صارت حكمة متكررة قائلة بأن دول مجموعة السبع كانت في عام 1991 تنتج ما نسبته 66% من مجمل الناتج العالمي والآن تنتج ما لا يزيد نسبته عن 44%. مجموعة السبع هي العنوان البديل لمجوعة الدول الغربية الكبرى، وهي التي تفضل تسميتها بالدول الديموقراطية تمييزا لها عن الدول الكبرى التي تحكمها أنظمة حكم أوتوقراطية. حقيقة الأمر هي أن هذه الدول تواجه ما هو أكثر من مجرد تراجع في نسبة ما تنتج إلى الناتج العالمي. هي تواجه المدلولات السياسية والمعنوية والأيديولوجية لتراجع هذه النسبة، وأثرها على خريطة توزيع النفوذ والهيمنة والانحياز. جدير بنا أن نذكر أن بعض أسباب هذا التراجع يشترك فيه دول من خارج الغرب كالصين مثلا.
فمن الصين تصلنا مؤشرات عن تراجع في نسب النمو السنوي وما يمكن أن يعنيه هذا التراجع إذا لم يتدخل الحزب الشيوعي الصيني فورا ويعدل في بعض سياساته الاقتصادية والاجتماعية. إن أول وأخطر ضرر تسبب فيه هذا التراجع كان ما أصاب قطاع العمالة منذ أن بدأت نسب البطالة هناك ترتفع. هذه النسب في الصين تعني الكثير لأنها ترمز إلى الملايين وربما مئات الملايين. هناك في مراكز البحث من يقول إنه كان يمكن أن تكون نسبة الناتج الصيني إلى الناتج العالمي أعلى كثيرا لو أن الحزب تدخل بشكل أسرع وأقوى لوقف انهيار الشركات العملاقة العاملة في قطاعي المقاولات والتكنولوجيا، ولو أنه استخدم مرونة أعلى في تطبيق قيود الحصار والعزلة التي يفرضها على المدن والمقاطعات المصابة بوباء الكوفيد أو بغيره.
يحدث في أمريكا تطور لا يبتعد في آثاره المباشرة عن التطور في الصين برغم اختلاف الرؤى السياسية والأيديولوجية. إذ اكتشف الأمريكيون أن قطاع الشركات العملاقة، وبخاصة المنتجة للسلاح والتكنولوجيا والنفط، حقق نسب أرباح وصفها محللون اقتصاديون بالخرافية، مؤكدين أنها غير مسبوقة في التاريخ الاقتصادي الأمريكي. حدث هذا في ظل أزمة اقتصادية عالمية خانقة وزيادة مفاجئة وهائلة في عدد الفقراء في كل الدول بدون استثناء وتفاقم خطير في نقص المعروض من المواد الأساسية مثل الحبوب والأسمدة والزيوت. حدث أيضا بينما يعود الوباء يطل برأسه في كثير من المجتمعات.
***
أتصور، بعد انتباه طويل لتطورات الأزمة الأوكرانية وتركيز مناسب على آثارها الخارجية، أن المؤرخين وعلماء السياسة الذين سوف يؤرخون لهذه المرحلة المتأخرة من تاريخ النظام الدولي لن تفوت عليهم حقيقة أن روسيا، الدولة الكبرى والقطب في مرحلة سابقة من مراحل هذا النظام، ضربت نفسها ضربة عنيفة لأنها لم تُعد نفسها الإعداد المناسب حين قررت غزو أوكرانيا. لم تُقدّر رد فعل أمريكا التقدير الواجب، وربما بالغت في الاعتقاد بأن انقساما شديدا سوف يقع فورا في الاتحاد الأوروبي وفي الحلف الأطلسي. وقع الانقسام ولم يبدأ شديدا كما قدّرت روسيا، ولعله سوف يشتد في المستقبل القريب حين تجتمع القوى اليمينية الأوروبية على دعم روسيا على حساب الوحدة الأوروبية والعلاقات مع أمريكا. أظن أن كثيرين في هذا القطاع من الرأي العام يأملون في عودة الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، اعتقادا منهم أن المقاطعة الاقتصادية لروسيا يجب أن تتوقف تمهيدا لاستئناف روسيا علاقاتها الطيبة بالدول الأوروبية.
لا أبالغ في القول أنني لا أطمئن على استدامة سلم يعتمد على توازن الضعف. أمريكا تتراجع. الصين تتباطأ. أوروبا جاري إنهاكها. صارت مرتعبة ومرتبكة. روسيا تصرفت برعونة لأنها خافت على نفسها من خطر أشد لو استسلمت لزحف الناتو المتواصل لاحتلال مراكز أعصابها
***
لا يخفى علينا حال الانقسام، أو الانقسامات، داخل الولايات المتحدة ذاتها. وهو حال سابق بالتأكيد على حرب أوكرانيا ولكنه تفاقم في ظل الحرب والتغيرات الداخلية وبخاصة في قطاع الشركات والمصالح والاحتكارات الضخمة. يثير اهتمامنا بشكل خاص في التطورات الداخلية الأمريكية الانجرار المتسارع نحو وضع سياسي – اجتماعي تعود فيه قرارات المواطن الفرد لتقع تحت هيمنة مطلقة للسلطة التنفيذية. نشهد بكل الإثارة المصاحبة، وكما كتب الكاتب السياسي مارك دانر عن التطور الملحوظ في مجال التشريعات نحو إعطاء الحكومة المحلية في الولايات والحكومة الفدرالية حق التدخل في القرارات الفردية للمواطنين حتى أشدها خصوصية وشخصية باستثناء القرارات المتعلقة بشراء السلاح. إن تحقيق هذا الأمر يتطلب زيادة في عدد النواب والشيوخ في الكونجرس في الانتخابات المنتظر إجراؤها في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، وإذا تحقق ذلك يبقى وصول الرئيس دونالد ترامب للرئاسة أمرا ليس مستحيلا خاصة إذا وضعنا في الاعتبار الاستياء العام في قطاعات واسعة من الرأي العام الأمريكي من أداء الديموقراطيين وبخاصة رئيسهم جو بادين ومستشاريه، والتطورات السياسية الأخيرة في كثير من دول أوروبا وبخاصة ألمانيا وفرنسا ودول البلقان وإيطاليا والمجر، والميل العام في كثير من دول العالم للقبول بسلطات حكم شعبوية ويمينية ومهيمنة على حياة الفرد، ليس فقط حياته السياسية بل وتفاصيل حياته اليومية والشخصية. أستطيع أن أضيف ببعض الحذر حالات بازغة تشير إلى فشل السياسة الخارجية الأمريكية في توحيد مواقف الحلفاء في آسيا وأمريكا اللاتينية من الحرب في أوكرانيا والفشل في تحقيق “عودة” أمريكية مناسبة إلى الشرق الأوسط بعد سنوات ثبت فيها فشل الخروج الكبير من المنطقة الذي اختاره ونفذه الديموقراطيون أنفسهم خلال ولاية الرئيس باراك أوباما. رأينا الخروج فاشلا وبتكلفة باهظة ونرى العودة مرتبكة وبتكلفة أيضا باهظة.
***
يهمنا قبل أي شيء آخر مسألة الانقسامات المتفاقمة في المجتمع الأمريكي وما يمكن أن تتسبب فيه على صعيد مستويات الانحدار العام في الحال الأمريكية. لا أقصد بالتأكيد إثارة الخوف والرهبة ولكني مثل غيري من المراقبين لتطور أوضاع أمريكا ألاحظ وجود الكثير من الرهبة والخوف في ثنايا النقاش العام وآخرها التعرض الصريح لاحتمال نشوب حرب أهلية إذا استمر تدهور حال الانقسامات. لن أستبعد قطعيا وقوع هذا الاحتمال، وأتمنى ألا يتحقق فالعيش في عالم يخلو من أمريكا قطبا دوليا مستقرا نعرفه وإن كرهنا الكثير من تصرفاته وعانينا من تجاوزاته وحروبه ضدنا، مجازفة في غير وقتها نحو المجهول.
أخشى على السلم الدولي من جراء تصرفات دول فشلت بعض قطاعاتها وكانت مدعاة فخرها وعزتها بين الأمم. أخشى عليه من تصرفات دول صارت تخضع للذل بعد العز وتعاني من قهر الشامتين ووحشية المحاصرين بالعقوبات أو الأحلاف. لا أبالغ في القول أنني لا أطمئن على استدامة سلم يعتمد على توازن الضعف. أمريكا تتراجع. الصين تتباطأ. أوروبا جاري إنهاكها. صارت مرتعبة ومرتبكة. روسيا تصرفت برعونة لأنها خافت على نفسها من خطر أشد لو استسلمت لزحف الناتو المتواصل لاحتلال مراكز أعصابها.
***
يقول شي جين بينج، الرئيس الصيني، ما معناه أنه يتمنى لو أن الغرب نظر إلى الصين بعيون أوروبية وليس بعيون أمريكية. عندنا، هل يساعد مثل هذا التمني في استعادة استقلالنا، وبمعنى أدق، استكمال استقلالنا. هل إذا نظر إلينا قادة أوروبا بعيون أوروبية وليس بعيون أمريكا يساعدنا في تحرير مناجمنا وثرواتنا المدفونة في أراضينا من جور شركاتهم الاستعمارية؟.
قراءتي للشخصية الصينية والأفريقية والآسيوية والأمريكية اللاتينية أقنعتني بأن الظلم الذي وقع على شعوب العالم الثالث ترك جروحا غائرة. الصين والفيليبين وغيرهما في آسيا لم يكفوا عن المطالبة بالاعتذار وربما التعويض عن جرائم ارتكبت في حق شعوبها. الشعوب لا تنسى وإن نسي أو تناسى أهل الحكم فيها. الجزائريون يطالبون وعناصر القوى المتمردة أو الثائرة في كل أفريقيا تطالب. وفي أمريكا الجنوبية رفض متجدد للهيمنة الأمريكية. الغضب على الأقطاب عارم وسائد في العالم الثالث ولكن في اتجاهات وأهداف مشتتة. الحال غير الحال في أوائل عهد الاستقلال الوطني. وقتها برزت قيادة من زعماء، أذكر منهم ثلاثة هم جواهر لال نهرو وجوزيف بروز تيتو وجمال عبد الناصر، استطاعوا بمساندة الصين الشعبية جمع الكلمة والنفاذ إلى قلب نظام القطبين وتحقيق هدفهم في دفع حركة الاستقلال وتأمين استقلال من يستقل. ثم انفرط عقدهم فضاعت بعض إنجازاتهم. ولم تقم لهم أو لخلفائهم قائمة أخرى إلى يومنا هذا.
***
يعود التكالب على أفريقيا دمويا وظالما كما التكالب الأول في نهاية القرن التاسع عشر. لن يعيد التاريخ نفسه ولكن البشر لا ينسون. أظن أن أكثرهم عددا عاد يرى الغرب بعيون أفريقية وآسيوية وليس بعيون زرقاء وخضراء. هنا ربما يتجدد الأمل في مستقبل يختلف.