لبنان يتعثر في تلبية شروط صندوق النقد.. والآتي أعظم!

نقترب من مرور 5 أشهر على توقيع الاتفاق المبدئي مع صندوق النقد الدولي، ولبنان مثتاقل الخطى في تنفيذ الشروط المسبقة الواردة في الاتفاق. ما يشي حتماً بعدم الإلتزام بموعد أيلول/سبتمبر المقبل الذي حدّده الصندوق للنظر في تقييم التقدم الحاصل، والبناء عليه بشأن تقرير أو عدم تقرير الخطوة اللاحقة الخاصة بتحضير الاتفاق النهائي، وبدء صرف قرض 3 مليارات دولار.

للتذكير، تشمل الشروط المسبقة اقرار موازنة 2022، تعديل قانون السرية المصرفية، تشريع ضبط التحويلات والسحوبات (كابيتال كونترول)، اقرار قانون إعادة هيكلة المصارف، اجراء تدقيق في احتياطات مصرف لبنان من العملات الأجنبية، وبدء التدقيق في جودة أصول أكبر 14 مصرفاً.

لم يُقَر مما سبق إلا تعديل قانون السرية المصرفية في مجلس النواب، بيد أن القانون عالق حتى تاريخه عند رئيس الجمهورية ميشال عون، مع تضارب في المعلومات حول توقيعه من عدمه. فضلاً عن تسريبات عن صندوق النقد الدولي خاصة بملاحظات يدرسها. كما توقع نائب رئيس مجلس الوزراء سعادة الشامي ألا تلبي بعض البنود، ربما، شروطاً منتظرة من الصندوق. وثمة من يرى في القانون أفخاخاً خاصة بربط كشف السرية بمواقع قضائية محسوبة على هذا الطرف السياسي ـ الطائفي أو ذاك. ما ينذر، برأي المشككين، بإمكان تعطيل طلب رفع السرية في قضايا معينة تمس هذه الجهة أو تلك. فيقع المحظور على غرار كثير من القضايا التي تراوح مكانها أو تطمس، مثل التحقيق في جريمة انفجار مرفأ بيروت، والتحقيق في اتهام حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بشبهات اختلاس وتبييض أموال.

***

أما مشروع قانون موازنة 2022 فعالق في لجنة المال والموازنة النيابية، برغم مرور نحو 8 أشهر على السنة والبدء باعداد موازنة 2023 في وزارة المال، وذلك في موازاة جدل مستفحل حول كيفية رفع ما يسمى الدولار الجمركي (رسوم على الاستيراد) المستوفى حالياً على سعر 1507 ليرات للدولار الواحد مقابل سعر 34 ألف ليرة للدولار في السوق الموازية. وتتقاذف الجهات السياسية النافذة كرة النار خوفاً من تحمل مسؤولية الغلاء المتوقع جراء استيفاء الدولار الجمركي على 20 ألف ليرة كما تطرح وزارة المال. ومع انسداد الأفق تقريباً، قد ترمى هذه الكرة في ملعب المجلس النيابي، على أن يحصل الرفع تدريجياً، وليس على سعر 20 ألف ليرة منذ اليوم الأول للإقرار.

***

على صعيد “الكابيتال كونترول” المؤجل اقراره منذ انفجار الأزمة في خريف 2019، وبعد أن طارت الطيور بأرزاقها وخرجت مليارات النافذين إلى الخارج، فان المعركة الحالية على جبهتين. الأولى، عدم الاتفاق بعد على بند حماية المصارف من الدعاوى القانونية التي يرفعها المودعون. والثانية متعلقة بتمييز، يراه قانونيون غير دستوري، بين دولار قديم خاص بالودائع العالقة في المصارف وقيمتها نحو 100 مليار دولار، والدولار الجديد في حسابات ما يسمى “الفريش” المحررة من قيود التحويل والسحب وفقاً لمشروع القانون الذي قدمته الحكومة ويُدرس في مجلس النواب. وما من مؤشرات توافق على هذين البندين خلال المرحلة الباقية من عهد رئيس الجمهورية ميشال عون. فالبندان المذكوران متعلقان مباشرة بحقوق المودعين. حقوق يبدو أنها ستبقى، ولسنوات طويلة قادمة، على الأرض الأكثر خصوبة للمزايدات الشعبوية والشعبية والسياسية والطائفية والمصرفية والقانونية والحقوقية والدستورية. ولا غرابة، فالأمر متعلق بنحو 100 مليار دولار مفقودة، مع عشرات الروايات المتضاربة عن فقدانها وهوية المسؤولين عن هذه الجريمة المالية التي لا مثيل لها في العالم.

بشأن قانون إعادة هيكلة المصارف، يمكن القول إن التأخير واضح وينذر بشهور طويلة من الانتظار الاضافي. ولا ضمان من أحد، ولأحد، بصدور صيغة يقبل بها اصحاب المصارف. فالتناقض صارخ بين شروط الصندوق ومطامع المصرفيين الراغبين بتحميل الدولة الجزء الأكبر من عبء ودائع المائة مليار دولار

***

وعلى صعيد متصل، يميل صندوق النقد إلى شطب الجزء الأكبر من تلك الودائع، مع إمكان الحفاظ على أقل من ثلثها لتغطية ودائع حتى 100 ألف دولار لكل مودع. شطبٌ أثار نزاعاً داخل الحكومة، دفع بوزراء إلى عدم الموافقة على الخطة الحكومية المبنية على الاتفاق مع صندوق النقد. فإذا برئيس الحكومة يفتح نقاش حلول لكبار المودعين لا يمكن أن يقبل بها صندوق النقد إذا توسعت في استخدام أصول الدولة وإيراداتها لخدمة فئة قليلة من المودعين (تشكل 3% فقط من السكان)، ما يحرم ملايين المواطنين الآخرين والاقتصاد الوطني من الافادة القصوى من تلك الأصول والإيرادات الأكثر من ضرورية في مرحلة التعافي.

***

بشأن قانون إعادة هيكلة المصارف، يمكن القول إن التأخير واضح وينذر بشهور طويلة من الانتظار الاضافي. ولا ضمان من أحد، ولأحد، بصدور صيغة يقبل بها اصحاب المصارف. فالتناقض صارخ بين شروط الصندوق ومطامع المصرفيين الراغبين بتحميل الدولة الجزء الأكبر من عبء ودائع المائة مليار دولار. وفي ما يشبه استباق الأحداث، بدأت جمعية المصارف شن هجوم على قانون إعادة هيكلة، بوصف تجلى على لسان رئيس الجمعية سليم صفير بأنه “قانون اعدام البنوك”. فهو يعرف تمام المعرفة، (هو قبل غيره) بأن أي حل وفق المعايير الدولية سيضع مصارف كثيرة أمام مصيرها المحتوم: ضخ رساميل جديدة والتزام بسداد ودائع.. أو التصفية، أو الدمج بين مصارف قابلة للحياة إذا إندمجت في ما بينها. وسليم صفير يتحرك، نيابة عن الجمعية وبتفويض واضح منها، برغم ادعاء بعضهم خلاف ذلك أو محاولتهم الخجولة التمايز عنه أو انتقاد طريقته الفجة. ويتحرك صفير علناً وليس سراً، ولا يتآمر في الكواليس بل جهاراً نهاراً لتشكيل “لوبي” ضغط سياسي وطائفي ومصلحي يوقف أي تقدم مع صندوق النقد إذا أتى على حساب المصرفيين ومصارفهم وثرواتهم الشخصية.

إلى ذلك، لم ينته التدقيق في احتياطات مصرف لبنان، وقد تطول مسألة جرد مخزون الذهب وتقييمه. ولم يجر بعد التوقيع مع شركة دولية لبدء فحص جودة أصول المصارف.

إقرأ على موقع 180  مصطلحات النفاق السياسي.. في دولة المافيا اللبنانية

***

بالنسبة المئوية التقديرية، لم يقم لبنان بما نسبته 10% من المطلوب منه في المواقيت المحددة التي التزمت بها الحكومة وتتعثر في احترام روزنامتها. ومن غير المرجح حصول تقدم سريع بالنظر الى كم المصالح المتعارضة مع متطلبات الصندوق، والقادرة على تعطيل أو تأجيل الاستحقاقات.

ولعل موعد أيلول/سبتمبر المقبل أصبح في خبر كان، بعد دخول البلاد قريباً جداً في خضم استحقاق رئاسة الجمهورية. الاستحقاق الدوري الأصعب في لبنان، والمفتوح على احتمالات لا مكان فيها لضرورات (تفاهات بنظر البعض!) تسريع الإصلاح الاقتصادي والمالي والمصرفي. فلا صوت يعلو في المعركة الرئاسية على صوت النفوذ السياسي، حتى لو تعطلت البلاد عن بكرة أبيها، كما حصل في مدى أكثر من سنتين قبل الاتفاق على انتخاب ميشال عون رئيساً.

***

والحالة هذه، تشير تقديرات المتابعين المعنيين إلى ترحيل انجاز الشروط المسبقة الى العام 2023. مع شكوك كثيرة حول التقدم المأمول لأسباب كثيرة أبرزها حاكمية مصرف لبنان.

فالحاكم رياض سلامة سيخرج من موقعه في صيف العام 2023. وحتى ذلك التاريخ، لن ينخرط كثيراً بكليته في مسألة الاصلاحات المطلوبة التي لا يتوافق بعضها مع خططه وتطلعاته الخاصة جداً لحل الأزمة على طريقته، لا سيما “ليلرة” الودائع وتذويبها مع الزمن.

في الأثناء أيضاً، هناك اصلاحات لا يريد الحاكم أن تفلت من يده كلياً في هذه المرحلة، وتحديداً في الملف المصرفي. إذ ليس في قاموسه بعد ما يؤدي إلى افلاسات يتحمل مسؤوليتها هو مباشرة. افلاسات لا بد منها إذا طبقت روشتة “الكتاب المقدس” الذي يقرأ مزاميره صندوق النقد في مآتم هذا النوع من الأزمات الكارثية. وبالتالي هناك جملة شروط مسبقة على هذا الصعيد ستراوح مكانها لتخدم مسألة شراء رياض سلامة لوقت محسوب بالأشهر قبيل خروجه من الحاكمية.

وإذا تحقق سيناريو تأجيل الاتفاق النهائي مع صندوق النقد الى 2023، فان الاتفاق المبدئي لا يعود صالحاً. ما يعني العودة على بدء المربع الأول، بسبب اختلاف الأرقام وخصوصاً تفاقم الخسائر وذوبان احتياطي العملات التي يرجح ان يصرف منها سلامة 5 مليارات اضافية خلال سنة، ليبقى قبل رحيله نحو 4 أو 5 مليارات فقط. ومن التأثيرات الجانبية الانخفاض الحتمي لسقف المائة ألف دولار الموعود لكل مودع، علماً بأن المبلغ ليس مضموناً 100% اليوم، لا بل هو مشروط بنتائج تنفيذ التدقيق في جودة الأصول المصرفية، ومع تعثر تلبية الشروط ينخفض المبلغ أكثر.

وفي سنة قبل خروج سلامة، يمكن التنبؤ بمزيد من التراجع في سعر صرف الليرة في خط مواز لتراجع الاحتياطات. وبالتالي تراجع القدرة على مزيد من ضخ الدولارات على “المنصة” التي ابتدعها لدعم الليرة على سعر 12 ألف ليرة للدولار، فاذا بها الآن نحو 27 ألفاً للمنصة و34 ألفاً في السوق الموازية. وقد يفلت الصرف أكثر مع تنفيذ خطط سلامة بخفض الدولارات التي يمنحها على المنصة لمستوردي البنزين، والشح الإضافي المتوقع في ما تبقى من دعم. ومع كل انخفاض اضافي في سعر الصرف تتحول أرقام الموازنة إلى “خرابيط” لا معنى لها، فتضطر الحكومة للبحث عن كيفية رفع الدولار الجمركي مجدداً، فضلاً عن رفع الضرائب والرسوم الأخرى.. في ما يشبه السباق في المنحى الهابط إلى قاعات جديدة لا يمكن تصور بشاعتها كلها اليوم.

يتحرك صفير علناً وليس سراً، ولا يتآمر في الكواليس بل جهاراً نهاراً لتشكيل “لوبي” ضغط سياسي وطائفي ومصلحي يوقف أي تقدم مع صندوق النقد إذا أتى على حساب المصرفيين ومصارفهم وثرواتهم الشخصية

وبين شروط الصندوق الوصول الى سعر صرف موحد. توحيد لن يقدم عليه سلامة بسهولة لأسباب عويصة ليس أقلها أن سعر 1500 ليرة للدولار المعتمد في ميزانيات المصارف يحميها من اعلان افلاسها في اليوم التالي لاعتماد سعر رسمي جديد سواء على سعر المنصة أو السوق الموازية، أو حتى أقل من ذلك. والتوحيد سيجبره أيضاً على تعميم سداد الودائع على السعر الجديد الأعلى بكثير من السعر المعتمد حالياً، وفق تعميمين، بين 8000 و12000 ليرة للدولار القديم. يفضل سلامة ترك كل هذا الإرث اللعين لخلفه الذي سيجد نفسه أمام استحقاقات جراحية خطرة إن لم تكن مميتة في جانب منها.

***

ما سبق خاص بالشروط المسبقة، أما اللاحقة فحدث ولا حرج عن شبه استحالة تلبتها وفقاً لمعطيات اليوم الضبابية، لا سيما اصلاح قطاع الكهرباء، واعادة هيكلة الدين العام بعد التفاوض والاتفاق الصعب على “هيركات” بين 75 و85% مع الدائنين خصوصاً حملة سندات اليوروبوندز لتحقيق هدف استدامة ذلك الدين، وهناك أيضاً الاصلاح الإداري والضريبي.. و100 ضربة سخنة أخرى!

***

رب سائل: لماذا التحبيط والتيئيس؟ الجواب ينبث من بين شفاه الحالمين بالغاز حلاً وحيداً لأزمات لبنان، والمتعشمين بالاتفاق النووي الإيراني.. إلا أن ذلك يبقى في باب التنجيم الاستراتيجي والسحر الأسود الاقتصادي، وقراءة في أكف عفاريت ساسة تمرسوا في تشريع أبواب لبنان ونوافذه أحياناً على مَنْ الخارج وسلواه، وغالباً على ناره وكبريته.

Print Friendly, PDF & Email
منير يونس

صحافي وكاتب لبناني

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  حرب الأسعار بين روسيا والسعودية... من الرابح؟