاسل. حتّى ولو كانت يداه ورجلاه متحرّرة من الأغلال.

لقد حوّلنا 4 آب إلى جحافل من الضحايا. لا تتقن إلاّ مناصرة ذئبٍ على آخر. حوّلنا 4 آب إلى شهود زور. يقفون متفرّجين صامتين على مآسٍ تتكرَّر. فكلّما تغيّر اسم “القوي”. تغيّر اسم “المذعور”. ومَن يساكن الأقوياء والمذعورين، في آنٍ معاً، يستوطن اليأس روحَه. روحه التي تنتظر رحيلاً بلا حقائب. وتتجرّع موتاً يوميّاً وتصرخ بوجه المُعزِّين “الموت حقّ”. يا لقرفنا وعجزنا! أيّ حقٍّ هذا الذي شلّع أرواحنا في مرفأ بيروت؟

يقول الضابط البريطاني توماس إدوارد لورانس، الذي اشتهر بدوره في مساعدة الثوّار العرب خلال معاركهم ضدّ العثمانيّين: “إنّني أكثر ما أفتخر به في حياتي، أنّ الدم الإنكليزي لم يُسفَك في المعارك التي خضتها. فكلّ الأقطار التي كانت تحت سيطرتنا، لم تكن تساوي، في نظري، موت مواطن إنكليزي واحد”. لا أدري لماذا، عندما قرأتُ هذا القول لـ”لورانس العرب” (كما لُقِّب)، قفزت أمامي صورتان؛ الأولى، لأنهار الدماء التي أراقها، عبر التاريخ، الجنرالات والأباطرة. لكي يصبحوا، في لحظة مجدٍ وانتصار، أسياداً على جزءٍ من حبّة غبار. والثانية، لأكبر ثلاثة مسؤولين في دولتنا. وهم يستعرضون في عيد الجيش، وبضجر، صفوف الضبّاط الجُدد والعسكريّين. أولئك الذين سيُرسلونهم إلى زواريب الطوائف، لأتفه الأسباب. أولئك الذين سيضحّون بهم، كأسلافهم، على أوسخ الجبهات. فحياة كلّ عديد الجيش، بنظرهم، لا تساوي قيمة دولارٍ واحد على “منصّة صيرفة”!

يراوح التحقيق القضائي مكانه اليوم. إذْ نجح حُماة النظام والمنظومة بتجميده. مثلما نجحوا في الانقلاب على القضاء ونسف مرجعيّته. أمّا المفارقة الكبرى فتكمن، في أنّ كلّ أركان السلطة متّفقون على طمر جريمة المرفأ تحت صومعات القمح المتهاوية

وإذا كانت حياة عسكرنا بهذا الرخص، فما حال حياة الناس العاديّين إذاً؟ وحياة الذين سُحِقوا بنيترات الأمونيوم في يوم الدينونة في بيروت؟ هل يا ترى تعرّف حُكّامنا على أسمائهم؟ وهل تقصّوا عن أحوال عوائلهم وأطفالهم؟ هل عكّر قيلولتهم، لا سمح الله، صراخ الموجوعين والمظلومين؟ هل سمعوا عن حكّامٍ غيرهم احتقروا شعبهم بهذا الكمّ من الاحتقار؟ ما هذه البلاد التي تحتاج، دوماً، إلى مزيد من الشهداء؟ ما هذه الطبقة الحاكمة التي لا يعرف أقطابها الاستحمام إلاّ بدماءٍ بشريّة؟

صحيح. إنّها أسئلة ساذجة. لكنّني عملت بنصيحة الكاتب والفيلسوف التشيكي ميلان كونديرا (الذي أعشق كتاباته). فهو يقول في روايته الشهيرة “خفّة الكائن التي لا تُحتمَل”: “وحدها الأسئلة الساذجة هي الأسئلة الهامّة، فعلاً. أي، تلك الأسئلة التي تبقى من دون أجوبة. فالسؤال من دون جواب، هو حاجز لا طرقات بعده. وهو الذي يشير إلى حدود الإمكانات الإنسانيّة. وهو الذي يرسم وجودنا”. وأعود وأطرح سؤالاً ساذجاً آخر: ماذا عن مصير التحقيق في جريمة 4 آب؟

“لا يمكن تحقيق العدالة، بمجرّد أن تعظ حاكماً أو أن تخوّفه من عذاب الله”، يقول المفكّر العراقي علي الوردي. لكنّ عالمنا العراقي كان سيعدّل مقولته، بلا ريب، لو قُيِّض له وتعرّف على حُكّام لبنان! فهؤلاء عصيّون على الوعظ والتخويف، حتّى من الله. عندهم حساسيّة مفرطة، أيضاً، من سماع كلمات على غرار: قانون، قضاء، تحقيق، مساءلة، محاسبة، عدالة…إلخ. وجاءت جريمة المرفأ ليكتمل نكدهم. فهي قصمت ظهور بعيرهم. هم الذين لم يصدّقوا كيف انتهوا من مسلسل قمع انتفاضة 17 تشرين. وكيف استُعيد شيءٌ من الاعتبار، لكراماتهم التي نُكِّل بها في الساحات. ولحظة دوّى ذاك الانفجار، ظهر عُريهم بفجاجة. عُريهم من الأخلاق والحسّ بالمسؤوليّة والكفاءة والمروءة والمشاعر. ومثلما خطّطوا لثورتهم المضادّة ليئدوا الثورة. خطّطوا لهجومٍ مضادّ يئد التحقيق العدلي في جريمة المرفأ.

أجل. كابد أركان السلطة، بكلّ قواهم، لتعطيل التحقيق. كلٌّ على طريقته. ولو إنّ “الثنائي الشيعي” استأسد لوأد التحقيق ومحقّقيه. بأيّ ثمن. فلقد ذهب هذا “الثنائي” بعيداً في عراضات القوّة والتحدّي. وبعد تشييده حصون الحصانات والمقامات لحماية بعض المتّهمين. انتقل بالتدريج، وبشكلٍ ممنهج، إلى مرحلة الهجوم على المحقّق العدلي لإزاحته. أو “قبعه”، بحسب التعبير الذي استُخدِم. وبوشر بتنفيذ الاستراتيجيّة الهجوميّة، بمجموعة من الوسائل الضاغطة على سير التحقيق. فأعلن حزب الله، بالوكالة عن السلطة اللبنانيّة، ما يشبه الحرب المفتوحة والتصاعديّة على المحقّق العدلي، بالذات. مُبيحاً لنفسه استخدام كلّ ما يراه مناسباً ضدّه. وفرض ما يراه عادلاً. أي، فرض “عدالته الخاصّة” ببساطة.

إقرأ على موقع 180  حوار عن الصين مع أركان كلية الحرب الفرنسية.. في واشنطن!

وفي حربهم على التحقيق، صكّوا للمحقّق والناس معادلاتٍ ومفاهيم مفزعة. جعلوها مسلّمات غير قابلة للأخذ والردّ. واستباحوا كلّ الوسائل والأساليب لرفع يد المحقّق العدلي عن التحقيقات. وأكثر. لقد لجؤوا، عبر بعض معاونيهم، إلى سابقة في العدليّة؛ السطو على الملفّ القضائي لجريمة المرفأ. ومن ثمّ تدرّجوا في أساليب ترهيبهم. وصولاً إلى استحضار الحرب الأهليّة إلى منطقة الطيّونة. واتّهام المحقّق العدلي، في خطاب التبرير للمعارك، بالعمل على إيقاظ الفتنة! أمّا ذروة الاحتقار لنا، نحن اللبنانيّين، فتجلّت في شقّ صفوف أهالي الضحايا. فبعدما كان هؤلاء كتلةً ناريّة لاهبة تختزن الصواعق لتنفجر بعصابات السلطة. تفكّكوا، بهمّة نخبةٍ من الناهلين من معجم “ثقافة السحسوح”. وبعد؟

سنتان ونحن نحمل قدراً كاملاً على أكتافنا. نحن الناجين من “هولوكوست” مرفأ بيروت. وكأنّنا بشرٌ ليس لهم في حياتهم من عملٍ “سوى حمْل ذلك القدر والمسير تحته على حصى وشوك”، بحسب تعبير الكاتب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني. ولحظة انفجار 4 آب، أيقنّا أنّنا وارَيْنا وطننا الثرى. وما الاحتفالات بالذكرى الثانية للمجزرة، إلاّ احتفالاً سنويّاً بالفشل. وبوجعنا الشخصي. وليس أثقل من الوجع الذي نعانيه مع الآخر. ومن أجل الآخر. وفي مكان الآخر. إنّه وجعٌ يضاعفه الخيال. وتُرجِعه مئات الأصداء.

يقول الضابط البريطاني توماس إدوارد لورانس، الذي اشتهر بدوره في مساعدة الثوّار العرب خلال معاركهم ضدّ العثمانيّين: “إنّني أكثر ما أفتخر به في حياتي، أنّ الدم الإنكليزي لم يُسفَك في المعارك التي خضتها. فكلّ الأقطار التي كانت تحت سيطرتنا، لم تكن تساوي، في نظري، موت مواطن إنكليزي واحد”

يراوح التحقيق القضائي مكانه اليوم. إذْ نجح حُماة النظام والمنظومة بتجميده. مثلما نجحوا في الانقلاب على القضاء ونسف مرجعيّته. أمّا المفارقة الكبرى فتكمن، في أنّ كلّ أركان السلطة متّفقون على طمر جريمة المرفأ تحت صومعات القمح المتهاوية. ولم يعد من همٍّ لديهم، إلاّ تكريس نظام الإفلات من العقاب والتطبيع معه. حتّى الآن، تفوّقوا في هذه المهمّة. وأثبتوا أنْ لا أحد يتمكّن من أن يهزمهم. والأفظع، أنّ “العصابات الحاكمة المتّحدة” أثبتت قدرتها، أيضاً، على تخريب العقل اللبناني. بحيث، أضاع هذا العقل البوصلة. وانتفى دوره بالكامل. فأضحى يمارس نوعاً من التفكير الذي سرعان ما يتحوّل إلى فعلٍ تدميري لكلّ شيء.

كلمة أخيرة. يقول ويليام شكسبير، أشهر مَن كتب للمسرح على الإطلاق، وهو يصف مشهديّة الوجع عندما يفقد الإنسان كلّ إحساسٍ به: “إذا وَخَزْتنا، ستجد أنّنا لا ننزف. وإذا داعَبْتنا ستجد أنّنا لا نضحك. وإذا سمَّمتنا، ستجد أنّنا لا نموت. وإذا آذيْتنا، فستجد أنّنا لا ننتقم”. هذا ما يشعر به المُصاب بـ”التروما”. المصطلح الذي سمعتُ به، للمرّة الأولى في حياتي، من الطبيبة النفسيّة التي قصدتُها في باريس سنة 1991. يومذاك، كنتُ أريد أن أعرف سبب العذاب الذي بدأ يجتاحني مع انتهاء الحرب. “wafa”، قالت لي بنبرة الشفقة، “أنتِ مصابة بتروما حادّة. لكن أعتقد أنّكم، كلّكم (أي اللبنانيّون)، مصابون بالتروما”! ماذا عسى طبيبتي أن تقول لي، اليوم، لو زرتها في عيادتها. هل لا تزال على قيد الحياة؟ إقتضى السؤال عنها والاطمئنان عليها عندما أزور باريس.

Print Friendly, PDF & Email
وفاء أبو شقرا

أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية

Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  كيف يمكن أن يخون الخائنون؟ (2/1)